23 ديسمبر، 2024 2:37 ص

حول أكاذيب وتلفيقات هيرودوتس “أبو التاريخ” عن بابل ، وكيف شوّه الأغريق منجزات الطب العراقي القديم

حول أكاذيب وتلفيقات هيرودوتس “أبو التاريخ” عن بابل ، وكيف شوّه الأغريق منجزات الطب العراقي القديم

(القسم الثاني)
بعد اطلاعنا على المنجزات بل المعجزات الطبّية المذهلة للحضارات العراقية القديمة في القسم الأول من هذه المقالة ، لم تعد هناك ضرورة لتحجيم صورة الطب العراقي القديم الرائع المتطوّر من خلال تقرير (هيرودوت) – المؤرخ الإغريقي الذي يُلقب بـ “أبو التاريخ” – الذي يقول بأن المرضى في بابل كانوا يوضعون أمام أنظار العامة في الشورع لتثبيت آراء وملاحظات عابري السبيل والمسافرين عن مرضهم، لأن البابليين لا يملكون أطباء !!! وبذلك جعل الكثير والمهم عن الطب الرافديني غامضاً وخُرافياً ، مثلما طلع علينا بخرافة “البغاء المقدس” التي سيكون مجال تفنيدها كتاب آخر لنا.
ولو صدقنا كل ما يقوله هذا المؤرخ لاقتنعنا بأن الطب في حضارة وادي الرافدين كان متأخراً جداً عن الطب في وادي النيل. ولكن الحقيقة خلاف ذلك. فقد كان أقدم من ذُكر من الطب في مصر هو ((امحوتب)) وعاش سنة 2980ــ2900 ق.م ويقابل ((أوردكاليدينا)) في طب وادي الرافدين الذي عاش في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد..وان بردية (أدون سمث) في الجراحة (1660ق.م) وبردية (ايبرس) في الطب (1580ق.م) ، تقابلها في طب الرافدين لوحة (لكش) ولوحة (نيبو) اللتان يرجع عهدهما إلى نهاية الألف الثالث قبل الميلاد..وقد ثبت وجود الأطباء منذ أقدم العصور السومرية مثلما ثبت أن أوّل طبيب وأول وصفة وأول كتاب طبي وأول شعار للطب وأول مكتبة طبية وأول وأول وأول … إلخ ظهرت على أرض العراق كما ذكرنا ذلك في القسم الأول.
. كما أن اللغة الأكدية من ناحية أخرى هي اللغة السامية القديمة الوحيدة التي حوت الإسم أو الوصف (ASOU) أي (آسو) والتي تعني الطب والطبيب. وهذه الكلمة آتية من اللغة السومرية حيث A,SOU تعني “الذي يعرف الماء” هذا إلى جانب اصطلاحات متعددة أخرى ترمز إلى أشخاص ترتبط مهنهم بمهنة الطب أيضا وخاصة في معالجة الجانب النفسي من الأمراض مثل البارو baroo والأشيبو ashipo . وحسب قول المفكر الراحل الأستاذ جورج طرابيشي فقد استمرت كلمة الآسو في اللغة العربية حيث يُقال للطبيب (آسٍ) . أما (بارو) ــ العرّاف ــ و (إماتو) ــ المُعلّم الأستاذ ــ فقد آلت في العربية إلى (بارئ) [أو بارع] و(إمام) . نقول ذلك – والقول لطرابيشي – توكيدا للأصول القديمة للعربية ولما أصابته من تطور ، وذلك ضدا على تهمة (اللا تاريخية) و(اللا تطورية) التي يرمي (محمد عابد الجابري) اللغة العربية “الصحراوية” بها.
ولا يتردّد الطبيب والباحث الأثاري الفرنسي المعروف “جورج رو” صاحب كتاب “العراق القديم” في أن يُحمّل الإغريق جزءا من المسؤولية عن الصيت الذي طار عن البابليين بوصفهم شعباً من السَحَرة ، فـ ” الإغريق، الذين كانوا يعرفون “الكلدانيين” ويكنّون لهم الإعجاب من حيث هم أصحاب رُقى وصُنّاع طوالع فلكية ، أساؤوا إلى سمعتهم كثيراً . والواقع أنّ كلّ ما نعرفه عن سكان ما بين النهرين يشير إلى أنهم كانوا محبويّين بمعظم الصفات التي تميّز العلميين الأصلاء ، وفي مقدمتها الفضول النهم الذي كان يدفعهم إلى محاولة النفاذ إلى أسرار الماضي ، وإلى استجلاب الحيوانات والنباتات الغريبة إلى بلادهم، وإلى الإنشغاف بحركات الأفلك وخواص الأعداد …
وبفضل ما أوتوا من حسّ حاد بالملاحظة ؛ سجّلوا كتلة هائلة من المعطيات ، لا بهدف عملي بقدر ما للذّة العلم وكبريائه، وحقّقوا في بعض الميادين كشوفاً هامة. وأخيراً فإن رياضياتهم تُظهر إلى أي حدّ كانوا قادرين على التفكير المُجرّد، وإن يكن ما أعوزهم ، على ما يبدو ، هو روح التركيب” .
ومع أنّ طب البابليين لم يصب ما أصابته فلكياتهم ورياضياتهم من شهرة ، فإنّه يستحق وقفة قصيرة. فالوثائق والنصوص الطبّية التي تركها البابليون تتميز بخواص مُلفتة للنظر. ورغم أنّه، ككل طب قديم، ما كان ينفصل عن الطب النفسي والتعزيمي، لكن الطبيب (الآسو) لم يكن كاهناً ولا ساحراً ولا عرّافاً (بارو) ، بل كان مهنيّاً مُحترفاً يحصّل تعليمه العام في مدرسة الكَتَبة، ثم يتخصص في مهنته على يد معلّم أستاذ (إمانو). وقد برع ” الأُساة ” البابليون في تشخيص الأمراض وتصنيف أعراضها وربط بعضها بأسبابه الإتيولوجية . ورغم أن معالجاتهم وتدخلاتهم الجراحية كانت تتصف بطابع تجربي، إلّأ أنه لا مُراء في أنها كانت في الغالب “عقلانية” . ولقد أوصلو فن الطب “آسوتو” “إلى المستوى الذي بلغه في أوروبا قبل قرنين من الزمن”. أضف إلى ذلك أنه كانت لهم دراية بفكرة العدوى وتدابير الوقاية، كما تنم عن ذلك الرسالة المدهشة التالية الموجهة من الملك زمري – ليم ، الغائب عن العاصمة ماري ، إلى زوجته شبتو : “علمتُ أن السيدة نانام أصابها مرض. والحال أن صلاتها كثيرة بأهل القصر، وهي تلتقي، في جناحها الخاص، كثيرات من النساء. أصدري إذن أوامر صارمة كيلا يشرب أحد من الكأس التي تشرب منها، وكيلا يجلس أحد على المقعد الذي تجلس عليه، وكيلا يرقد أحد في السرير الذي ترقد فيه. ولتُمنع من التقاء كثيرات النساء في جناحها الخاص. فهذا الداء مُعدٍ (“مُشتأخذ”، من فعل “أخذو” أي التقط وامسك)”. ويُعتقد أنّ هذا الداء كان السفلس أو السيلان.
يمكننا القولُ أنّ العراقيين القدامى كانوا على بينة من نوعين من السحر ، الأول ذلك السحر المُضر المؤذي الذي يُمارس من قبل المشعوذين وقد حرّمته القوانين ، اما الثاني فهو السحر النافع ويُمارس من قبل رجال الدين أو ما يمكن أن نُطلق عليهم تسمية المُعزمين. وكانت ممارسته مقدسة وهدفه الحماية. على ان معرفة المرض وتشخيصه كانت تتم من قبل الطبيب ، ويُستدل على ذلك من خلال ورود التذييل القائل “بأنّ المريض لم يشفَ من قبل المُعزّم” او ” أمّا الساحر فله ان يعمل ما يشاء” . وباختصار فان للمعزم دورا كدور الطبيب النفساني في شفاء المرض. وعلى حدّ قول الأستاذ عبد اللطيف البدري فإن الطبيب قد تعزّزت مكانته وجُعلت “ممارسته اكثر واقعية باضافته ما يرفع من حالة المريض النفسية علما منه ان المريض المتفائل المملوء بالأمل أكثر احتمالا للمرض وأقرب الى الشفاء من المُتخاذل أمام رهبة المرض).
*هيرودوتس لم نطأ قدماه أرض بابل فكيف وصفها في تاريخه؟؟
لقد قام الباحث العراقي الآثاري الجهبذ الدكتور سامي سعيد الأحمد بتحليل كتابات المؤرخ اليوناني الشهير هيرودوتس (480 – 425 ق. م.) عن العراق القديم عموماً ومدينة بابل تحديداً ، واستنتج بأن هذا المؤرخ لم تطأ قدماه أرض العراق وبابل برغم أنّه يُعتبر من أكثر المؤرخين إفاضة في الكتابة عن العراق القديم. وفي مقالة مهمة عنوانها “العراق في كتابات اليونان والرومان” منشورة في مجلة سومر – المجلد السادس والعشرون – 1970 – فنّد الأحمد مزاعم هيرودوتس من خلال مجموعة من الملاحظات الدقيقة والعميقة هذه بعض منها :
# استعمل هيرودوتس لفظي بلاد بابل وآشور للدلالة على منطقة واحدة حين قال : (في بلاد آشور مدن كثيرة منها مدينة بابل). وكما يعرف أبسط مطلع على أحوال العراق في التاريخ فإن بابل ليست مدينة في بلاد آشور ، ولا يقع في هذا الخطأ من وطأت قدماه – فعلا – أرض العراق.
# يقول هيرودوتس أنّ الأمطار في بلاد آشور قليلة مما جعلها تعتمد على أنهار المنطقة في زراعتها . وهذه ملاحظة خاطئة لأن بلاد آشور حالها حال مناطق مناخ البحر الأبيض المتوسط كثيرة الأمطار غزيرتها.
# يقول إن أشجار العنب والتين والزيتون معدومة في بلاد بابل وآشور وهذا يؤكد عدم زيارته للعراق حيث كانت هذه الأشجار وقت زيارته المزعومة وقبلها متوفرة بكثرة في االعراق.
# يقول إن أشجار التخيل كثيفة في بلاد آشور وهذا يدحض ادعاءه زيارة العراق حيث تكثر أشجار النخيل كلما اتجهنا جنوبا بدءاً من جنوب مدينة تكريت الحالية وتنعدم كلما اتجهنا شمالاً.
# حسب أغنية بابلية قديمة فإن للنخلة 360 فائدة في حين جعلتها أغنية تدمرية 800 فائدة لم يكن منها عمل الخبز ! كما يقول هيرودوتس إلّا إذا قصد نوعا من الخبز يحتوي على التمر,
# يصف نهر الفرات فيقول إنه عريض عميق سريع الجريان ، وهذا الوصف لا ينطبق على كل مسار نهر الفرات.
# مدينة بابل نفسها لم تكن تقع على نهر الفرات كما يقول هيرودوتس بل على فرع منه هو نهر (الأراختو).
# مدينة بابل لم تكن مُحاطة بخدق مائي كما قال ولم تثبت ذلك التنقيبات.
# أسوار بابل التي وصفها كانت قد خُرّبت قبل ولادته بسنين .. فكيف شاهدها.
# كذلك المعابد التي وصفها في بابل كانت قد خربت واختفت منذ زمن طويل .
وهناك ملاحظات مهمة أخرى في المقالة للدكتور الأحمد تثبت عدم زيارة هيرودوتس للعراق القديم أتمنى على السادة القرّاء مراجعتها في عدد مجلة سومر المذكور أعلاه.
فكيف شاهد هيرودوتس المرضى في بابل يُعرضون في الساحات العامة لأن البابليين لم يكن لديهم أطباء ؟!
(وإلى القسم الثالث)