ابتداءً؛ أرى بأن كلام السيد كمال الحيدري الذي ينص على جواز التعبد بجميع المذاهب والاتجاهات الفكرية الإسلامية والدينية؛ كما ورد في مقطع الفيديو؛ يمثل جوهر فلسفة التعددية الدينية (Religious pluralism )، ونسبية الحقيقة الدينية، وتعدد القراءات الدينية؛ بمنهجيتها المعرفية الغربية التي ظهرت بعد عصر النهضة الاوربية، و التي بلورها ونظّر لها الفيلسوف والثيولوجي الانجليزي المعاصر “جون هيك”؛ مستنداً الى آراء من سبقوه من الفلاسفة الأوربيين.
وهو أيضاً موضوع قضية كلامية اسلامية موروثة عمرها مئات السنين. وقد قارب المفكرون والمثقفون الإيرانيون الجدد قضية التعددية الدينية بمزيد من العمق والشرح خلال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الميلادي الماضي؛ عند تصاعد حمى الجدل الفكري الواسع في الساحة الفكرية الإيرانية حول بحوث فلسفة الدين والكلام الجديد، وحاولوا التوليف بينها وبين الموروث الكلامي الإسلامي، واسقطوا نتائجها على الواقع الفكري السياسي المعاصر. وفي المقابل كان للرافضين لفلسفة التعددية موقفهم الفكري والعقدي العميق أيضاً. وقد عقدت لهذا الغرض مئات الندوات والمؤتمرات في قم وطهران وغيرهما من الحواضر العلمية الإيرانية، وصدرت آلاف الكتب والدراسات. وكان من أبرز الأسماء التي ظهرت في هذه المعركة: عبد الكريم سروش ومحمد مجتهد شبستري ومحسن كديور ومصطفى ملكيان وعبد الله جوادي املي وصادق لاريجاني وجعفر سبحاني وأحد قراملكي. ولعل من أشهر المصطلحات التي ظهرت في تلك الفترة في موضوع التعددية الدينية هو مصطلح “الصراطات المستقيمة” الذي نحته المفكر الإيراني المعارض الدكتور سروش، ومضمونه أن صراط الله المستقيم واحد، ولكن القراءات البشرية المتعددة لهذا الصراط تجعل لكل قراءة صراطاً متبايناً عن صراط القراءة الأخرى، ولذلك فإن المنظور البشري ينطوي على صراطات مستقيمة متعددة، وليس صراطاً مستقيماً واحداً.
و أخطر ما في منهجية التعددية الدينية في مفهومها الغربي:
1- عدم نسخ الشرائع والأديان السماوية؛ أي أن الإسلام ليس خاتم الأديان، ولم تنسخ شريعته الشرائع السماوية التي سبقتها؛ فكل الأديان السماوية متساوية في الحجية، وأنها مجرد قراءات لحقيقة واحدة؛ في زمان واحد ومكان واحد.
2- المساواة الإصطلاحية بين الأديان السماوية والأديان الارضية؛ فالإلحاد دين، والشيوعية دين، والنازية دين، حالها حال البوذية والزرادشتية والنصرانية والإسلام.
٣- صحة التعبد بكل أنواع الآلهة؛ لأن الإله هو صناعة التصورات الذهنية والمنظومات الفكرية البشرية، وهو نتاج جداليات ايديولوجية انسانية؛ رغم استناد كنه الإله وصفاته الى نصوص دينية ( الوحي في الاديان السماوية)؛ أي أن الإنسان يستطيع أن يعبد أي إله يمكن أن يصنعه ذهنه؛ بناءً على فهمه وقراءته للنصوص الدينية التي يؤمن بها، أو بناء على تجربته الإيمانية الشخصية.
وبالتالي؛ فإن التعددية الدينية لاتعني تعدد الطرق للوصول الى الله الذي هو بعدد أنفاس الخلائق؛ بل هو تعدد (الله)؛ الذي يتعدد بعدد أنفاس الخلائق؛ فلكل مخلوق إله صنعه في ذهنه.
وبحكم وجود السيد كمال الحيدري في حاضرة قم العلمية، وعلى تماس مباشر مع المرجل الفكري الإيراني المستعر على مدار الساعة، وبحكم كونه قارئاً جيداً للفكر الغربي ولموروث الكلام الاسلامي؛ فإنه يقتبس ـ غالباً ـ نظريات فقهية وكلامية وفلسفية مطروحة بكثرة في التراث الإسلامي وفي النتاج الفقهي والكلامي والفلسفي والفكري الإيراني المعاصر، وفي النتاج الفلسفي الغربي؛ ليوظفها في مباحثه. وبالتالي لم يأت السيد كمال الحيدري في مقولته بشأن ((صحة جميع الأديان والمذاهب)) بمنهج فلسفي أو كلامي جديد أو رأي مميز؛ بل هو ترجمة لمقولات “هيك” و “سروش”؛ أي أنه ليس تجديداً دينياً أو إصلاحاً فكرياً؛ بل عودةٌ الى مقولات قديمة أو رجوعٌ الى مقولات مفصّلة على مقاسات الإجتماع الديني الغربي.
و قد يُفهم من كلام السيد كمال الحيدري أنه يعتقد شخصياً بصحة جميع الأديان السماوية والأرضية والمذاهب الإسلامية، وبجواز تعبد جميع البشر و المسلمين بأي دين و مذهب متى شاءوا ورغبوا؛ سواء كان ذلك عن قناعة وبرهان أو مجرد رغبة وميل نفسي؛ بالنظر لكونها
صحيحة جميعاً في الزمان نفسه وفي حكم الموضوع نفسه، وبأن الإنسان يستطيع التنقل بين الأديان والمذاهب والأفكار وفقاً لرغبته، وهو عمل جائز وصحيح ومقبول عند الله تعالى، وينبغي أن يكون مقبولاً عند السلطة الدينية الإسلامية وعند الدولة التي تحكمها. وحين لايكون هناك أي معني لـ “الإرتداد” كموضوع لحكم شرعي، أو “الإستبصار” موضوع للتحول المذهبي.
ولا أعتقد أن السيد الحيدري يقصد معنى صحة جميع المذاهب والأديان عنده؛ بل أنه يفتي بصحة أتِّباع الأديان والمذاهب الآخرى بناءً على قناعات أتباعها بالأدلة والبراهين، وليس بناء على قناعاته هو (أي: السيد الحيدري) بهذه الأدلة والبراهين؛ وإلّا لو كان يعتقد بصحة أدلتها جميعاً في آن واحد، وأن التعبد بأي منها مبرء للذمة بناءً على تساويها في الصحة؛ لتحوّل هو شخصياً الى التسنن أو النصرانية أو البوذية. وسينطوي على هذا الإعتقاد تناقض منطقي؛ إذ يمتنع أن يكون الدليل صحيحاً وخاطئاً في الوقت نفسه من زاوية النظر الواحدة.
السيد الحيدري يتحدث هنا من زاوية نظر الآخر المختلف دينياً ومذهبياً وفكرياً، والذي لم يقتنع بأدلة الشيعة، وليس من زاوية قناعاته هو. ولعله يريد القول: أنا اقتنعت بأدلة ديني ومذهبي، وغيري اقتنع بغيرها؛ فكلانا على حق، وانا اقتنعت بدلالات الدليل الشرعي على حكم ما، وغيري دلّه الدليل الى حكم مختلف؛ فكلانا على حق، ويجوز لنا التبعد بالحكم الشرعي الذي توصلت اليه قناعات كل منّا. فالسني على حق من وجهة نظره هو، وهذا حجة عليه أمام الله، وهذه الحجة مقترنة بالحق من وجهة نظره كسني، وليس من وجهة نظر الشيعي؛ وإلّا لتحول الشيعي حينها الى سني لو كان يعتقد بصحة أدلة السني. والمنطلق هنا انعكاس حجية الدليل على شكل التكليف. وبالتالي يكون تكليف الجميع جائزاً؛ وأن تعددت أشكال التكليف.
وكان حرياً بالسيد الحيدري تفكيك زوايا النظر بوضوح، وأن يبيِّن بدقة بأن صحة اعتناق الإمامي لعقيدته وتعبّده بمذهبه؛ هي نتيجة قناعته بأدلة العقيدة الشيعية والمذهب الإمامي، و بخطإ الفرق والمذاهب الأخرى، ولايصح عندها أن يتعبّد بأي دين أو مذهب
آخر. وهكذا بالنسبة لأتباع المذاهب الأخرى؛ فإنه لايجوز لهم التبعد بالمذهب الإمامي؛ لطالما لم يوصلهم الدليل الى ذلك.
وفضلاً عن الإبهام في الطرح؛ فإن السيد الحيدري عرض النتيجة بأسلوب صادم قبل ان يطرح المقدمات المنهجية والموضوعية. وإذا يرى السيد الحيدري بأن طرح مثل هذه الموضوعات في الحلقات العلمية الضيقة العالية المستوى؛ لا غبار عليه؛ فإن هذا المسوغ غير مقبول أيضاً؛ لأن مقولاته المخالفة للسائد والمشهور؛ تنتشر بسرعة ـ غالباً ـ في مواقع الانترنيت والصحافة ووسائل التواصل الإجتماعي، وتُستثمر فكرياً وسياسياُ؛ لمواجهة حجة المتدينين وإضعافهم؛ وهو مايتسبب في افتتان اجتماعي خطير.
التفسير النخبوي لفتوى السيد الحيدري الصادمة؛ لايلغي خطورة كلامه على الوحدة المجتمعية، وكونه يزعزع ثقة الشباب بعقيدتهم ومذهبهم، ويفتح الأبواب للانفلات. كان يمكن تقبل هذا الكلام من مثقف أو مفكر إسلامي؛ في إطار مناقشة مفهوم التعددية الدينية؛ ولكن أن يصدر من مرجع ديني يفترض أن يكون له مقلدون يلتزمون بفتاواه؛ فهو مستغرب؛ فكيف ينسجم لزوم رجوع مقلديه اليه مع جواز تعبدهم بفتاوى غيره؛ وإن كانوا من مذاهب أخرى؟!