22 ديسمبر، 2024 10:45 م

حمير السياسة وسياسة الحمير

حمير السياسة وسياسة الحمير

حوار بين حِمار وحَمار

قيل من قبل: اللبيب تكفيه الإشارة، وهو المراد بهذا الحوار الهاديء.
قال رجل لحماره وهو يشعر بألم بسبب ما يشهده من صراعات على المصالح الحزبية والشخصية وإخفاقات في إدارة بلده من قبل حكام عملاء وفاسدين ومنافقين، وشعب لا يتنبه لمستقبله ومصير الأجيال القادمة: أني أحسدك أيها الحمار، وأتمنى في بعض الأحيان أن أكون مثلك!
قال الحمار ساخرا: اتقصد أن تشبهني شكلا، أم حالا أم صفة؟ فهناك فرق بين هذه المسائل يا رجل!
قال الرجل: بالطبع لا أحد أن يتمنى أن يكون مثل شكلك او يمتلك صوتا كصوتك، معاذ الله من ذلك، مع ان فيك صفات مميزة، لكني أقصد بكلامي حالك؟
قال الحمار بتهكم: ما تقصد بالقول صفاتك؟
قال الرجل: أعني قوة التحمل والصبر والرضا بالقليل وعدم الإعتراض، والوفاء لصاحبك، والأمانة، والرفقة الحسنة، وعدم الثرثرة، مع الذكاء المحدود، فأنت تشبه القليل من البشر في هذه الصفات.
قال الحمار: إذن صفاتي الحسنة أكثر من السيئة، وهذا أمر طيب يبعث السرور في نفسي ان صدقت.
قال الرجل: البعض منها مثالب لا علاقة لك بها كالشكل والصوت والبطن الضخم، والأسنان الطويلة، والبعض الآخر لك علاقة بها مثل الضعف والسكينة، وعدم الثورية، وتلويث الطرق بروثك، ولمٌ الذباب حولك.
قال الحمار: على ماذا إذن تحسدني يا رجل؟ فقد حيرتني في ذكر محاسني ومثالبي، وأظن انك تخفي الحقيقة او تتلاعب بها. فكفاكم كذباّ على فصيلتنا المسكينة! نحن حقا أصحاب المظلومية ولستم أنتم يا أدعياء المظلومية! لم يظلم أحد على وجه الأرض كفصيلتنا. إن مظلوميتنا تأريخية بدأت منذ الطوفان عبورا بالحمار الجد يعفور ولحد هذه اللحظة. فقد زعمتم أن آخر من دخل سفينة نوح كان الحمار والشيطان معلق بذنبه، وهذا ليس ذنبنا. ثم إستطرد الحمار متجهما: ثم على ماذا تحسد فصيلتنا المنكوبة والخائبة؟ هل تحسدنا على تعبنا وشقائنا وصبرنا الطويل عليكم معشر البشر في إنتظار قائمنا يعفور الذي سيملأ أرض الحمير عدلا بعد أن ملئت ظلما بسبب غطرستكم وعنجهيتكم وتعاليكم علينا، وإستغلالنا البشع، سينتقم يعفورنا من كل من أساء لنا.
قال الرجل: لعل قائمكم يعفور سيظهر مع قائمنا، وربما يمتطي قائمنا قائمكم ويظهرا معا! فالظلم واحد سواء كان على البشر أم على الحمير، ومنقذنا ومنقذكم لهما نفس المهمة، فكلاهما عاجلا أم آجلا سيظهرا.
قال الحمار: لنترك هذا الأمر المؤجل لآخر الزمان، فنحن نعيش الآن زمن الحيرة الحقيقية يا رجل. واستطرد الحمار متهكما: لربما تحسدنا على ضربنا بالعصي من قبل أولياء أمورنا البشر إن تباطأنا، او لأن ولاتنا كانوا على عجلة من أمرهم؟ فيحملوننا المسؤولية بلا مبرر.
قال الرجل: نحن ايضا نتعرض مثلكم الى الضرب والإعتقال والحرمان من الماء والطعام والكهرباء وغيرها من ضروريات الحياة، فنحن في الهوا سوا يا صديقي الحمار.
قال الحمار: إذن ربما تحسدنا على تشبيهكم الحمقى والجهلة بنا. مع ان في فصيلتنا من الحكماء والأذكياء الكثير، وفي فصيلتكم من الجهلة والأغبياء الكثير! نحن معشر الحمير كرماء مع معشر البشر، إذ نسمح لهم بإطلاق اسمنا على بعضكم، لكننا لا نتسامح مع من يطلق علينا كلمة بشر.نحن لسنا متملقين وخانعين كالبشر ننحني للغير كي يركبوهم، بل نقف بشموخ وكبرياء ونترك المهمة لكم.
قال الرجل: أنت على حق في هذا، فمجلس النواب عندنا نسميه مجلس الدواب، وغالبا ما نصف بعض نوابنا بالحمير، مع انكم تفيدونا أكثر منهم، فأنتم لا تكذبوا ولا تشتروا الأصوات ولا تسرقوا، ولا تبحثوا عن مناصب ومزايا، نحن معشر الحمير متواضعون فعلا، والتواضع من مكارم الأخلاق وهذه من مآثركم التي لا يمكن لعاقل أن ينكرها.
قال الحمار: إذن على ماذا تحسدني يا رجل؟ ربما على شكلي القبيح! أنظر إلى أذني الطويلتين الواقفتين كقرني الثور، لا تعرفا الراحة والإنبطاح، انظر إلى بطني المترهل مثل كروش كبار زعماءكم ووزرائكم وقوادكم العسكريين، انظر إلى وجهي الطويل الذي تطلقونه صفة على من يحزن منكم، وأسناني الطويلة القبيحة غير القادرة سوى على هرس الحشائش رغم حجمها الكبير.
قال الرجل: لا نحسدك مطلقا على هذه الصفات البتة يا صديقي الحمار.
قال الحمار: حسنا، هل تعلم يا صديقي لماذا نحن أصحاب المظلومية الحقيقية؟ لأن هذا ما يحدثنا به كبار حكمائنا. أين نحن مثلا من هدهد سليمان، وناقة صالح، ورشاقة الغزال، وعيون المها، وشدو العندليب، وقوة الأسد، وسرعة الفهد، ومكر الثعلب، ونعومة الأفعى، وظرافة القرد، وعظمة النسر، وفراسة الصقر، ووداعة الحمام؟ إن معشر الحمير تفتقر الى جميع هذه الصفات الجميلة.
قال الرجل: لكن عندكم صفة سامية وهي الصبر، لذلك نطلق عليكم إسم (أبو صابر) لشدة صبركم على تحمل الأثقال، وعلى سوء معاملة البشر لكم. والصبر من صفة الأنبياء والصالحين، وهذا يدل على أهمية الصبر على البلاء، وهذا ما لا تدركونه يا صديقي الحمار رغم أهميته التي تجعل قلوبكم تطمئن، وتثقون بأنفسكم. ربما لم تسمع بصبر نبينا أيوب!
قال الحمار: ليست المشكلة في تحملنا الأثقال، فقد خُلقنا من أجلها، بل المشكلة في تحملنا الثقلاء منكم، وتحملنا معاملتكم السيئة، وظلمنا بلا مبرر! نخدمكم وتضربونا بكل قسوة، نحترمكم وتستهينوا بنا. ومع هذا تزعم بأنك تحسدني! الأمر محير حقا.
قال الرجل: لكن هذا لا ينفِ ان البعض من البشر يحسن معاملتكم، أليس…
قاطعه الحمار بحدة: قل إذن على ماذا تحسدني يا رجل؟ قل الحقيقة وسأتقبلها رغم مرارتها. فلا ننتظر منكم إلا المُر! أما الحلو فتستأثرون به لأنفسكم.
عندئذ لاذ الرجل بالصمت، وفكر بعمق في حجج الحمار القوية غير القابلة للدحض.
قال الحمار ساخرا: لعلك تحسدني على صوتي المزعج الذي يضاهي زئير الأسد قوة وأشد قبحا! تسمون صوتنا نهيقا وتعتبرونه من أقبح الأصوات لأننا صعفاء، ولا تعيبوا زئير الأسد المخيف لأنه قوي، انكم تحترموا القوي والقادر عليكم، لاحظ كيف تصفوا الرجل القوي بالأسد والذئب، وتسموا الضعيف بالخروف والكلب رغم الخدمات الكبيرة التي تقدمها الخراف والكلاب لكم، انكم أصحاب شخصيات مزدوجة او مرضى بالإنفصام. أنا اعترف ان صوتي قبيح وهو يزعجني أكثر مما يزعجكم! لكن هل الأمر بيدي لأغيره وأشدو كالبلبل؟ هكذا خُلقت يا رجل، وأنا لا أتحمل ذنب خلقي.
قال الرجل: كلا أنا أعترف بأن هذا قدركم، ولا تقستطيعوا تغييره، ولا أحد يلومكم على ازعاجنا بأصواتكم القبيحة، إلا إذا كان حمارا!
نظر له الحمار ساخرا وهز رأسه، فإعتذر الرجل على هفوته، وقال: لم أقصد الإهانة مطلقا، انها مجرد زلة لسان. وانا أعرف مكرمة الصبر التي تتمتعوا بها، فأصبر على زلاتي لطفا وسامحني.
قال الحمار: ما أكثر زلاتكم معشر البشر! على أي حال، شكرا لك، فقد سميتها مكرمة، وهي تذكرني بمكارم زعمائكم السخية لشعوبكم الفقيرة. ثم أردف: إلعلك تحسدني على ضعفي الكبير، وحياة الذل التي أعيشها، مع إن لدي قدرة على التحمل اكثر من البغل وأصولي نظيفة واصيلة، ولست مثله هجينا، كالبعض منكم، فأصول بعضكم فارسية وتركية، ولكنكم مع هذا تحترمونهم وتعتزون بهم أكثر من أنفسكم، انظر يارجل، للبغل في قوانينكم العسكرية فكل بغل له شخصية مستقلة، ورقم خاص به، ومخصصات طعام، وشخص مسؤول عنه، ويُنظموا بسرايا في جيوشكم، وتشكلوا مجالسا تحقيقية إذا نفق أي بغل. بالضبط تتعاملون مع البغل كما تتعاملون مع الجندي، أخزاكم الله من أدعياء.
قال الرجل: هذا الأمر صحيح لأن البغل قادر على الخدمة العسكرية، وهو يقدم خدمة جليلة في المناطق الجبلية والوعرة، وبدونه لا يمكن ايصال الماء والطعام والعتاد الى المناطق الجبلية والربايا.
قال الحمار: كذلك نحن نخدمكم، الفرق ان البغل يقدم لكم خدمة عسكرية ونحن نقدم لكم خدمة مدنية، لكن كلتاهما خدمة عامة حسب قوانينكم، ولكننا بلا إمتيازات! ولا تنسى إنه عندما يشتد الضغط على البغل ينتحر، لكن فصيلة الحمير لا تعرف الإنتحار مهما إشتدت بها الظروف، وقصة إنتحار يعفور حمار نبيكم في البئر غير صحيحة، بل لفقت من قبل بعض المؤرخين سيما الصوفية، هل تظن من المنطق ان يهدي حاكم مصر حمارا لنبيكم؟ هل يعقل هذا؟ نحن الحمير لا نعقلها، فهل أنتم البشر تعقلوها؟ اقرأ التأريخ ستجد ان هداية الملوك جواهر وجواري وعطور وأشياءا نفسية وليس حميرا.
قال الرجل: نعم قرأت في رواية لثقة الاسلام “عن أمير المؤمنين عليّ أنه قال:إنّ ذلك الحمار كلّم رسول الله فقال: بأبي أنت وأمي، إنّ أبي حدثني عن أبيه عن جده عن أبيه أنّه كان مع نوح في السفينة فقام إليه نوح فمسح على كفله ثمّ قال: يخرج من صُلب هذا حمار يركبه سيد النبيين وخاتمهم. قال عفير: فالحمد لله الذي جعلني ذلك الحمار”.
قال الحمار: هل تعرف لماذا أدعى البعض ان إسم الحمار يزيد؟
قال الرجل: نعم أخزاهم الله تشبها بأمير المؤمنين يزيد بن معاوية؟
قال الحمار: لنترك التأريخ جنبا، فهو بوتقة من الروايات المتناقضة والأحداث المفبركة التي تخدم البعض وتضر البعض الآخر، ونعود الى حديث البغال، لديكم بغال تسمونها زعران، وهي البغال المعاندة كبعض البشر من الجهلة والحمقى الذين يسلمون عقولهم واموالهم ونسائهم للمعممين.
قاطعه الرجل: نسميهم المستحمرين.
فقال الحمار: عدنا الى النقطة الأولى، فإستدرك الرجل: معذرة انها زلة كلام أيضا.
فإستطرد الحمار غير مبالِ، وقال: الزعران من البغال لا تنفذ ما تؤمر به، فهل سمعت بحمار أزعر؟
قال الرجل ووجهه متوردا من الخجل: كلا! الحقيقة هذا ما لم يخطر على بالي مطلقا.
قال الحمار: إنكم تهمشوا الآخرين، وتقصوا من يحبكم ويخدمكم عن طيب خاطر.
لاذ الرجل بالصمت، ولم ينبس بكلمة.
قال الحمار: طالما قد أفحمتك وصَعبُت عليك الإجابة! إذن يبقى السؤال مستمرا: عن ماذا تحسدني؟ ربما على العلف القليل الذي أتناوله والذي لا يتناسب مع كدحي وشقائي اليومي، او على شربة الماء الوسخة في الدلو القذر، او الماء الذي أشربه من السواقي الآسنة بقذارتكم!
قال الرجل: لكننا نشرب مثلكم المياة القذرة وغير الصالحة للشرب، وتصيبنا الأمراض التي لا تصيبكم، وندفع فواتير الماء، وأنتم تشربونه مجانا.
قال الحمار: في هذه الحالة نحن سواسية، كلانا على قدم المساواة، فلا مجال للمفاضلة بيننا!
قال الرجل: صدقت في هذه المسألة نحن سواء. فلا فرق بين آدمي وحمار في مسألة قذارة الماء.
قال الحمار: لعلك تحسدني على مكان إقامتي الوسخ المليء بالروث ورائحته الكريهة والذباب الذي لا ينفك عن ازعاجي من الرأس الى المؤخرة؟ لولا الذيل الطويل الذي أبعد به الذباب عني لضاقت عليٌ سبل الحياة.
قال الرجل: كلا يا رفيق العمر، الحقيقة ليست هكذا! أنت أعرف بأن مكانك أنظف بكثير من مناطقنا وشوارعنا التي تتراكم فيها الأزبال والنفايات وسحب من الذباب نهارا، وجمهرة من البعوض والبرغش ليلا، وموجات متتالية من الأمراض، من المؤكد إنك شهدت ذلك خلال تجوالك في الشوارع. فعاصمتنا هي من أوسخ العواصم في العالم، والخدمات الصحية صفر.
قال الحمار: بصراحة ان وساختنكم هي مصدر وساختنا! في بعض الأحياء تعاف نفسي الرائحة والعفونة من النفايات المتراكمة في الطرق والساحات، ولا أعرف كيف يتحمل البشر هذا الوضع المزري في حين إننا فصيلة الحمير لا نتحمله! كإننا أكثر حساسية منكم تجاه هذه المسألة يا صديقي؟
قال الرجل: ربما، لكن ما غاب عنك، ان النفايات صارت مصدرا مهما لقوت الفقراء، منها يأكلون، ومنها يرتزقون، ويأخذون أحتياجاتهم، إنها جزء مهم من حياة المعدمين في حكومات الزبالة.
قال الحمار: وصرتم أيضا جزءا من الأزبال مع إحترامي لك، فأنكم اليوم أزبال العالم على حتى في نظر زعمائكم وليس العالم الخارجي فحسب. نحن كحمير لا نأكل مثلكم من الأزبال، لدينا البرسيم اللذيذ والشعير الطيب، وهما طعامنا المفضل، ولا نرتزق منها، ولا نسرقها من غيرنا، ولا نتاجر بالفائض منها، ولا نستوردها، فهي مزروعة في أريافنا وقرانا، ونـأمل ان لا تنافسونا في أكلها، فالمؤشرات لا تبشر بخير، والبشر لا يؤتمن جانبهم البتة، ومعامل الجعة شاهد على فعلكم.
قال الرجل: هل هذا إعتراف بأنكم أفضل منا في مسألة الطعام؟
قال الحمار: بالتأكيد يا ذكي، نحن نأكل الشعير وأتنم نصنعون منه الجعة، فمن أفضل مِن مَن؟
قال الرجل بعد تفكير عميق: أنت على حق، أخشى أنك تجاملني وتتملقني ايها الحمار بزعمك ذكائي!
أجاب الحمار: أما التملق والتزلف والنفاق، فهذه بضاعتكم، وليست بضاعة الحمير! الحمير صريحة صادقة، لا تعرف التقية ولا تؤمن بها ولا تباهت بها الآخرين مثلكم، ما في قلوبنا مباشرة على ألستنا.
قال الرجل: صدقت، أستميحك عذرا لأهانتي غير المقصودة. ولكن ردٌك صعقني وأذهلني لقسوته.
قال الحمار: سامحتك! نحن معشر الحمير لسنا كالبشر، فنحن لدينا حكماء وليس لكل فصيلة منا رئيس عشيرة من كبار الحمير، شاغله الرئيس الفصل والعطوة، والوفا والقضوة، والدفا والجلوة، ولا يعنيه الإرتزاق من الغير، وحكيمنا لا يفرِق عنا في ملبسه ومأكله، مجرد لجام وعليجة، وليس على رأسه عِقال او ياشماغ يميزه عن غيره من الحمير، نحن لا نعير للمظاهر البراقة إعتبارا، المهم عندنا الجوهر، وليس المظهر، فكم من ذئب تقمص دور خروف، وكم من ثعلب تقمص دور دجاج، عمر المظاهر ما عبرت عن البواطن، واستطرد قائلا مبتسما: وحمار من لا يعتقد بذلك.
إستغرق الرجل في الضحك على الطرفة غير المتوقعة من الحمار.
إستمر الحمار في حديثه غير مكترث بضحك الرجل: كما إننا لا نعترف بالثأر ولا نمارس الإنتقام، نحن مسالمون فيما بيننا، ولا شأن لحمار بغيره من الحمير، ليس لدينا وقتا للنميمة والرياء والتملق والعبث. كلنا سواسية ولا نعترف بشريعة الغاب التي تعيبونها قولا، وتمارسونها فعلا وبإحتراف كبير. ان دستورنا ليس مكتوبا كدساتيركم الممسوخة التي تحتذونها ان تعارضت مع مصالحكم، دستورنا نتناقله شفاها، ولا يخضع الى تصويت مزور، او يجرنا مراجعنا إليه كالجمل المخشوش للتصويت عليه، فمن طبائع الحمير انها لا تجعل العرف والتقاليد أعلى مرتبة من الدستور كما تفعلوا. أصدقني القول يا رجل: هل رأيت حمارا يقتل حمارا، أو يعتدي على حمار، او يسرق حمارا، او يزور او يرتشي؟ وهل شهدت حمارا قتل حمارا بسبب الإسم او الهوية او الفصيلة؟
أجاب الرجل: كلا! لم أشهد ذلك مطلقا، وهذه شهادة للتأريخ.
الحمار: أما العلة في ذلك، فلأن القانون عندنا فوق الجميع، فنحن دولة القانون، ونحن معشر الحمير مصدر السلطات، وليس الزعماء السياسيين! ولا يوجد في دستور الحمير المحاصصة الحميرية او التمييز العرقي والقومي والجنسي، لا فرق بين حمار وحمار إلا بكفائته وإخلاصه.
قال الرجل مستغربا من الإجابة: هل لديكم مجلسا للحمير كمجلس النواب عندنا؟
أجاب الحمار: بالتأكيد، ولا أعتقد هناك فرقا بين المجلسين إلا ضئيلا، فرئيس مجلسنا هو الأكبر سنا، والأكثر حكمة وتجربة، وله معرفة تامة بشوؤن الحمير، ونحن نختار نوابنا بقرعة وتصويت علني، ولا علاقة لإختيارنا باللون والجنس والأهواء والميول الحميرية الخاصة والفصيلة، ولائنا لفصيلتنا فقط وليس لفصيلة أجنبية من سائر الحيوانات في الشرق أو الغرب. كما ان حضور نوابنا الحمير في المجلس إلزامي، ولا يجوز لهم التغيب إلا بعذر مشروع كالمرض والسفر، وليست لهم مزايا وحوافز كعلف إضافي او إسراحة من العمل، او عطلة تشريعية. وليسوا بحاجة الى قسم اليمين، فهم جميعا أمناء على أصواتنا وحقوقنا.
قال الرجل: يا لعدالة مجلسكم الموقر، ويا لخيبة مجلسنا المُحقر. حسنا، لننهي هذا الموضوع السياسي، فقد يُوقعني في مشاكل أنا في غنى عنها يا صديقي الحمار فأنت تعرف ما تعني المادة/ 4 إرهاب، والخشية من المخبر السري، فهذا بلاء ما بعده بلاء، ليت من يحكمونا حميرا يا صديقي!
غرق الحمار بالضحك وقال: لقد رجعنا الى خط البداية، وذهب كلامنا السابق أدراج الرياح، سأغير الموضوع فلا فائدة من الحديث مع…!
قاطعه الرجل: ارجوك لا تكمل العبارة القاسية.
قال الحمار: حسنا! أحيانا تكون لإسمائنا كحمير تكلفة كبيرة باهضة عندكم مثلما قاطعت كلامي، إذن لماذا تجعلونا إضحوكة لكم وتستهينوا بنا، وتلصقوننا بطرائف مهرجيكم كجحا وأشعب وغيرهم؟
قال الرجل: في الحقيقة لا أعرف! ولكني قرأت بأنه مر رجل بأشعب وكان يجر حماره، فقال له الرجل مازحا: لقد عرفت حمارك يا أشعب ولم أعرفك. فقال أشعب: لا عجب فالحمير تعرف بعضها.
قال الحمار ضاحكا: لم أسمعها من قبل، ولكنها مليحة سأسجلها في يومياتي! ولكن الحمير تعرف بعضها البعض، وليس مثل البشر، نحن لا نعرف الغدر، ولا القتل على الهوية.علي أي حال، سأحدثك القليل عن مظلوميتنا وقساوتكم معنا وارجو ان تدلي برأيك، هل رأيت حمارا في حديقة حيوانات؟ ولماذا تستخدمون الفيل في الشطرنج بدلا عن الحمار؟ أنظر الى الأبراج يوجد الثور والجدي ولا يوجد برج الحمار؟ الأدهى منه إنكم تزعموا ان الديك يرى الملائكة، ونحن نرى الشياطين! ربما لأننا نراكم، في الحقيقة ولا نرى أبالسة وشياطين غيركم، بل بعضكم أشطن من الأبالسة، وحري بهم أن يقدموا لهم دروسا في الشيطنة. إستمر الحمار في كلامه: هل تعرف إن أكثر أمثالكم عن الحمير؟ خذه هذه الباقة من الأمثال” مثل حمار جحا”. ” إحفر نفق بمسمار ولا تناقش حمار”. و” طنش كالحمير نعيش أمير”. و” الحمير حمير ولو حاولوا التفكير”. و” عاش حمار وقضى حمارا”. و” التعاون مع الاستعمار هو أعلى مراحل الإستحمار”. و” إذا ما نفقت ومات الحمار.. أبينك فرق وبين الحمار”. و ” الديمقراطية لا تصلح لمجتمع جاهل، لأن أغلبية من الحمير ستحدد مصيرك”. و” لو كان الجزاء بقدر التعب لنام الحمار على سرير من ذهب”. و” التكرار يعلم الحمار” و” السرج المذهب لا يجعل من الحمار حصان”. و” اللبيب من غمزه والحمار من ذكزه”. و” إن أنكر الأصوات لصوت الحمير”. و” مثل الكر يسبق أمه”. و” الخوف يجعل الحمار أسرع من الحصان”. و” إعتقد الحمار نفسه عالما لأنهم حملوه كتبا”. و” لا يتعلم الحمار السباحة إلا بعد أن تصل المياه إلى أذنيه”. و” إذا أقبل ابخت باضت الدجاجة على الوتد وإذا أدبرت بال الحمار على الأسد”. و” الحمير لا تأكل أوراق التبغ كالبشر”. و” أصبر من حمار”. و” حمار الحرب لا يهرب”. إنكم تتندروا علينا يا رجل في الروايات والأمثال والأشعار، بئس لكم معشر البشر ما قلة وفائكم لمن يخدمكم.
قال الرجل بتعجب: كيف؟ أجاب الحمار: خذ هذه الرواية: مات لبشار بن برد حمارٌ، فقال: كان حِمَارِي أعقل من القضاة، ليس له هفوة ولا زلة، فاعتل على حين غفلة، فمات، فرأيته في النوم، فقلت له: أَلمْ أُنقِّ لك الشعيرَ، وأُبرّد لك الماءَ ؟ فما سبب موتك؟ فقال: أتذكر إذ وقفتَ بي على الصيدلاني – يعني العطار-؟ قلت: نعم. قال: مَرَّتْ إذْ ذاك أَتَانٌ، فافْتَتَنْتُ بها، ومتُّ مِنْ عِشْقِهَا. قال بشّار: فقلتُ: هل قلتَ في ذلك شيء؟ قال: نعم. وأنشد:
هَامَ قَلْبِي بِأَتَانِ عِنْدَ بَابِ الصَّيْدَلاَنِي
تَيَّمتْنِي يَوْمَ رحْنَا بِثَنايَاهَا الْحِسَانِ
ذَاتُ غُنْجٍ ودَلاَلٍ سلَّ جِسْمِي وبَرَانِي
ولَهَا خَدٌّ أَسِيلٌ مِثْلُ خَدَّ الشَّيْفَرَانِ
فِيهِا متُّ ولَوْ عِشْــتُ إذَا طَالَ هَوَانِي
فقيل لبشار: ما الشيفران؟ قال: هذا من غريب لغة الحمير، فإذا لقيتم حماراً فاسألوه.
وقال احمد شوقي”
وأومـأ الحـمـار بالعقـيـره يريـد أن يشـرف العشـيـره
فقال: باسـم خالـق الشعيـر وباعث العصا إلى الحميـر
فأزعج الصـوت ولـي العهـد فمات من رعدته فـي المهـد
فحمل القـوم علـى الحمـار بجملـة الأنيـاب والأظـفـار
وانتـدب الثعلـب للتأبـيـن فقال في التعريض بالمسكيـن:
لا جـعـل الله لــه قــرارا عاش حماراً ومضـى حمـارا!
وقال آخر:
سقط الحمارُ من السفينة في الدُجي فبكي الرفاق لفقده، وترحمَّوُا
حتي إذا طلع النهار أتت به نحوالسفينة موجة تتقدّمُ
قالت: خذُوهُ كما أتاني سالماً لم أبتلعهُ، لأنه لا يُهضم
ـ قال مسكِين الدارميُّ:
أَو حمارِ السَّوءِ إن أَشبعتَهُ … رمَحَ النَّاسَ وَإِنْ جَاعَ نَهَقْ
قال الملتمس:
ان الهوان حمار الذل يعرفه … والمرء ينكره والحسرة الاجد
ولا يقيم بدار الذل يعرفها … الا الحمار حمار الاهل والوتد
هل تعلم ان الشعراء إستشهدوا الحمار أكثر من الأسد وباقي الحيوانات في أشعارهم؟
فلماذا تظلمون معشر الحمير؟ ولماذا تعيبونها؟ أليست أجمل من بعض الحيوانات؟ على الأقل أجمل من القرود والخنازير والضباع والضفادع. ثم لا تنسً ان الحمير هي عجلات الفلاحين والفقراء، و(ترولي) التسوق، ورفيق السفر؛ فهي من أفضل أنواع المواصلات- عند الحاجة إليها، إضافة إلى أنها لا تتعطل، ولا ينفد منها الوقود، ولا تستسلم أمام الصعاب، وتسير في الطرقات الضيقة، وتلتزم بإشارات المرور، على العكس منكم. وإستطرد الحمار: إن اتهام الحمار بالبلادة لظلم كبير، إنها دعابة سخيفة، ونكران للجميل، فلغايات بلاغية يستعمل لفظ الحمار من أجل التشبيه والكناية. وكأن الحمار هو المخلوق الوحيد على وجه الأرض الذي يوصف بالغباء. أهناك من هو أكثر حكمة من الحمير؟ لا تثرثر، وتلتزم الصمت إزاء الكثير من سخافاتكم. اسأل جورج أورويل في روايته “حيوانات المزرعة” عن شخصية (بنجامين) ذلك الحمار الحكيم. اسأل عن توفيق الحكيم وحكمة حماره، وماذا تعلم منه؟ الحمار يفتخر بهويته الوطنية، وله جنسية واحدة، ولا يتنازل عن إصالته، ولا يخدم غير صاحبه، ولا يأخذ أتانه إلى إحدى الولايات البعيدة لتلد هناك فيحصل الجحش الوليد على هوية أجنبية ومزايا، هل هناك حمار يعمل بصفة مخبر سري؟ او حمار يخون وطنه، او حمار عميل تجسس على حمار آخر، او حمار خدم حمارا اجنبيا وقاتل معه ضد فصيلته؟ أما من يحكمونكم من الحمير فلا ينتسبوا الى فصيلتنا، ونحن منهم براء، في حين أنتم لم تتبرأوا منهم. وإستطرد الحمار: لم تكتفوا بإهانتنا بل تحولتم الى أن تتخذوا من لحومنا طعاما لكم، هل يجوز ذلك حسب شرعكم؟ الويل لكم من أفعالكم وقساوتكم علينا!
قال الرجل: إن أكل الحمير محرم علينا، فقد حرم نبينا في يوم خيبر لحوم الحمر الأهلية. ولكن احد الأئمة برر أكلها بقول ” إنما نهى عن أكلها في ذلك الوقت، لأنها كانت حمولة للناس”. وقال شيخ طائفة معروف” يجوز أكل لحوم الحمر الأهلية والبغال وإن كان فيها بعض الكراهية إلا أنه ليس بمحظور”.
قال الحمار: أية كراهية يتحدث بها هذا ال…، وأنتم تتلذوا بلحومنا، يا آكلي لحوم الحمير!
قال الرجل: بعد أن سردت هذه المعلومات الوافرة والأشعار والحكم، هل عرفت أيها الحمار لماذا أحسدك؟ إبتسم الحمار وقال: أنت على حق، ما أنصفك وما أجهلني، فعلا أنا حمار!

علي الكاش