23 ديسمبر، 2024 4:40 ص

حوار العقل والانبياء !!

حوار العقل والانبياء !!

عرّف الكندي الفلسفة عندما كان يؤسس لأول محاوله للحوار بين الدين والفلسفة بأنها (علم الاشياء بحقائقها)، ولم يكن وحيد عصره في محاولة الربط بين التأمل والنص المقدس, حيث سبقه الكثيرين سواء من فلاسفة العرب وغيرهم ,حيث كانت الترجمة من ثقافة اليونان تصب كل ثرائها في هذا الميدان الذي لم يستقر له حال بين الكفر بالنصوص او تطابق الوحي مع العقل،
أيقن اخوان الصفا عندا نشأتهم بجهالة الناس للشريعة فجهروا إن لابد من تطهيرها بحكمة الاعتقاد ومعيار الكمال، رغم ذلك لم تغب الخرافة عن منهجهم عندما حاولوا اقناع الجمهور بحقيقة الربط بين الله والنفس الكلية مع فيوضات العقل، فقالو ان النفس الغير مزكاة بالحكمة تبقى في فلك القمر ولا تصعد الى الجنة. انتهى حوار الكندي الى نهايته المفجعة كالعادة على يد المتوكل حيث أُهين، وضُرب، وتم تغييبه الى الابد لجرأته في اعتراض النص ورفع هيبة العقل.
لم تنضج  أبعاد نظرية التقارب بين النص والتأمل الفلسفي , وإنهما يصلان الى قناعة واحده، الّا عند ابن رشد، حيث ان جميع من سبقه من الباحثين كان يحصر أذرع النص المقدس في قالب العقل فيحذف ما يخالفه ويبقى ما يقبل القياس بشكل عام، ولكن عندما جاء ابن رشد ميز بين حقيقتين كان يصعب التفريق بينهما، الاولى مرجعية علم الكلام كفلسفة اسلاميه خالصه والثانية مرجعية الفلسفة التي ترجمها المسلمون سواء من اليونان او الشرق في تفسير الشريعة ومقتضيات الدين.
أندفع المسلمون في بداية عصر الترجمة بشغف كبير على علوم اليونان والذي أطلقوا عليه علم الكلام في وقته فكان اداة رائعة في تحصين العقيدة الإسلامية وتفكيك البناء الفلسفي للكثير من الحركات الهدامة التي حاصرت الفكر العربي الساذج والذي لم يصل الى تخوم الاتقان الماهر في فلسفة الدفاع عن عقيدة الاسلام،
كانت الأمانة المزعومة التي أظهرها ابن رشد للمعلم الاول( ارسطو ) حجه سوق فيها ابن رشد انضج فلسفه انسانيه على الاطلاق, حيث تكاملت فيها الرؤية الكونية لفيلسوف اسلامي, بعد نسب لأرسطو الكثير من آرائه الشخصية التي لم يكن يجرأ على تبنيها امام محافل التكفير , ولكنه في النهاية صالح الواقع وايقن ان حياته لان تغرب عليها الشمس ان لم يتخفى فجامل العامة وساسة المسلمين بأن  الفلسفة والدين لا يتناقضان, بل واكثر من ذلك حيث  وضع الفلسفة في خدمة التوحيد الالهي ,ليستمر المسار نفسه في تناول العلاقة بين الشريعة والعقل على طول تاريخ المسلمين، على يد البيروني وابن سينا والغزالي وابن طفيل وغيرهم الكثير اللذين لم يخرجوا من هذا النطاق في تحديد العلاقة بين الدين والفلسفة.
دخلت الفلسفة الأرسطيه في اوربا في القرن الثالث عشر عن طريق ترجمات كتب ابن رشد للغاتهم فأحدثت ارباكا” كبيرا من حيث ان التثليث في الديانة المسيحية، وعقيدة حلول الله في السيد المسيح، وفدائه للبشر، تغوص عميقا في الصميم المعرفي لتخلق هَو ّه لا يمكن ردمها بانسجام الدين والفلسفة وهي العقدة التي لم تعاني منها الفلسفة الإسلامية.
لاحقت لعنة الفلسفة ابن رشد حتى في أوربا فتم تكفيره في مختلف المحافل العلمية والدينية مثلما تم حرق كتبه وتكفيره عند المسلمين , ولكنه حصل على أتباع امناء مثل البرت الكبير والذي امن بوحدة العقل والنص وان (ان الشريعة حق والحكمة حق والحق لا يضاد الحق ) , اما تلميذه توماس الا كويني فيقال بأنه كون فلسفه تلفيقيه جمع فيها متضادات الغزالي وابن رشد وابن سينا , ولم يكن امينا” كما كان دير برابانت واتباع المدرسة الفرنسية لاساتذة اللاهوت.
اما من تلاهم من علماء اوربا الاقوياء فلم تختلف مناهجهم عما سلكه ارسطو او ابن رشد فكانت دفاعات اسبينوزا (1632-1677) هوبزوباسكال (1623-1662) وديكارت (1596-1650) لم تخرج من محاولات توفيقيه سرعان ما ذابت في حضن الفلسفة المادية التي اجتاحت اوربا في عصر النهضة.
ظل العرب والمسلمين في القرن العشرين تتأرجح أراءهم في دور العقل بين رافض للتوافق بين الشريعة والعقل واغلبهم من السلفيين والمحافظين في المدارس المعتدلة، وبين من امن بالعقل كسلطه لا قبل لأي قوة اخرى منافستها في التشريع وصناعة الأنظمة. وكلا الطرفين يأتي من الحجج ما تجعل الاخر شيطانا امرد خارج عن المله، ولكن ويبقى حديث النبي الاعظم ((أول ما خلق الله العقل قال له : أقبل فأقبل فقال له أدبر فأدبر فقال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم عليّ منك فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وبك العقاب)) هو تاج حجة المدافعين واللذين يرون ان انحطاط الامه وبروكها نتيجة لسجن العقل وتقييد حركة الاجيال بشرائع قديمة لا تتناسب مع الطموح الانساني.
حاول الكثيرين من أجيال القرن العشرين العرب  وضع العقل في عرشه وحفض هيبته وفيما يستحق من توقير وتكريم وتقديمه على النص ,وتعرضوا جراء ذلك الى التنكيل والموت كما حدث لنصر حامد ابو زيد وفرج فوده فوقفت عجلة التاريخ امام خوف الطبقة المثقفة من السلفيين ودعاة موت الزمن.
 لا قيمة للعقل في امة لازالت ترى بان التمائم، والشعوذة فيها منجاة من المرض والشياطين، ولازالت ترى ان التطبيل في الرض سينقذ القمر من الحوت الذي سيبتلعه في الخسوف. العقل الواعي يرفض مبتكرات الجهل والانحطاط، لذلك فأن خسائر المسلمين وجراحهم بسبب العقل في المسائل الغيبية، يمكن تحييدها او تناسيها مؤقتا” وايلاء الأهمية لبناء حضارة تجعلنا لا نشعر بالعار عندما يُذكر اسم  العرب في المحافل الدوليه.