شهد العالم منذ اندلاع الحرب العالمية الأولى، ارتكاب العديد من الجرائم والإبادات الجماعية؛ ما دفع المجتمع الدولي للعمل على إنشاء محاكم دولية لمحاكمة الأشخاص الذين يُعتقد بأنهم إرتكبوا جرائم دولية، حتى تَلِجَ إلى مجتمعٍ دوليٍ يتمتعُ بالسلمِ والأمن الدوليين. وقد كان ذلك مترجماً على أرض الواقع في العقود الفائتة، تمثل بإنشاء محاكم دولية اعتبرت النواة الأولى التي تختص بالتحقيق ومعاقبة المجرمين الدوليين؛ وحصل ذلك بإنشاء محاكم للتحقيق في رواندا ويوغسلافيا.
بعد تلك المحاكم الدولية الآنية، كان لا بد للمجتمع الدولي المتمثل بالأمم المتحدة أن يجد كياناً قضائياً دولياً ودائماً لمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية؛ فستولد محاكم دولية دائمة تقوم على أساس التكامل بين القانون الدولي والقوانين الوطنية في بلدان العالم، خصوصاً أن المحاكم الوطنية كانت بعيدة ربما عن معاقبة المجرمين الدوليين أو تتغاضى عنهم لأسباب كثيرة.
تشكلت نواة المحكمة الجنائية الدولية فيما يعرف بنظام روما الأساسي الذي أُعتمد في روما عام 1998، الذي سن القوانين والتشريعات التي من شأنها ملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية في العالم. وفي هذه المرحلة تشكل ما أصبح يُعرف بالمحكمة الجنائية الدولية التي أُنشأت عام 2002، ومقرها مدينة لاهاي الهولندية، التي تحتوي على عدد من المكونات أي المحاكم والقوانين المترابطة والدائمة، التي تتفاعل مع بعضها لتقوم بوظيفة محددة، وهي محاكمة المجرمين الدوليين، عندما تكون السلطات المحلية أو الوطنية غير قادرة أو غير راغبة بمقاضاة مرتكبي الجرائم الإنسانية.
إن منظومة العدالة الدولية قد لا تعمل بالشكل المطلوب، والقيام بمهامها على أكمل وجه، لكنها تبقى منظومة كاملة ومترابطة تحكمها قوانين وضعتها لنفسها لتحقيق السلم الدولي، رغم الانتقادات الواسعة التي وُجهت إليها بأنها لم تحقق ما كان ينبغي أن تحققه لأسباب كثيرة، منها أنها خاضعة لقرارات مجلس الأمن الدولي الذي تسيطر عليه الدول الخمس الكبرى دائمة العضوية فيه وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تؤيد مثل هذه المحاكم في حال كانت قراراتها تهدد محاكمة جنرالاتها وجنودها الذين تحوم حولهم شبهات بإرتكابِ جرائمَ دولية.
عملت المحاكم الدولية على التحقيق في جرائم ضد الانسانية في كثيرٍ من الأقاليم، كان أكثرها في افريقيا، منها الكونغو وليبيا وساحل العاج والسودان ودار فور ومالي، ما جعلها محط انتقادٍ من قبل الكثيرين، واتهامها بحصر عملها في بقعة جغرافية واحدة، ناهيك عن اتهامها بعدم الاستقلالية في قراراتها، بسبب تدخل مجلس الأمن في صلاحياتها بموجب بعض المواد القانونية في نظام روما المؤسس للمحكمة الدولية، واستغلال هذه القوانين لمصلحة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن كما ذكرنا آنفاً؛ لذلك وقعت منظومة العدالة الدولية برمتها في مستنقع الانتقادات بعدم حياديتها، وانخراطها في صراع المصالح الدولية، ودخلت في مربع التأثير السياسي عليها، رغم تحقيقها بعض الإنجازات القضائية ضد سياسيين كبار كالرئيس الصربي السابق سلوبودان ميلوسوفيتش، والرئيس الليبيري السابق شارل تايلور المتهم بمسؤوليته في اندلاع حربٍ أهليةٍ في سيراليون.
التعاون السياسي بين الدول قد يؤدي إلى تحقيق العدالة الدولية، وقد يفشل في قضايا كثيرة بسبب صراع المصالح والقوى الدولية، خصوصاً أن النظام العالمي اليوم هو أحادي القطبية؛ فعلى سبيل المثال عندما أصبح الحديث يُثار ضد الولايات المتحدة من قبل المحاكم الدولية بشبهات ارتكابها جرائم ضد الانسانية في افغانستان، فرض الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب عقوبات على قضاة محكمة الجنايات الدولية، ناهيك عن التهديدات المباشرة للمحاكم الدولية، ووصفها بعدم امتلاكها أي شرعية بما تقوم به.
إن مجلس الأمن الدولي المنوط به إقرار إنشاء المحاكم الدولية، هو هيئة سياسية وليست قانونية، ولكن صلاحياته بموجب ميثاق روما، أعطته الحق بممارسة ما تمليه عليه مصالح الدول دائمة العضوية فيه؛ لذلك فإن استخدام حق الفيتو ضد أي قرار من شأنه محاكمة ومعاقبة مرتكبي الجرائم الدولية، هو بمثابة تقنين لعمل المحاكم الدولية؛ إضافةً إلى اتهام مجلس الأمن بانتقاء من يجب محاسبتهم عن جرائمهم الدولية لحسابات ومصالح متبادلة. لذلك كان يجب النظر بتقنين صلاحيات مجلس الأمن وليس المحاكم الدولية كما هو الوضع الراهن بالنسبةِ لآراء الكثيرين، وما زال هذا مطلب المؤسسات الحقوقية المؤيدة للعدالة الدولية حول العالم. ولعل فشل المحكمة الدولية بمحاكمة من أُصدرت بحقهم مذكرات توقيف حول العالم، أدى إلى سعي بعض الدول الأطراف للإنسحاب من نظام المحكمة الدولية، باعتبار ما يجري بداية إخفاق للمحكمة لعدم قدرتها على مواجهة الأوضاع الدولية والمصالح المشتركة بين الدول خصوصاً الكبرى منها، ولعدم امتلاكها قوة تنفيذية لتنفيذ قراراتها؛ ناهيك عن بروز أصوات حقوقية كثيرة تنادي بأن يكون دور مجلس الأمن الدولي في تحريك الدعوى القضائية ضد أي جريمة أو قضية في أضيق الحدود.
كثيرةٌ هي المحاكم الدولية المختصة بمعاقبة مرتكبي الجرائم الدولية، منها من يخضع تحت مظلة الأمم المتحدة، ومنها خارج تلك المظلة، لكن المعضلة الحقيقية في منظومة العدالة الدولية تكمن حسب خبراء قانونيين ومؤسسات حقوقية، تكمن في إصلاح هيئة الأمم المتحدة المنبثق منها مجلس الأمن، الذي له صلاحيات تشكيل المحاكم الدولية، وتفصيل القضايا الدولية حسب مقاسه ومصالحه. أي كما ذكرنا آنفاً يُقصد بذلك بتقنين صلاحيات مجلس الأمن، والحد من تدخلاته في عمل المحاكم الدولية.
إن منظومة العدالة الدولية، إذا ما تفحصنا ما يجري على أرض الواقع من افلات المجرمين من العقاب، نجد أن هذه المنظومة غارقة في المجهول، وأصبح يُنظر أليها بأنها منظومة شكلية لا أكثر بسبب عدم امتلاكها لقوة تنفيذ، ما أدى في نهاية المطاف إلى عدم احترام قواعد ومبادئ القانون الدولي من قبل بعض الدول.
يجب أن تكون منظومة العدالة الدولية متكاملة ومترابطة ما بين المحاكم الدولية، والمحاكم الوطنية، رغم الشكوك حول مدى نجاعتها في تحقيق السلم والأمن الدوليين بمحاسبة مرتكبي الجرائم الدولية. في نهاية المطاف فإن منظومة العدالة الدولية قد لا تكون منظومة مثالية، واحتمالية تسييس هذه المنظومة وارد في بعض القضايا الدولية، لذلك فإن عمل هذه المنظومة قد يكونُ نسبياً؛ ليستمر النضال من أجل إيجاد منظومة للعدالة الدولية لا تخضع لأي تأثيرٍ خارجي، وتتمتع بالاستقلالية التامة.