في أحدى مقالاتي السابقة والتي كانت بعنوان الاستبداد الصغير ، أشرت الى ظاهرة ثقافية تسود في مجتمعنا وهي الاهتمام بالظواهر بصيغتها النهائية الكبيرة دون الاهتمام بالمقدمات الصغيرة والتراكمات التاريخية التي تجمعت وانتجت تلك الظاهرة.
اليوم اردت ان اتناول ظاهرة النهب والسطو على اموال الآخرين سواء أكانوا افراداً او دولة . الفساد المستشري يدمر كيان الدولة بشكل منهجي ومستمر والكل يشكو ويتذمر من ذلك الفساد.
الفساد لم يعد محصوراً باحزاب او قادة سياسيين او قبليين ، بل يشترك فيه افراد من كل القطاعات ومن كل المستويات . موظفون في المؤسسات الصحية وفي البلديات ودوائر الطابو والبنوك والشرطة والجيش والاحوال المدنية والمرور والنفط والصناعة والزراعة الخ… لايكاد يوجد قطاع نظيف للأسف .
وهذا ما يتحدث عنه الإعلام وبعض السياسيين في لقاءات تلفزيونية وتصريحات وبالتالي لايحتاج الى اثباتات قد يطالبني بها البعض وبشكل مضحك.
السؤال هو: لماذا تتفشى هذه الظاهرة دون رادع ديني او اخلاقي او قانوني؟
سوف نعود الى التاريخ الحديث ونبدأ بما يعرف بفرهود اليهود الذي وقع في شهر حزيران من عام 1941 بعد الفوضى والتوتر الذي ساد بعد فشل حركة رشيد عالي الكيلاني .
وبموجب ماتوصلت اليه اللجنة التحقيقية الحكومية التي شكلت لهذا الغرض فأن معظم مرتكبي حوادث الاعتداء والقتل والنهب والسلب كانوا من الجنود وقد شاركهم لاحقاً وغض النظر عن فعلتهم افراد من الشرطة والانضباط العسكري اضافة الى بعض الاهالي والاعراب الذي شاركوهم ذلك نتيجة التشجيع والانفلات.
الغريب ان بعض الجيران والمعارف شاركوا في تلك الاعمال مع ان البعض تطوع لحماية عدد من العوائل اليهودية .
كانت عائلة جدي تسكن في منطقة ابو سيفين وكانوا شهودا على الاحداث ووفروا الحماية لعدد من اليهود .
المؤلم انه لا الطبقة السياسية شعرت بخطر هذه الاعمال التي شجعت اليهود على الهجرة لاسرائيل مع انهم عراقيون ولا الناس ارتدعوا بقيم الدين او الاخلاق او حقوق الانسان !!
بل ان عددا من الاغاني ظهرت تمجد ايام الفرهود وتتمنى عودته مثل اغنية:
( حلو الفرهود كون يصير يومية…) !!
ويذكر الدكتور سندرسن باشا طبيب العائلة المالكة في وقت الفرهود في مذكراته ، انه كان خارج بغداد وعند عودته الى بيته بالسيارة وقبل الوصول الى البيت لاحظ ان العشرات من الغوغاء يدخلون ويخرجون الى بيته وهم يحملون كل مقتنياته من أثاث وسجاد وملابس. ويذكر انه حزن بشكل خاص لانه شاهد مجموعة منهم يحملون ثلاجته التي تعمل بالنفط على رؤوسهم كما تحمل الجنازة. ويقول انهم سوف لن يستطيعوا تشغيلها ولذلك سوف تستخدم كدولاب فقط.
وحينها أمر سندرسن السائق بالابتعاد عن البيت خوفاً على حياته.
عملية النهب الثانية حصلت عند سقوط الحكم الملكي بانقلاب عام 1958 ، حيث هاجم الناس قصر الرحاب المتواضع الذي هو القصر الملكي ونهبوا كل مااستطاعوا .. بل ان جاراً لنا ( وكان يعمل مصوراً) كان يتباهى بانه انتزع قطعة من المرمر الاخضر من احد جدران القصر لانه وصل متأخراً ولم يحصل على شيء سوى هذه القطعة من المرمر. واستطعت بصعوبة القاء نظرة عليها حيث كنت طفلاً صغيراً ، وكانت بحجم كف اليد وكانت عائلته تتباهى بهذه الغنيمة وقائلين انها حجر ثمين وتحفظوا عليها بشدة !!
توقفت عمليات النهب لغاية نهاية السبعينيات عندما صدرت قرارات بترحيل العوائل ممن كان يعرف بالتبعية الايرانية . كانت اجهزة الامن تداهم المنازل وتخرج ساكنيها دون السماح لهم باصطحاب شيء من امتعتهم .
الذي يحز في النفس ان بعض الجيران أخذوا يسطون على المنازل الفارغة وينهبون مافيها قبل ان تأتي اجهزة الامن لتبيع الموجودات بالمزاد . كان معظم الجيران يتسابقون ويتنافسون لشراء الاشياء ويتحدثون عن ذلك باعتزاز باعتباره مكسباً.
لماذا لم يقاطعوا ذلك المزاد ؟ لماذا لم يستنكفوا عن المشاركة في ذلك العمل المخزي؟
الا توجد اعتبارات للجيرة والعشرة؟ هل كان النظام يجبرهم على حضور المزاد؟
بعد هذه المهزلة وقعت حرب ايران وبدأ مسلسل نهب المدن الايرانية كقصر شيرين والمحمرة وغيرها . وكذلك نهب السفن المحملة بالبضائع والغارقة في شط العرب من قبل بعض الضباط.
انتهت حرب ايران وجاء احتلال الكويت وهنا بدأت اضخم عملية نهب رسمي وشعبي حيث كان العديد من الناس يتحدثون عن مكاسبهم من الذهاب الى الكويت والاسعار البخسة للاشياء التي حصلوا عليها. مع انها اموال حرام ومغصوبة.
جاء الحصار وساء الوضع المعيشي وبدأت الرشوة والفساد تظهر بالتدريج ووصلت الى الاجهزة الامنية الحساسة حيث كانوا يصدرون جوازات سفر للاشخاص الممنوعين من السفر مقابل مليوني دينار. السرقات من الدوائر والشركات كانت شائعة.
المضحك اننا في وزارة التخطيط كنا نعاني من سرقات منتسبي شرطة النجدة الذي كان مركز اتصالاتهم في اعلى بناية وزارة التخطيط وكانوا يستخدمون نفس المصاعد التي نستخدمها حيث كانوا يمشطون مكاتبنا بعد نهاية الدوام ويأخذون حتى الاقلام والقرطاسية وادوات صنع الشاي ولم يكن الوزير يستطيع عمل شيء لمنعهم .
ذلك يذكرني بما حصل في المانيا بعد الحرب العالمية الاولى وانهيار العملة وسيادة الفقر حيث كان الموظف يقضي معظم وقته بالتفكير في مايمكن له سرقته من الدائرة لكي يبيعه مساءً في سوق تسمى حرفياً (سوق الحرامية)..
جاء الاحتلال الامريكي عام 2003 وحصلت اكبر عملية نهب للمؤسسات العامة وحتى الخاصة والبنوك والشركات ..وهذه كانت تحظى بتغطية اعلامية مناسبة ربما لتعميق الانكسار النفسي لدى الشعب العراقي عندما يرى سلوك ابناء جلدته المشين.
بعد ذلك حصل نوع من المأسسة لعمليات النهب وجرى توزيع الغنائم والاسلاب بين المنتصرين على الشعب العراقي !!! لقد تصرفوا بعقلية الغزاة في القرون الوسطى وقبائل ماقبل التاريخ ..انتصروا على الشعب العراقي وهزموه والآن لهم الحق بتقاسم ثروته..الذي يبعث على الاسى ان قطاعات واسعة من المجتمع اصبحت جزءً من عملية السلب والنهب بدل الوقوف بوجه الغزاة الغرباء وكما بينت ذلك في بداية المقالة .
الخلاصة : يبدو ان عقلية الغزو والنهب البدوية المتخلفة لازالت متغلغلة في الثقافة وفي اللاوعي لدى قطاع من المجتمع ..من يقرأ عن تاريخ القبائل في جزيرة العرب وكيف كانت تغير على بعضها البعض وتسلب وتغتصب النساء وتأخذهم سبايا يشعر بخجل وألم حقيقي.
ختاماً اود ان اقول بأن البعض قد يرى ذلك نشراً لغسيل قذر ومحرج ، وأقول لهؤلاء السادة يجب كشف الحقائق المؤلمة وادانتها لان ذلك اول خطوة على طريق العلاج.
كما أن الحديث عن الفساد لايعني ان المجتمع العراقي برمته كان مشتركاً او مباركاً لها .
العراق فيه الى جانب اللصوص اناس من انبل ماخلق الله واطيب ماخلق الله ولكن وجود عشرة بالمئة من الفاسدين يكفي لتشويه صورة المجتمع وتدمير القيم والمعايير.
منظمات المافيا نسبتها متواضعة في المجتمع لكنها تتحكم في كل شيء في بعض الدول او المدن. تتحكم في الاقتصاد والسياسة والقانون .