تبقى الحقيقة العلمية تقول بأن تميّز أي أنجاز طبي او علمي أنما يقاس في مدى الفوائد المتحقّقة من هذا الأنجاز أو الأختراع بالنسبة لاحداث التغيير الأيجابي المتوقع في حياة الأنسان. ومثل هذا التميّز يبقى حريّا بالتالي بمنحه الجوائز تلو الجوائز. ولعل هذا الأمر يصّح أولا وقبل كل شيء على ما تقوم به الأكاديمية السويدية العلمية من منح جوائز نوبل في العلوم والطب رغم ما تثيره خياراتها أحيانا من نقاشات وجدل في الأوساط المهتمة بشأن نوبل وجائزته.
وقد منحت جائزة نوبل في الطب لهذا العام 2013 لثلاثة من العلماء المهتمين بشؤون الخلية البشرية، والتي تعتبر هي وحدة الحياة في الكائن البشري، حيث أن مجموع هذه الخلايا يكوّن نسيجا، ومجموعة الأنسجة تتشكّل فتكوّن عضوا بشريا يظّل جزءا من جهاز في جسم الأنسان كالجهاز التنفسي أو الهضمي وما ألى ذلك، حيث يبقى الأصل هو الخلية، أساس البناء والوظيفة عند الأحياء.
ولكي تقوم الخلية البشرية بوظيفتها على الوجه الأكمل والصحيح فلابد من تناسق تركيبي في داخلها وخارجها بما يضمن البيئة المناسبة لعملها. وهكذا كان لابد للخلية من نواة مثلا وتراكيب وراثية تضمن أداء الوظيفة ضمن التخصص المطلوب، أضافة الى تراكيب أخرى كلها تتجانس في العمل كمصنع حيوي لا ينال منه الخطأ. وعليه فلابد لهذا المصنع-الخلية من أنتاج مواده وجزيئاته ( من مواد هرمونية أو أنزيمية أو نواقل عصبية كيميائية) التي لابد لها من ناقل ينقلها الى المكان المطلوب وفي الوقت المناسب. وهو هذا النظام الناقل الخلوي ما ركزّت عليه الأكاديمية السويدية العلمية فمنحت جائزة نوبل في الطب لكل من راندي شيكمان وجيمس روثمان وتوماس سودهوف وذلك لجهودهم على مدى الثلاثين عاما الماضية في أكتشاف تفاصيل عمل نظام النقل والتوصيل بين الخلية وما تستهدفه من تأثير على خلايا أخرى وأنسجة فيساعد ذلك في الكشف عن أسباب أمراض مستعصية مزمنة مما يزيد في أحتمالية النجاح بأيجاد الدواء الشافي.
ولا أظن أن التفصيل ممّل في هذا الموضوع الشيّق. فاذا تصورنا أن الخلية/المصنع قد صنّعت مثلا هرمون الأنسولين الذي ينظّم مستوى السّكر في الدم فلابد من أرسال هذا الهرمون الى الدم، وهذا الأرسال أو النقل لجزيئات الهرمون لا يتم في فضاء الخلية الاّ من خلال جيوب خاصة تسمى وصفا ب “الحويصلات”. فجاء الأنجاز العلمي للثلاثة العلماء أصحاب نوبل لهذا العام ليكشف المبدأ الجزيئي الدقيق والذي يتحكم بنواقل هذه الجيوب أو الحويصلات وكيفية تحديد مساراتها الى مكاناتها المضبوطة، وفي الأوقات المناسبة الصحيحة دون تقديم أو تأخير. فقد أكتشف الباحث العالم راندي شيكمان (64 عاما عمرا) مجموعة من المورّثات أو الجينات والتي تحتاج أليها الخلية للتحّكم بنظام النقل الذي أشرت أليه. في حين أن العالم جيمس روثمان (62 عاما عمرا) كان قد تمكّن من أماطة الثام عن بروتينات تعمل لأتاحة المجال أمام الحويصلات لتلتئم وتتوحد مع أهدافها التي تبغي مما يسمح بأداء الوظيفة بالشكل المطلوب. وقد أكتشف رجل العلم الثالث ضمن هذه المجموعة العلمية توماس سودهوف (58 عمرا) كيف يمكن للحويصلات لأن تتنّبه لتحرير حمولاتها بدقة فائقة.
ومن خلال هذا الجهد المشترك يمكننا القول اليوم أننا على معرفة دقيقة والى حد كبير بنظام التوجيه المسؤول عن نقل وتحميل المواد الكيميائية الخلوية الجسمية. ومن المعروف أن اية أضطرابات في هذا النظام أنما ينتج عنها أمراض حادة أو مزمنة وخاصة منها ما يصيب الجهاز العصبي عند الأنسان فيؤدي الى المعاناة من أمراض عصبية معينة أو الأصابة بمرض السكر وأمراض أخرى قد تصيب النظام المناعي في الجسم. ثم أن الحويصلات الدقيقة التي أشرت أليها والمحاطة نفسها بغشاء خاص أنما تنقل الحمولات الخلوية لأيصالها الى أهدافها ومكاناتها المقصودة. وهذا العمل المهم يحّفز العصب على الفعل ويحّفز بدوره عملية الأيض الجسمي والأستفادة من مواد الحياة الأخرى في حالة الهرمونات.
ولكن كيف تعرف هذه الحويصلات متى والى أين تنقل حمولاتها؟..لقد أنتبه راندي شيكمان في السبعينيات من القرن الماضي للموضوع فقرّر دراسة الأساس الجيني لعملية تنظيم الخلية لنظام النقل والمواصلات داخلها، وذلك من خلال دراسة خلايا الخميرة كنموذج، وبذلك تعرّف على الأساس الجيني لنظام دقيق لمواصلات ونواقل الخلية البشرية. في حين أن روثمان كان قد أكتشف البروتين المعقد الذي يمكّن الحويصلات من الرسو في المكان المخصّص على غشاء الهدف والأتحاد معه بغية احداث التأثير.
وقد لوحظ أن قسما من الجينات المكتشفة الخاصة ببروتينات الخميرة أنما تتواجد مثلها في اللبائن مما يثير موضوعة أصل الأنواع ونشوء نظام المواصلات الخلوي وتطوّره بين المخلوقات.
أن أنجازات العلم والطب لن تكون وليدة أسابيع أو أشهر أو سنوات قليلة فقط من العمل والجهد أنما هو الأصرار على المواصلة بحثا لسنوات قد تطول أو تقصر، وتوفير مستلزمات هذا البحث من أموال وقوى بشرية مما يضمن تحقيق أنجازات غير مسبوقة تظل خالدة ما دامت الحياة على الأرض.