تم افتتاح تمثال بوشكين بموسكو في 6 حزيران/ يونيو 1880, وهو التمثال الذي لا يزال شاخصا في قلب موسكو لحد الان ,وكان هذا الحدث كبيرا في تاريخ روسيا وادبها , خصوصا ان تنفيذه قد تعثر كثيرا في حينه, ولا مجال هنا للتوقف عند هذه النقطة . ومن الطبيعي جدا ان يحتفل الادباء الروس بتمثال بوشكين – رمز الادب في روسيا , وقد اقامت جمعية محبي الادب الروسي احتفالية كبرى بهذه المناسبة في 8 حزيران/ يونيو, شارك فيها ادباء روسيا الكبار , والقى دستويفسكي في تلك الاحتفالية خطابا شهيرا دخل في تاريخ مسيرة الادب الروسي لما تضمنه من تحليل لنتاجات بوشكين ومكانته واهميته في الادب الروسي بشكل خاص, والفكر الروسي بشكل عام. ومن الغريب ان يصبح هذا الخطاب –واقعيا- آخر نشاط ادبي وفكري لدستويفسكي , اذ انه نشره في كتابه الدوري الشهري الموسوم ( يوميات كاتب ) للسنة الثالثة,والذي صدر في شهر آب/ اوغسطس عام 1880,وقد وعد دستويفسكي القراء ان يصدر الجزء اللاحق لهذه اليوميات عام 1881 (اذا سمحت صحتي بذلك) , ولكن المنية عاجلته, اذ انه توفي في شباط / فبراير من عام 1881. هذا وقد ضمت المؤلفات الكاملة لاعمال دستويفسكي هذا الخطاب في الجزء السادس والعشرين (لينينغراد 1984) من صفحة 129 الى صفحة 149. يشير معظم المتخصصين في ادب دستويفسكي الى ان هذا الخطاب هو في الواقع وصية دستويفسكي الادبية والفكرية,اذ انه لخٌص فيه جوهر مفاهيمه الفلسفية بشأن الادب والتاريخ وحدد موقفه تجاه التيارات الفلسفية والفكرية التي كانت سائدة في روسيا آنذاك. وقد كتب دستويفسكي في (يوميات كاتب) مقدمة توضيحية للخطاب, اسهب فيها بالحديث عن بوشكين ومكانته في تاريخ الادب والفكر الروسي,وتوقف تفصيلا عند اربع نقاط.النقطة الاولى , وهي الاساسية, تشير الى ان بوشكين هو اول من حدد الظواهر المريضة للمجتمع الروسي ومثقفيه بالذات ( المنعزلين تاريخيا عن تربة المجتمع والمتعالين على الشعب) كما اسماهم دستويفسكي , ويؤكد ان بوشكين هو اول من اشار الى هذا الجانب السلبي , ويعتبر بطل رواية بوشكين الشعرية المشهورة ( يفغيني اونيغين ) اي يفغيني نفسه نموذجا لهذا الطراز من المثقفين , الذي خلق من بعده ابطالا يشبهونه في هذا الاتجاه , مثل بيجورين عند ليرمنتوف (بطل من هذا الزمان) وجيجيكوف عند غوغول ( الارواح الميتة) ورودين عند تورغينيف (رودين) وبولكونسكي عند تولستوي ( الحرب والسلم). ويتناول دستويفسكي في النقطة الثانية بمقدمته تلك عبقرية بوشكين الذي حدد مرض مجتمعه , ولكنه حدد في الوقت نفسه طريقة الخلاص والتعافي من هذا المرض , وذلك برسمه وتصويره للبطل النموذجي للجمال الروسي المنطلق من الروح الروسية, ويتمثل هذا البطل ويتجسد في تاتيانا لارينا- بطلة رواية يفغيني اونيغين نفسها, هذه المرأة الروسية البسيطة التي حافظت على نفسها من الكذب والرياء , فهي التي قالت لاونيغين الحقيقة عندما احبته ,وهي التي رفضت حبه في نهاية الرواية ليس لانها لم تعد تحبه وانما انطلاقا من الحفاظ على النقاء الروحي لها , لانها تريد ان تبقى مخلصة لزوجها.ان دستويفسكي يرى في هذه الشخصية تجسيدا للجمال بمعناه الفلسفي ,تجسيدا يعبر خير تعبير عن الانسان الروسي وروحه . لقد كان دستويفسكي يؤكد دائما على مفهوم الجمال الفلسفي , وهناك قول معروف له في هذا المجال وهو – (الجمال ينقذ العالم ). وينتقل الكاتب في مقدمته تلك الى النقطة الثالثة, حيث يتوقف طويلا عند صفة يتميز بها بوشكين –في رأيه- الا وهي التعاطف الانساني مع الاخرين بغض النظر عن الانتماء القومي لهم , ويعتقد دستويفسكي ان هذه الخاصية يتميز بها بوشكين بمفرده فقط ليس في الادب الروسي وحسب بل وحتى في الادب العالمي, ويؤكد بانه يعكس بذلك روح الشعب الروسي عموما. ومن هنا ينطلق بالحديث عن الشعب الروسي ويكرس النقطة الرابعة والاخيرة لخصائص هذا الشعب ومكانته بين الشعوب الاوربية الغربية, ويسهب بتحليل الصراع بين الفكرتين الكبيرتين اللتين كانتا سائدتين في روسيا وهما- النزعة السلافية والنزعة الغربية ,ولا يخفي دستويفسكي عواطفه مع النزعة الاولى.ومن الطريف ان نشير هناالى ان هذه المقدمة قد جاءت تقريبا بحجم الخطاب عن بوشكين . ويبتدأ الكاتب نص خطابه بالاستشهاد بما قاله غوغول عن بوشكين , وهي جملة شهيرة تقول – (ان بوشكين هو ظاهرة استثنائية ومن الممكن ايضا الوحيدة للروح الروسية) , ويضيف دستويفسكي الى هذه الجملة قائلا – (واضيف انا من عندي – وتنبؤية).
لا نعرف اذا كان هذا الخطاب مترجما الى لغتنا العربية , اذ اننا لم نعثر عليه عند بحثنا عنه, ولكن حتى لو كان مترجما فاننا نتمنى ان تسمح ظروفنا بترجمته, اذ ان كل ترجمة تعد اجتهادا ذاتيا لذلك المترجم , خصوصا ان هذا الخطاب يتضمن خلاصة مركّزة ورائعة لافكارالكاتب العملاق- دستويفسكي , والتي قد نتفق او لا نتفق معه , الا ان الاطلاع عليها ضروري جدا بلا شك.