23 ديسمبر، 2024 2:03 ص

حنينٌ يستيقظُ في الظهيرة

حنينٌ يستيقظُ في الظهيرة

(مرايا نثرية 11)
عثوري على السيَّاب
حادثةُ عثوري على تجربة بدر شاكر السيَّاب الشعريَّة أو بتعبير أكثر دقَّةً تعثري باسمهِ تعتبر بالنسبة لي حالةً لا تخلو من الطرافة والغرابة ولم تحصل لديَّ مع شاعر آخر غيرهِ، لم أنتبه أبداً لتجربة السيَّاب في البدايات وكنت متأثراً بغيرهِ كأحمد شوقي وخليل مطران وجبران وأبي القاسم الشابي وغيرهم من أعمدة النهضة الشعريَّة، حتى أنني لم أسمع باسمهِ أبداً قبل مرحلة الدراسة الثانويَّة.. بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى أي في أوائل سنوات التسعين من القرن المنصرم عثرت على احدى المجلات الأدبية الفلسطينية العريقة وأظنها مجلَّة (عبير) وهي من المجلات الفلسطينية المرموقة وكانت تمجِّد في سياقِ موضوعاتها انتفاضة الحجارة الأولى، وكانَ من ضمن المادة الأدبيَّة للمجلَّة حوار أدبيٌّ جميل مع (جبريل الرجوب) شاعراً.. اللواء والسياسي الفلسطيني جبريل الرجوب نفسهِ، وفي الحوار إشادة عظيمة بتأثره بشاعر عراقي حداثي فذ اسمه بدر شاكر السياب، استطاع بموهبته الشعريَّه الجبَّارة أن يغيِّر المفاهيم السائدة في الشعر العربي عبر ثورة عارمة على نظام الأوزان الشعريَّة التقليديَّة، بحيثُ نجح في كسر عمود الشعر العربي وحاولَ توزيع تفاعيل السطر الشعري الجديد بذكاء ومهارة وفقا لمعاني الجمل الشعريَّة، وذلك تأثراً بالشعر الانجليزي وخصوصاً (ت س اليوت) و (بيرسي شيلي) وغيرهم من الشعراء الانجليز، منذ ذلك الحين وأنا أفكر ببدر، وأبحثُ عن نصوصه الشعريَّة الحارة، وأذكر أنني تصفَّحتُ كتاباً ضخماً بعنوان (شاعر الأناشيد والمراثي) للناقد اللبناني (ايليا حاوي) عن السيَّاب وأعجبني جداً، وكنتُ حين أقرأ لبدر شيئاً أعثر عليه في أي كتاب أدبي تصيبني رعشةٌ ما أو أنتقلُ روحيَّاً إلى مناخات فردوسيَّة جماليَّة سيَّابية بامتياز، مناخات يشتبكُ فيها الحلم والكابوس وتتضافر في فضاءاتها الحقيقةُ والأسطورة.
***

من أنتَ؟

الغريب والمحيَّر أنه فقط أصحاب الأقنعة المستعارةِ يسألونك: من أنتَ؟ وأبداً لا أجيبُ على سؤالٍ كهذا، خصوصاً إذا كان السؤالُ موجَّهاً من هؤلاء، وهم يطلُّون عليكَ من حضيض الخفاء والعتمة، يفركون أعينهم بالأصابعِ، ويصفعونك بسؤال أبديٍّ بليد.. من أنت؟!
***

نعمةُ الحذف

حذفتُ شاعراً عابراً خُيِّل له أنهُ أربكَ قصيدتي حين ظنَّ واهماً أنها بحاجةٍ اليهِ والى جائزته البائسة كتجربتهِ الشعريَّة، وحذفني شاعر كبيرٌ أُحبُّهُ لأنني قلتُ في تعليق تحت مديحٍ كالتهُ له إحدى الناقدات الجميلات ما معناهُ أن زمن الأُسطورة والفردية في الشعر العربي قد أوشك على الانتهاء وما الشاعر إلا صوت متفرِّع من كورس غنائي في سيمفونيَّة كونيَّة هائلة فيها الصوت الجميل وفيها الصوتُ النشاز، وحذفتُ شاعراً آخرَ لأنه كالرحى التي تطحن الحجارة، يملأ رأسي جعجعةً فارغةً منذ ست سنوات، وحذفني شاعرٌ آخرُ لأن المسكين يترصَّد بي في كلِّ حرف أكتبهُ ويظنُّ أنني أنافسهُ أو أهدِّدُ غروره الشعري وأن قصيدتي تشكِّل خطراً على نرجسيته المبالغِ فيها والفائضةِ عن حدها، وحذفني شاعرٌ فاشلٌ لأسباب لا أعلمها حتى الآن، وحذفتُ شاعراً أفشلَ منه لأنه منذ أربعين سنة يكتبُ القصيدة نفسها ما يجعلهُ يحسُّ بشفقتي عليه وعلى قصيدتهِ عبر حاستهِ السادسة ولا أُريدُ لهُ أن يتذوَّقَ هذا الإحساس المرير بشفقتي علي ما يكتب، وحذفني شاعرٌ بعد نقاشٍ طويل في مسألةٍ عروضيَّة بسيطةٍ أصابَ فيها وأخطأتُ أنا، أو لشكِّهِ بأنني أُحبُّ امرأةً يحبُّها وتستعصي عليه، لا تهمُّني صداقاتُ أشباه الشعراء أو معرفتهم، وأكبرُ شاعر على وجه هذه الأرض يستحق الحذف والرفض والنسيان وعدم تحيته بكلمة واحدة لو صادفتهُ في شارعٍ في مدينة بعيدة إذا كانَ هو نفسهُ استعلائياً وأنانياً وكاذباً في قرارةِ نفسهِ ويرفض الآخر ولا يرى غير أناهُ في قاموسِ الوجود الإبداعي، يستحقُ الرفض روحيَّاً، لكن ذلك لا يلغي قراءةَ منجزهِ، إذا كان ما يكتبهُ جديراً بالقراءة.
***

زغلول الدامور قيثارةٌ من السماء

سأشتاقُ إلى عصافير الشمال الملوَّنة التي سكنت تجاويف صوت زغلول الدامور، سأفتقدُ تنهدَّاتِ النعناعِ في أصابعِ امرأةٍ جنوبيَّة، ونداءاتِ الجبالِ على ناياتِ الغجرِ الرحَّلِ، أنا الذي كنتُ أرى في نغمتهِ ما أريدُ، وأتنسَّمُ عطرَ الزمن كأعمى يستدلُّ بنسيمِ الزنابقِ على الأشياء، جوزف الهاشم الأسطورة، القيثارة السماويَّة، النهر السحريُّ، ملكُ الزجلِ غير المنازع، صاحبُ الموَّال الأكثر عذوبةً وصفاءً واكتمالاً، يرحلُ بعد امتدادِ سبعةِ عقودٍ على تضاريسِ الغناءِ الجبليِّ العالي، لا أتذكر في أيِّ سنةٍ كان يتهادى صوته في سوقِ الناصرةِ القديم، صادحاً بالعتابا وبالمعنَّى والقرادي، ربما كانَ ذلك في نهايات الثمانينيات، شيءٌ في صوتهِ المغسولِ بالحبق والماس والبنفسج جعلني أتعلَّق بهِ، وبكثيرٍ من الشغف الطفوليِّ ( يا حلوه كاس حبك جرِّعيني/ وقبل ما تصدميني جي رعيني/ خيالك في طريقو جر عيني/ وصرت برموشها لم التراب).. اختزن الزغلول في نبرات صوته الشجيَّة أناقةَ روح لبنان، جماله، طبيعته، ماءهُ، هواءهُ، ترابهُ النديَّ وغناء حورياته الفاتنات، اختزن واختزل كل شيء، يخيُّل لي أنه المغني الأجمل للوجع والفرحِ اللبنانيين ومنشدُ تغريبةِ العشَّاق، من لم يطرب لتجليَّات جوزف الهاشم الزجليَّة من الصعب عليه أن يشَّم روائح لبنان عن بعد مئات الكيلومترات، صوته أشبهُ بوردةٍ حمراء من غيمٍ وماءٍ تتفتَّحُ على حدائق ونوافير وكنائس ومآذن وقرى في الجبالِ ونهاراتٍ زرقاء وليالٍ لا تنام، الترجيعات التي كان يتركها في دواخلنا محيِّرة هي تكفي من حيث الجمال والعذوبة والتجلِّي أن تطهرنا من النزوة والندم، هي قادرة أن تؤمئ للحروبِ أن إهدأي قليلاً فثمَّةَ من يريدُ التأمُّلَ أو الحلم، سأشتاقُ إلى عصافيرِ الشمالِ وإلى ترجيعات القيثارةِ السماويَّة (خذيني بعطفك وحلمك وعدلك/ لحتى ان غبت برجعلك وعدلك/ حلفتلك بجي وقلبي وعدلك/ وعد زغلول مش موعد غراب).

قصيدة (صدفة) لزغلول الدامور

صدفة التقو بعيونها عيوني
وعالبيت من غير وعد عزموني
وقلبي فلت مني و سبقني وطار
ومدامعي عالدرب دلوني
ولحقت قلبي و عملت مشوار
عبساط جانح ريح مجنونة
ومن غيرتي عليها خيالي غار
و تحارَب جنوني مع جنوني
وصّلت … ولقيت القلب محتار
والــ عازمتني مقدّرة فنوني
وأحلى ما إيدي تحترق بالنار
عا بابها دقيت بجفوني
وسمعت صوت بيشبه الأوتار
حرّك شعوري و فيّق ظنوني
وقالت يا أهلا … ودخلت عالدار
وعيونها بديو …. يحاكوني
وايدين مثل الشمعتين قصار
ما عرفت كيف و ليش ضموني
ولفّوا ع خصري داير و مندار
ولولا ما أجمد كان حرقوني
والشعر ياليلي بلا أنوار
من عنبر كوانين مشحونة
وجبين طافح بالحلا فوّار
خلاّ عقول الناس مفتونة
والحاجبين الجار حد الجار
سيفين بالحدّين ذبحوني
وجوز الحلأ عا دَينتين زغار
من الجرح بعد الذبح شفيوني
والأنف قمقم شايلو العطّار
لدموع أحلى زهور ليمونة
لو شافتو بيّا عة الأزهار
بتقول منّو العطر بيعوني
وخدين متل الزنبق بنوار
أكتر ما بدي عطر عطيوني
إلــ بيشوفهم بيقول توم قمار
جاعوا و طلبوا الأكل و المونة
وشفاف حمر بيسكرو الخمار
من فرد نقطة خمر سكروني
وسنان شال الفل منها زرار
بيضا بلون العاج مدهونة
والعنق مثل الخيط عالبيكار
مسكوب لا ورقة ولا معجوني
والصدر من أتقل و أغلى عيار
متحف درر و كنوز مدفوني
وتفاحتين بيبهرو الأنظار
عالصدر … يا ريتن يقبروني
وعالخصر عيني بتحسد الزنار
لو مطرح الزنار حطوني
تا كنت أكشف قوة الأسرار
ومعليش لو مجنون عدوني
يا ناس هيدا اللي جرى و لصار
وتتصدقوني… و تا تعذروني
روحوا معي عا بيتها شي نهار
وتفرجوا عا حسنها من بعيد
وان ضل فيكن عقل… لوموني”.
***

لن نختلف على شيءٍ بعدَ اليوم

لن نختلفَ على شيءٍ بعد اليومِ، لا على قيمةِ هنري ميلر الروائيَّة ولا على قيمةِ تشارلز بوكوفسكي الشعريَّة، لن نختلف على مفردةٍ نشازٍ ولا على خللٍ في الايقاع، لأنكَ تجيدُ الضغطَ على زرِّ محو الآخر، من دون أن تشتبكَ معهُ في نقاشٍ عابرٍ قد تنتصر فيهِ لفكرتكَ ويخسر هو، ما نفعُ قصائدك وقصائدي أمامَ هولِ المحرقة التي تعصفُ بوطنك، وابتلاعِ الخرابِ الهائل لبلادكَ واستكلابِ الانتهازيين الأشرار عليها؟ أليسَ من الأجدى لنا أن نصمت؟ أتفهَّمُ جرحكَ النرجسيَّ ولوعتكَ من انقلاب عوالمك الحلميَّة المتخيَّلة، أتفهَّمُ حجم وجعك الروحي وأشمُّ وردةَ يأسك، ليتكَ تنقلبُ على نفسك وقصائدك، ربَّما لم يكن الشِعر إلا مضيعةً للوقت، كصداقتنا تماماً.
***

صوتُ ريم بنَّا

خلق الله صوتَ هذه المرأة الجميلة من تنهيدة الحبق على شرفةٍ نصراوية، أو من ترجيع المياهِ في ساحةِ عينِ العذراء، صوتها ليسَ صوتاً تماماً، بل هو شيءٌ يشبهُ رائحةَ الربيع أو حفيف السنابل في حزيران، هو تلويحةُ العصافير للشمس، أو صدى زرقةِ بحر يافا، أو ربمَّا كان قارورةَ ضوءٍ صبَّ اللهُ فيها أصواتَ نساءِ الأرض جميعاً، صوتُ هذهِ المرأة الجميلةِ هو الاسمُ الحركيُّ لعشق هذه الأرض، وهو الوجهُ المضيء لجمال المرأةِ الفلسطينيَّة، وهو نافذةٌ على سماءِ المحبَّة تحرسُ أرواحنا والأغاني، كأنَّ في صوتِ هذهِ الغزالةِ النافرةِ في ظهيرةِ قلوبنا امرأةً عاشقةً ترقصُ في هبوبِ المطر، في شفقِ الريح ونوَّار القصائد.
***

تردُّد شعري

كنتُ محكوماً بالتردُّد الجميل المراوغ عشيَّة مشاركتي في مهرجان الشعر الفلسطيني – الصوت والصدى – الذي نظمَّته أكاديمية القاسمي في باقة الغربية بتاريخ 10/3/2018 داعيةً إليه نخبةً من شعراء ونقَّاد فلسطينيِّين كبار من الجليل والمثلث ومن مناطق الضفة الغربية، كان المهرجان أشبه بتوحيد شطري البرتقالة الفلسطينيَّة أو مزج الصوت الشعري الفلسطيني بصداهُ البعيد العذب، مشاركةٌ في مهرجانٍ كهذا من الواضح أنه سيكون لها أكثر من معنى ومغزى، فهي تأتي بعد شبه عزلة أدبية أعيشها بإرادتي نائيا بنفسي عن أجواء التنافس والنديَّةِ ومهاوي الشلليَّات، في النهاية اتخذتُ قراري وذهبتُ لأقاسم غيري من شعراء تعلَّمتُ منهم خبز القصيدة، مبتهجاً بحضور رموز شعرية كبيرة ومضيئة في سماء الإبداع الفلسطيني الحديث، كأنني أُعلن تمرُّدي الشعري الشخصي على فكرة نمطية لا شعرية في الأساس ولا تعترف بأن في استطاعةِ القصيدة أن تغيَّر شيئاً ما في هذا العالم التي تسيِّرهُ قوى لا شعريَّة، تهمِّشُ الشعرَ أو تعدُّهُ مجرَّد سقط متاع لا غيرَ، ولا بدَّ من التخفَّف منه سريعاً، من هنا تأتي مشاركتي كتمرُّدٍ خصوصيٍّ جداً على نفسي وسحبها من ظلالِ عزلتها غير المبرَّرة إلى فضاء الشمس والهواء وموسيقى الأوزان ومداراتِ الطير، لم أختر القصائد التي سأُلقيها في المهرجانِ برويَّة وتفكير، كنتُ في حالةِ نشوةٍ بلقاء أصدقاء مبدعين لم ألتقِ بهم منذ سنواتٍ طويلة، أو التقينا افتراضيَّاً من على صفحات مواقع التواصل الإجتماعي، وللذكرى أقول أنني دائما كتبتُ ما كتبتهُ في الظلِّ، أو حتى في ظلِّ الظلِّ، وكنت أبتعدُ قدرَ استطاعتي عن التجمُّعات والشلليات الثقافية ولم أسعَ مرَّةً لأضواءِ المنصَّات ولا لهالات المهرجانات الشعرية ولا للملتقيات الأدبية التي دائما ما كنتُ أحسُّ بعضها يُفرض عليَّ فرضاً وبإصرار كبيرٍ من الأصدقاءٍ أو من النخبة المثقفة والأكاديمية في البلاد، ولا أريد أن أخوض في تفاصيل ليس هذا سياقها، أو أن أذكر أسماء فلسطينية وعربية كبيرة كنتُ دائم التنصَّل من دعوتها وإصرارها على حضوري الشعري.
***

تونسُ الشاعرة

قبلَ أن أخلدَ للحلم، أو أشربَ نخبَ الحبيبةِ الضائعة، قبلَ أن أفكَّ سيورَ القصائد الصغيرةِ، أو أدخِّنَ سيجارة ما قبل النوم، قبل الاستسلامِ لوثائقيات التاريخ الوهمي أو للأفلام الحديثة، قبلَ القهوة الليليَّةِ، وصودا العنب المكسورة بالعبير الخفيف أو بماء اللهفة، قبلَ الكتابةِ عن أصابع امرأةٍ فقيرةٍ تشبهُ ناياتِ الغجر التي تتبعني كالريحِ في البريَّةِ، قبلَ كلِّ حبٍّ سريعٍ وامرأةٍ غريبةٍ أعترفُ أنني تلميذٌ صغيرٌ للشعريَّةِ التونسيَّةِ العظيمة، الشعريَّة التي علمتني كيفَ أفتحُ عينيَّ للندى كزنبقتين وأن أرقصَ في ربيعٍ ممطرٍ، الشعريَّة التي أنحني لها انحناءةَ عاشقٍ وأرمقها بقلبِ شجرةٍ أو بعيني نجمةٍ مطفأة، والتي تسيلُ معها العذوبةُ الروحيَّة كما يسيلُ العذابُ من أصابعِ الشعراء أو الكحلُ من عيونِ قصائد الحُبِّ وعيونِ نسوةِ الهالِ والياسمين، الشعريَّةُ الفضيَّةُ الساحرة، فارعةُ الجمال والأنوثة، التاركةُ ضفائرها الصفراء الطويلةَ على مرمى زرقةٍ لا تُحدُّ تعلِّمُ عبَّادَ شمسِ الهواءِ التحديقَ إلى أعلى، أنا ربيبُ هذهِ الشعريَّة الطافحة بالعناقيد، أنا طفلها المشاكسُ، أنا تلميذها الصغير وسأظلُّ هكذا إلى الأبد.
***

الشاعر محمد الهادي الجزيري

محمد الهادي الجزيري شاعرٌ أصيلٌ من تونس التي لن نشفى من حبِّها ولا من تموُّجاتِ خضرتها في أرواحنا، مبدعٌ استثنائيٌّ وناثرٌ في غاية الرهافة، أُحبُّ أن أقرأ له وأتابع نصوصهُ العذبة الشفَّافة وثرَّة الجمال على مواقع السوشيال ميديا وفي موقع أثير العماني وغيرها، ولكن في زحمةِ هذا الفضاء المكتظ بالأمواج المتلاطمة وبالحارثين فيها ربما تاهَ كل منا عن الآخر بالرغم من كوننا صديقين منذ سنواتٍ طويلة، ولكن أقولُ شكراً للكاتبة الفلسطينيَّة المتميزة أنوار الأنوار لأنها قادته اليَّ ووضعتهُ في طريق قدري، وقدحت شرارة الصداقة والتواصل من جديد، ما جعلهُ يقرأ بصمت مجموعتي الشعريَّة (استعارات جسديَّة) ويعيدُ تفكيكها وتشكيلها في خياله الخلاق الخصب على ضوء ذائقة جماليَّة صافية لشاعر متميز.. جميل وصادق يحملُ نصُّهُ من الأصالة والتجديد ما يحمل، أثقُ بهِ وبقصيدتهِ المختلفة، وبحسِّهِ النقدي الموضوعي أكثر حتى من ثقتي بنقاد محترفين كبار، الجميل في الأمر أنَّ الجزيري قرأني كما يجب لشاعر عاشق مختلف، مسكون بتجليات الأنوثة والجمال والبروق الخضراء، وخرجَ بقراءة تحاورني بذكاء وتجاورُ روحي بلهفة وانعتاق، وبكثير من فيض المحبة، لم يفاجأني بأصالةِ روحهِ العالية أو بنبلهِ النادر بين الشعراء، أو بمحبتهِ لفلسطين وما تبدعهُ من مزامير علويَّة وقصائد في شفافيَّة الماءِ والضوء، إلا أنهُ قدَّم قراءة أحسستُ من خلالها بتآلف روحين يجمعهما الشعر ويحرسهما قمرٌ واحدٌ في الظلام، ماذا أقولُ لتونس؟ وأنا مهما سأكتب يا صديقي المبدع، أيها الجزيري الفذ النبيل الجميل، سأظل صدى أصواتكم العظيمة يا شعراء تونس، من أبي القاسم الشابي إلى أصغر شاعر تونسي يكتبُ الآن.. مروراً بالمنصف الوهايبي ويوسف رزوقة ومحمد الصغير أولاد أحمد وبك أنتَ وبالشاذلي القرواشي ومكي الهمامي وفتحي آدم وسلوى الرابحي وعشرات بل مئات غيرهم

***

مطرُ أبريل

مطرُ أواخر أبريل أخضرُ اللون، كأوراق الزيتونِ أو كالعشب السماويِّ اليانع، لا أتذكَّرُ متى هطلَ قبلَ هذهِ المرَّة بغزارة هكذا، ربما في عامِ ألفين واثنين، كانَ ينقرُ بلَّور النوافذ نقرَ صغارِ العصافير، أو كأجنحةِ الفراشاتِ المخضلَّة، مطرٌ ناعمٌ، شفَّافٌ، من بقايا أحلامِ الطفولة، مشرَّدٌ ما بينَ السماءِ والأرض، يشبهُ نسيماً خفيفاً أو تنهيدةَ امرأةٍ تطلُّ على الأربعينِ بكاملِ تفَّاحِ أنوثتها، أو نهراً نحيلاً يرقصُ في الفضاء بقدمين عاريتين تزيلان طلعَ الريحِ عن وردةِ الزمن اليابسة، وآثارَ العواصف الرمليَّة التي خلَّفها الشتاءُ وراءهُ، مطرٌ نحتاجهُ لنعلو ونحلمَ ونخفَّ، لنعشقَ أكثرَ أو لنكتبَ أجملَ، نحتاجهُ لنحلِّقَ أبعد، مطرُ أبريل هو الطقسُ المفقود في لوحة القصيدة، هو القصيدةُ المائيَّةُ الخضراء.