‏حياتنا الريفية بين الماضي والحاضر بين جرجر البيادر والحاصدة الحديثة..

‏حياتنا الريفية بين الماضي والحاضر بين جرجر البيادر والحاصدة الحديثة..

‏في القرى الريفية التي كانت تُعتبر من القرى النائية بسبب انعدام وسائل الراحة والبنى التحتية وكافة الخدمات مثل الطرق الريفية وغيرها، كانت قريتنا تغفو في الربيع على أصوات نسمات الهواء وهي تخترق سنابل الحقول الزراعية القريبة من القرية. كنا نستيقظ منذ الصباح الباكر على صوت الديك، ومع وقع أقدام حادور المدينة الذي يتجه إلى الشارع العام ينتظر ذلك الباص الخشبي الذي يقله إلى مدينة الموصل. ومنذ أن يبدأ الصباح يتوجه الطلاب إلى مدارسهم، فيما نجد وقع أقدام الفلاحين متجهين إلى الحقول. كانت الحياة تسير بنبض الأرض، لا تسبقها آلة أو صوت ماكينة غير ذلك التركتر الأحمر والمكتوب عليه علامة شركة فورگسن، وتجدها قد تغيرت ألوانها بسبب أشعة الشمس الحارة في الصيف…
‏كان الموسم رغم التعب الذي يرافقه إلا أن الأمطار الوفيرة تحوله إلى موسم فرح بربيعه ومع أيام الحصاد… أيام الخير والبركة…
‏، وكان “جرجر البيادر” حدثًا سنويًا يجمع الأهل والجيران، فيتعاونون فيما بينهم على سحق المحصول وفصل الحبوب عن السنابل، وكذلك على عملية النقل والتذرية. والمقصود هنا تلك الآلة اليدوية المسماة المذراة، المصنوعة من الحديد أو الخشب، والتي تُستخدم لتصفية الحبوب من القش المتبقي عن طريق رفعها في الهواء. وكانت كل حبة قمح تمر بين الأيادي يباركها الله بدعاء أولئك الرجال الذين صدقوا مع زمانهم بنياتهم المخلصة…
‏ذلك الماضي الجميل الذي عرفنا فيه طيبة أهله وكرمهم وعزة أنفسهم، رغم قساوته وظروفه المعيشية الصعبة، إلا أنه يحمل طعمًا خاصًا للعيش، فيه بركة الوقت، وصدق النوايا، وعرق الجبين، وتلك الأيادي المباركة لربات البيوت التي تعجن الخبز الطازج وتخبزه في تنور الطين الذي يمنحه نكهة خاصة…
‏أما اليوم، فقد جاءت “الحاصدة الحديثة”، تجرّ خلفها سلالًا من سيقان الحنطة بسرعة ودقة وراحة. سائقها يحصد الحقول وجهاز التكييف البارد فوقه وأمامه ثلاجة العصائر والمشروبات الغازية، ومع كل وسائل الراحة فيها، إلا أنها سحبت معها بساط الحكايات واللمّات والمواويل الريفية وأغاني الحصاد وحكايات العجائز. أصبحت الأرض تُحصد في ساعات معدودة بعد أن كانت تستغرق أيامًا، ويستغرق موسم الحصاد أسابيع وربما شهورًا. لقد اختفى من المشهد صوت “الجرجر” وأهازيج النساء ونداء الصغار حول البيدر وألعابهم البدائية الجميلة.
‏لا شك أن التقدم التكنولوجي اليوم وفّر الجهد، لكنه أيضًا سرق من الذاكرة الريفية شيئًا من روحها الجميلة. لم تعد تلك القرية كما كانت في طفولتنا وأحلامنا في بيوتنا الطينية، ولا المواسم كما عهدناها وفيضانات الوديان في موسم الشتاء والربيع. أصبح الفلاح في يومنا الحاضر يحمل هاتفًا بيد، ومفتاح حاصدة في اليد الأخرى، وقد افتقد كليًا نداء تلك الأم وهي تصيح عليه من فوق السطح:
‏”غدانا على البيادر يا وليدي!”
‏بين الماضي والحاضر… لا نقول أيهما الأفضل، فلكل زمن جماله وتحدياته، لكن الحنين لا يرحم، والذاكرة لا تمحو بسهولة صوت “الجرجر” وهو يشق صمت العصر الذهبي للحياة الريفية. إنها ذكريات جميلة باقية في عقولنا مهما تطورت الحياة ومهما عشناها مع وسائل الراحة الموجودة، لكنها تقتلنا في داخلنا لأنها الحنان المتجذر والحنين إلى ذلك الماضي القريب الذي ترك فينا كل شيء، ورغم قساوته إلا أنه جميل بكل معاني الجمال وكل ما تعنيه جماليات الطبيعة…

أحدث المقالات

أحدث المقالات