18 ديسمبر، 2024 5:14 م

تأتي مبادرة الحوار العربي – الكردي، التي دعا إليها سمو الأمير الحسن بن طلال في عمان، كجزء من جهد غير حكومي لنخب فكرية وثقافية وأكاديمية وكأنها عكس التيار السائد، ففي حين يرتفع منسوب العنف ويستشري الإرهاب ويتفشّى التعصب وينتشر التطرّف وتندلع حروب أهلية ونزاعات مسلحة في العديد من البلدان العربية ، هناك من لديه رؤية مغايرة استشرافية ونقدية.
وتنطلق الفكرة من رصد إيجابي للعلاقة الاستراتيجية التاريخية البعيدة المدى بين العرب والكرد، تلك التي تحتاج إلى وعي ضروري لتعزيز “الجوامع” وتقليص “الفوارق” واحترامها، من خلال المصارحة وصولاً للمصالحة، سواء بما يتعلق بحلّ الخلافات بين بغداد وإربيل ، من جهة أم التنبيه إلى مخاطر التداخل الإقليمي ، التركي والإيراني من جهة ثانية، دون نسيان العامل الدولي المؤثر على الأحداث الراهنة ومستقبل المنطقة ، وخصوصاً النفوذ الأمريكي والروسي.
وفي الوقت الذي كان الحوار يحتدم حول القيم والمبادئ والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، كانت الغوطة تتعرض لمأساة إنسانية، بالترافق مع توغل الجيش التركي في عفرين السورية وجبل قنديل في العراق، بزعم ملاحقة حزب العمّال الكردستاني PPK، لكن ذلك لم يمنع مثقفون مؤمنون بالحوار من التصميم على مواصلته والانفتاح على الآخر والبحث عن المشترك الإنساني.
وتعود حكاية الحوار العربي – الكردي الذي انطلق قبل أكثر من ربع قرن إلى العام 1992 ، حيث تم تنظيم أول حوار في لندن من جانب المنظمة العربية لحقوق الإنسان، ولكنه تعثّر بسبب اندلاع القتال الكردي – الكردي 1994-1998، ثم بوشر به في العام 1998 في القاهرة، ونشأت تحت هذه المظلّة جمعيات ومنظمات دعت إلى استمراره، لكن الخلاف بين بغداد وإربيل، طغى على صوت الحوار والعقل، لاسيّما حين تأزمت العلاقة، التي نجمت عن إقدام إربيل على إجراء استفتاء للاستقلال في 25 سبتمبر (أيلول) 2017، اعتبرته بغداد مخالفاً للدستور واتّخذت خطوات عديدة للضغط عليها، أولاً لثنيها عن الاستمرار فيه، وثانياً لردعها من اعتماد نتائجه.
ولم يكن ذلك بمعزل عن التداخلات الإقليمية، حين انضمت طهران وأنقرة إلى بغداد في ردود فعلها العملية، سياسياً وإعلامياً واقتصادياً وتجارياً، فضلاً عن دعمهما لاستعادة المنافذ الحدودية والمطارات التي كانت بغداد تطالب بها ، إضافة إلى قضايا عُقدية معتّقة مثل كركوك وبعض المناطق التي تسمّى ” متنازع عليها “. وامتنعت بغداد بسبب الخلافات من دفع رواتب الموظفين في إقليم كردستان، إلّا إذا أعادت إربيل واردات تصديرها للنفط البالغ 300 ألف برميل يومياً، أي نحو 10% من الإنتاج العراقي للنفط.
إن واحداً من تجلّيات الحوار هو التفكير بصوت عالٍ وتبادل الرأي والاستئناس بوجهات النظر، لتكوين تصوّر يمكن أن يفيد أصحاب القرار ويُسهم في تخفيف حدة التوترات، وتلك إحدى أهداف “منتدى الفكر العربي”، منظّم هذا الحوار، الأمر الذي يُستحسن مأسسته وتوسيعه بإشراك نخب سياسية وثقافية عربية وكردية فاعلة فيه. كما أنّ الحوار يمكن أن يكون نواة لحوار مثقفين من دول الإقليم عرباً وتركاً وفرساً وكرداً، يأخذ بنظر الاعتبار حسن الجوار واحترام الخصوصيات وعدم التدخل بالشؤون الداخلية ، وعلى أساس المصالح المشتركة.
لم يشعر المتحاورون أنهم فريقان متناحران، لكي يتشبث كل منهما برأيه على أساس المغالبة والمطاولة، بل اجتمعوا كمثقفين جمعتهم هموم إنسانية مشتركة أساسها الحرية والعدالة وحق تقرير المصير، دون أن يعني ذلك عدم وجود اختلاف بينهم حول التاريخ واللحظة الراهنة والمستقبل، وهذا أمر طبيعي ونكرانه هو الذي قاد إلى الاحتراب والاقتتال، سواء محاولات فرض الهيمنة والاستتباع بزعم الأغلبية والاستعلاء أحياناً، أو التفلت والانقسام بزعم المظلومية وضيق الأفق أحياناً أخرى.
وإذا كانت الدعوة قد وجّهت بالأساس إلى عدد محدود من العراقيين العرب والكرد، وعدد آخر من المثقفين من غير العراق، ومن البلد المضيف (الأردن) ، فإن الهدف منها أيضاً هو فتح قناة للتواصل، بحيث يكون الحوار مجسّاً من مجسّات العلاقة، يمكن تطويره للمعرفة الفعلية والمباشرة لما يفكّر به الطرفان، وهو العنوان الذي اجتمع تحت لوائه المتحاورون، والموسوم بسؤالين متقابلين: ماذا يريد العرب من الكرد؟ وماذا يريد الكرد من العرب؟ والأمر لا يتعلّق بالسياسة وتعقيداتها وتقاطعاتها فحسب، حتى وإن كانت محورية وأساسية، بل بالاقتصاد والتجارة والثقافة والأدب والفن والتراث والتاريخ واللغة وغيرها، بما يسمح بإقامة علاقات متكافئة أساسها الاحترام المتبادل للخصوصيات، مع مراعاة الهوّية العامة الجامعة والمواطنة المتكافئة والمتساوية، دون إقصاء أو تهميش.
إن القصد من الحوار المعرفي- الثقافي هو التواصل والتفاعل والترابط، وليس الترابح والتناحر والتدافع، وإنما التفكير بحلول عقلانية وسلمية وإنسانية لإدراك حقيقة إن أي احتراب سينعكس سلباً على الطرفين، ولن يستفيد منه سوى أعداء الأمتين العريقتين العربية والكردية وعلى أمم الإقليم، وهو ما حمل سمو الأمير إلى الدعوة للبحث عن كيفية استئناف المسار الذي يؤدي إلى “عصبة أمم مشرقية”.

نشرت في صحيفة الخليج الإماراتية، الأربعاء، 14/3/2018