لا زال حادث انتحار الشاعر والكاتب المسرحي الروسي السوفيتي الشهير فلاديمير فلاديميروفتش ماياكوفسكي (1893- 1930) في الساعة الحادية عشرة من صباح يوم 14 /4 /0391 يثير التساؤلات والآراء المختلفة والمتضاربة وحتى المتناقضة حوله , رغم مرور كل هذه السنين على الحدث التراجيدي الرهيب هذا , والذي كان ضمن الموضوعات شبه الممنوعة او – كما يمكن لنا ان نقول الان – غير المرغوب الكلام عنها علنا بشكل او بآخر في الزمن السوفيتي آنذاك , وقد تصفحت قبل ايام ليس الا حوالي عشرين مصدرا باللغة الروسية حول هذا الموضوع يتناول فيها الباحثون هذا الحدث ويقومون بتحليله ويطرحون مختلف الاحتمالات والاجتهادات الذاتية والتفسيرات الخاصة حوله , وهو ما جعلني اقرر العودة الى هذا الموضوع القديم نسبيا – والمعروف للقراء العرب بشكل او بآخر – والكتابة عنه , اذ وجدت – مثلا – بحثا بعنوان ( الانتحار في نتاجات ماياكوفسكي ) يحاول فيه كاتب البحث ان يثبت ان ماياكوفسكي كان يفكر بالانتحار منذ زمن بعيد , لانه ( اي الباحث ) وجد في ثنايا قصائده فكرة الانتحار هذه , مؤكدا ان عملية الانتحار تولد تدريجيا في روح الانسان وعقله وليس رأسا او فوريا, ولهذا فان الباحث لاحق هذه الفكرة وتابعها في ثنايا وسطور نتاجات ماياكوفسكي وحتى ما بين سطورها و ظلالها , وهذه افكار تستحق ان نتوقف عندها وان نتأملها بعمق ( بغض النظر عن اتفاقنا او عدم اتفاقنا معها ) , خصوصا وان الرسالتين اللتين ابقاهما ماياكوفسكي عندما انتحر كانتا هادئتين جدا وسلستين وواضحتي المعالم ولا تشيران لا من قريب ولا من بعيد الى اي اضطراب نفسي او معاناة لهذا المبدع الكبير وهو يقدم على تنفيذ عملية الانتحار المرعبة و الرهيبة هذه . ان اهمية هذه النظرة الجديدة جدا ( والمنطقية ايضا الى حد
– ما ) لهذا الباحث الى مسألة انتحار ماياكوفسكي تمتلك حتى ابعادا سياسية , و تكمن هذه الابعاد في ان القوى المضادة لثورة اكتوبر البلشفية عام 1917 ترى , ان انتحار( شاعر الثورة الاشتراكية ) كما كان يطلق عليه البعض من نقاد الادب والباحثين , يعني انتحار تلك الثورة نفسها , اي نهايتها, اذ انهم يؤكدون , ان ماياكوفسكي قد فهم واستوعب تماما الخطأ الجسيم الذي ارتكبه بتأييده للثورة والالتزام العلني الصارخ والمطلق تجاهها , وبما انه لا يستطيع اعلان ذلك بشكل صريح في ذلك الزمن , وكذلك لا يرغب باللجوء الى بلد آخر خارج روسيا كما فعل بعض الادباء الروس الذين لم يتقبلوا الثورة عندها , وبالتالي لم يبق لديه اي خيار آخر سوى الانتحار , وان انتحاره ( وهو شاعر الثورة ويكاد ان يكون الناطق الرسمي باسمها في جبهة الفن ) يعني بداية العد التنازلي للثورة نفسها , اي ان عملية انتحاره تمتلك معاني سياسية محددة انتهت بانهيار دولة الثورة , اي الاتحاد السوفيتي , ولهذا فان ما يذهب اليه ذلك الباحث يلغي كليا هذه النظرة السياسية الشائعة ( وخصوصا في الاوساط الغربية المضادة للاتحاد السوفيتي ككيان سياسي وحتى في بعض الاوساط الروسية نفسها ) الى موضوع انتحار ماياكوفسكي .
وجدت ايضا – في ثنايا تلك البحوث والمقالات الحديثة عن انتحار ماياكوفسكي – ان التساؤل حوله لا زال حيويا , وان البعض يطرح ولحد الان سؤالا تم طرحه في حينه وتم غلقه في حينه ايضا , وهو – هل انتحار ماياكوفسكي كان انتحارا حقيقيا فعلا ام كان عملية قتل متعمدة غطٌوها بتسمية الانتحار ؟ خصوصا بعد ان تم طرح موضوع قتل الشاعر الروسي الكبير يسينين في وسائل الاعلام الروسية , وبالذات بعد المسلسل التلفزيوني الروسي حول يسينين وموته قبل عدة سنوات ليس الا , والذي أثار آنذاك ضجة كبيرة في المجتمع الروسي . وهذا يعني بالطبع ان بعض الاوساط الروسية لا زالت تظن , بل وتعتقد جازمة , ان ماياكوفسكي لم ينتحر ولا يمكن ان ينتحر , وان هناك من قتله متعمدا وحسب خطة مدروسة تم وضعها خصيصا للتخلص منه, واننا لا زلنا لا نعرف الحقيقة
بشان هذا الموضوع رغم مرور اكثر من ثمانين سنة على ذلك , وهذا يعني طبعا ان الموضوع سياسي بحت ويمتلك علاقة مباشرة بالثورة واجهزتها المخابراتية ومسيرتها , وبالتالي فانه يتناقض كليا مع الرأي الاول الذي أشرنا اليه أعلاه حول انتحار الثورة البلشفية ونهايتها , و اذكر اني سألت أحدى الروسيات مرة – هل تعتقدين ان ماياكوفسكي قد انتحر فعلا أم قتلوه , فأجابتني رأسا وبشكل قاطع – قتلوه طبعا لأن صوته كان مسموعا ومدوٌيا , ولم يكن من السهل اسكاته او الالتفاف حول رأيه , واضافت , انها على ثقة ان الوثائق والحقائق سيكشف التاريخ عنها يوما – ما لاحقا .
ووجدت في تلك المواضيع ايضا تكرارا لطرح القضية العاطفية لماياكوفسكي وازمته الروحية التي ربما أدٌت به الى الانتحار , تلك القضية التي تحدٌث عنها الاعلام الرسمي السوفيتي في حينه , عندما وقعت عملية الانتحار التراجيدية في الثلاثينات , ولكن بتفصيلات اكثر صراحة وجرأة مما كان يتناوله الاعلام آنذاك , مستخدمين تلك الحوارات التي نشرتها وسائل الاعلام الجماهيري الروسي الحديث مع تلك السيدات , اللواتي عاصرن ماياكوفسكي بشكل او بآخر , وكنٌ شاخصات في محيط حياته , ومن جملتهن بالطبع ليلي بريك ( تكتب بعض المصادر العربية اسمها – ليلا وهوليس دقيقا, اذ انها ليلي – بالياء وليس بالالف المقصورة مثل الاسم العربي المعروف ليلى ) , والتي اشار ماياكوفسكي في رسالته قبل الانتحار اليها كاول اسم جاء بعد كلمة ( عائلتي ) رغم انها كانت زوجة بريك رسميا وتحمل لقبه , وهي شقيقة الزا تريوليه – زوجة الشاعر الفرنسي الكبير لوي اراغون وبطلة دواوينه المشهورة ( مجنون الزا , عيون الزا…..), والثانية اسمها فيرونيكا بولونسكايا ( جاء اسمها في تلك الرسالة ايضا بعد شقيقاته ) – الممثلة المسرحية ذات ال 22 ربيعا , والتي كانت عند ماياكوفسكي وخرجت ذاهبة الى مسرح موسكو الفني للتدريب على احدى المسرحيات , وسمعت وهي في الممر صوت اطلاق النار في غرفته , وعادت وهي تصرخ … وهذا موضوع طويل ومتشابك و يحتاج الى مقالة خاصة به , اذ يرتبط بتفاصيل التحقيق الذي اجرته السلطات الرسمية في
حينه , ويرتبط ايضا بعدة تحقيقات صحفية قام بها العديد من الصحفيين الروس بعدئذ بحثا عن حقيقة انتحاره والملابسات التي احاطتها , مرورا بتلك المقابلات الصحفية التفصيلية مع معاصريه والمذكرات والذكريات التي كتبوها عنه وعن معاناته .
موضوع انتحار ماياكوفسكي – باختصار – لا زال مطروحا وبحيوية , ولا زال مفتوحا امام الباحثين , ولا زال ينتظر ذاك الذي سوف يكتشف اسراره ويعلنها امام العالم .