نشرت في جريدة الزمان (العراقية) على حلقتين في 24 – 25 نيسان / إبريل 2022.
إطلالة أُولى
حين هاتفني الصديق سلام الشمّاع طالبًا الكتابة عن تجربة الشاعر المبدع حميد سعيد أو تقديم شهادة عنه، وأردف ذلك بمخاطبة تحريريّة أيضًا، سرّني الأمر لأربعة أسباب أساسية:
أوّلها – أننا ننتمي إلى ذلك الجيل المرهف الحسّاس ذاته والذي شهِد هزائم وانكسارات عديدة، فضلًا عن احترابات وتمترسات، بعضها موضوعي يتعلّق بالاجتهادات الفكرية والمقاربات الجماليّة، وبعضها الآخر أسبابه ذاتيّة أساسها المنافسة لإثبات الأفضليات وادّعاء احتكار الحقيقة في الغالب، لا سيّما حين يهيمن العامل السياسي فيطغى على الوعي الثقافي، ومع ذلك فإن فترة الستّينيّات المحدّدة شهدت خروجًا على المشهد السائد حيث تمّ التعبير عن هموم وتطلّعات وأحلام مشتركة لذلك الجيل الذي دفع ثمنًا باهضًا بشكل عام على الرغم من تعارُض مواقعه، خصوصًا حين ازدرت السياسة الثقافة، وجعلت الأخيرة ملحقة بها “ورأس حاجة” تستعين بها كلّما تقتضي الضرورة وتهملها، بل وتستقوي عليها، حين لا يوجد مثل ذلك الاضطرار.
وثانيها أنّني كنت قد تعرّفت على حميد سعيد كشاعرٍ بدأ اسمه يطرقُ سمعي وقرأتُ له بعض القصائد في فترة صاخبة من الحديث عن القصيدة الجديدة التي تركت بصمة واضحة على الشِّعر الحديث والتي تكرّست لاحقًا من خلال اطّلاعي على تجارب عديدة لأصدقاء عديدين مثل فاضل العزاوي ومؤيّد الراوي وعمران القيسي وصادق الصائغ وفوزي كريم وشريف الربيعي وسامي مهدي وآخرين، إضافةً إلى قراءاتي ومتابعاتي الأخرى، ومنها تردّدي على بعض المقاهي البغداديّة حيث يكثر الجدل الستّيني بألوانه المختلفة.
وكنت خلال السنوات المنصرمة قد تابعت على نحو ملفت تكامليّة جمعت ثنائيّة حميد سعيد والشاعر المبدع سامي مهدي، عبّرا فيها عن تفاعلهما من خلال كتابٍ تبادلا فيه 20 رسالة وجواب، وفيه بوح مكشوف ومُستتر وآراء متباينة في الفكر والثقافة والأدب بعامّة والشِّعر بخاصّة، إضافةً إلى السياسة والإدارة بهمومها البيروقراطية الثقيلة. وكنت قد قرأت بعض هذه الرسائل المتبادلة بينهما في النصف الثاني من التسعينات، ولم أقرأ الكتاب كاملًا وأضع هوامش وملاحظات على ما ورد فيه سوى بعد العام 2003 حيث حصلتُ على نسخة منه من حميد سعيد نفسه حين أهداني إيّاها مشكورًا.
وثالثها – أتذكّر أنّني التقيت حميد سعيد في جلسة مهنيّة ابتدأنا فيها حوارًا مع الاتحاد الوطني لطلبة العراق في العام 1969، حيث كنت مع زميلي لؤي أبو التمّن نمثّل اتحاد الطلبة العام، على الرغم من تخرّجنا من الجامعة، كما أنّ حميد سعيد كان قد امتهن التعليم أيضًا، ولكنّه كان ضمن الطاقم القيادي الأوّل الذي أعلن في تشكيلة الاتحاد الوطني بعد 17 تموز (يوليو) العام 1968، وفي مقالتي عن “كريم الملّا” والموسومة “سرديّة الاختلاف ونبض الائتلاف” – والمنشورة في صحيفة “الزمان” وعنها أخذه “موقع الحوار المتمدن” 8/10/2015، جئت على ذكر ذلك وعلى بعض تفاصيل تلك الفترة التي شهدت نوعًا من العلاقة المباشرة والحوار وتبادل الرأي.
ورابعها – إنّ الكتابة عن شاعر ستّيني ستمنحني الفرصة للحديث عن جيل الستّينيّات وإنْ كنّا من موقعين فكريّين مختلفَين، وهو موضوع ظلّ مؤجّلًا في أدراج مكتبتي لعامين ونيّف، وكنت قد هممتُ بالكتابة عنه بمناسبة مرور 50 عامًا على أحداث باريس (أيار/مايو/1968) وهي أحداث سبقتها وأعقبتها أحداث عراقيّة بذات التوجّه والرغبة في التغيير، إضافة إلى وقائع عربيّة وعالميّة شديدة الارتباط بموضوعنا سأحاول الإتيان عليها، مثل عدوان (5 حزيران/يونيو 1967) والاجتياح السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا (21 آب/أغسطس 1968)، إضافة إلى الانتفاضة الفرنسية (أيّار/مايو 1968) وامتدادات حركة الاحتجاج “زمنيًّا” من أجل التغيير والتجديد للعديد من بلدان أمريكا اللاتينية، وهي محور الحديث عن الحركة الشبابية الجديدة المرتبطة بوعيٍ جديد وثقافة جديدة، وقد سبق لي أن توقفت عندها في الحديث عن بعض ملامح تجربتي الفكرية والثقافية والسياسية في ديوان الكوفة (الكوفة كاليري) بلندن العام 1994 والتي صدرت لاحقًا بكرّاس بعنوان “بعيدًا عن أعين الرقيب – بين الثقافة والسياسة” دار كنوز الأدبية، بيروت، 1995.
وإذا كان “الجيل الستّيني” موحّدًا أو شبه موحّد أو قريبًا من الائتلاف والتواصل والقبول بالآخر في الفترة التي أشرت إليها، إلّا أنّه بسبب المنافسة الشديدة وفيما بعد الاحتراب السياسي انقسم إلى “معسكرين” بلغة الصديق حسن العلوي في تناوله ظاهرة الجواهري الكبير، أي بين معسكر “الموجة الصاخبة” وبين معسكر “الروح الحيّة”، مع أنّني أميل إلى اعتبارهما “فريقين” أو “منتديين” باستخدام لغة الثقافة بدلًا من لغة الحرب، وإن كان ثمّة “انفرادات للجيل”، لكن الأساس ظلَّ منمّطًا بين اتّجاهين تجاذبا فائتلفا، ثمّ اختلفا فتنافرا لدرجة العداء.
وبغضّ النظر عن تصوّرات كل فريق، ولا أقصد الشعريّة فحسب، بل الفلسفيّة التي تقف خلف كل ثقافة، فضلًا عن القُرب أو البُعد عن السلطة، فثمّة اختلافات أخذت تتراكم وتتعمّق باختلاف المواقع، إضافة إلى مآخذ يحسبها كل فريق على الآخر، فحسب فريق “الموجة الصاخبة” يعتبر سامي مهدي فريقه “أكثر حصانة من الآخرين تجاه الأفكار وأكثر حصافة في التعامل معها”، وذلك بسبب تأثّره بالحداثة الغربية وبُعده عن التراث، أمّا فريق “الروح الحيّة” فإنّه يعتبر فريق “الموجة الصاخبة” لم يتمكن من استلهام مفاهيم الحداثة بما تعني من حرّية وعقلانيّة ومدنيّة لكونه ظلّ مشدودًا للتراث بما فيه سقف المحافظة حسب فاضل العزّاوي.
حميد سعيد والستّينيّات
يتعب البحرُ.. ولا
تتعب ماريسا التي
تصعد من ساحلها البارد نحو النار
يا عرّافةً علَّمها الموت سجايا
الحلم الفضّي
بقدر ما ظلّ الشاعر حميد سعيد يكرّر أنّه لم يكن منشغلًا بموضوع الانتساب إلى جيل الستّينيّات الشعري، إلّا أنه لا ينفي تأكيده أنّ هذا الجيل الذي ينتمي إليه “زمانيًّا”، إنّما كان متميّزًا اجتمعت فيه سِمات خاصّة متفرّدة في الائتلاف والاختلاف وفي الوصل والفصل، سواء بتحرّره من الوصاية والأبويّة أم بعفويّته وحساسيّته وفردانيّته أم محاولات اقترابه الجمالي من الحداثة بوسائل جديدة وطُرق تعبير مختلفة لأنواع الثقافة وأجناس الأدب والفن والكتابة وكل ما يتعلّق بالإبداع، ارتباطًا بعمق الوعي بأهميّة ذلك.
قد تكون الذروة الحقيقيّة لتبلور الجيل الستّيني هي الفترة التي تنحصر بين أواخر العام 1963 والعام 1969 أو مطلع العام 1970 حتى وإن سبقته أو لحقته زمنيًّا فترات إرهاص وتجريب وتحدّيات وتجلّيات، لكنّ هذه الفترة المحددّة كانت الأكثر تعبيرًا عن حرّية الاختيار وانعكاسًا تلقائيًّا لتجريبيّة الإبداع، ليس على الصعيد الشّعري فحسب، بل على الصعيد الفكري والثقافي وفي الحقول المختلفة من المسرح والسينما والرسم والنحت والموسيقى والغناء وأنواع الكتابة وغيرها.
وأستطيع القول إنّ كل ذلك كان قد حدث بطريقة مفتوحةٍ وخارج الأيديولوجيّات “الضيّقة”، مترافقًا بإجراء مراجعات نقديّة للفترة السابقة وولاءاتها السياسيّة القديمة، خصوصًا على المستوى الشخصي، وإن كانت تلك المحاولات أقرب إلى إرهاصات لم تُستكمل، إذ سرعان ما انقطع حبل سرّتها وتشتّتت بعض قراءاتها النقدية الأولى، ولو قدّر لهذه الفترة أن تمتد لسنوات أطول لكنّا قد شهدنا نوعًا جديدًا من الأدب بعامّة والشِّعر بخاصّة وأجواء ثقافية أكثر انفتاحًا وأقلّ أيديولوجيّة وأعمق إبداعًا وأفصح نقدًا وأوسع حرّية، ولا شك أنّ حميد سعيد لم يكن خارج دائرة المجموعة المتميّزة التي انشغلت بكلّ ما وقع من حولها وما حدث في داخلها وما جرى إزاءها.
جيل الستّينيّات – الفضاء المفتوح
باعتقادي أنّ جيل الستّينيّات يمثّل فضاءً مفتوحًا حيث تلبّسه قلق خاص، نابع عن رغبة شديدة في إنتاج إبداع مختلف عمّا سبقه، وقد ترافق ذلك مع نزوع جديد بعضه تعويضي عن الهزيمة السياسية والشخصية، في إطار جدلٍ فكري للمدارس السائدة وتمرّد غير مسبوق على بعض أُطرها الأخلاقية، في منحى وجوديّ ارتفع رصيده على صعيد نظري وفي بعض الممارسات التي نُسبت إليها بطريقة العيش والتمرّد على ما هو سائد، إضافة إلى معايير قيميّة إبداعيّة تجاوزت ما هو سياسي إلى ما هو ثقافي وإبداعي.
يمكنني القول إنه على الرغم من الحضور اللافت للجيل الستّيني، إلّا أنّه لا يمكن حصره بتيّار سياسي واحد أو مدرسة فكرية واحدة، أو إنسابه إلى رؤية جماليّة واحدة، وذلك بمراجعة التجربة بعيدًا عن دائرة الاصطفاف المسبقة والانحيازات التاريخيّة. ومع تقدير هذا الجيل وتفاعله مع ما قبله من أجيال، ولا سيّما جيل الريادة الأول في تجربته الشعريّة أو التشكيليّة أو الموسيقيّة أو المسرحيّة أو السينمائيّة أو الكتابيّة، وما حقّقه من منجز على هذا الصعيد، إلّا أنّه كان حريصًا على تقديم تجربته الخاصة برؤاه المبتكرة وصوته المتميّز وبأدواته الجديدة.
لقد كان لدى الجيل الستّيني ميلٌ شديد إلى التجريب والاجتهاد، ونفور من الاقتباس أو التقليد مع اختلاف المنطلقات لكلّ تجربة من تجاربه ولكلّ فصلٍ من فصول الثقافة وحساسية كل مثقف من مثقّفيه، وكمقاربة لاستعادة الحديث عن جيل الستّينيّات كنت قد أعددت مخطوطة لم تُنشر بعد، وهي بعنوان (“انفرادات” جيل الستّينيّات: “الموجة الصاخبة” و”الروح الحيّة” زاوية نظر أخرى)، اعتبرته فيها أشدّ حساسية جماليّة على مستوى التفكير الذاتي والوعي الموضوعي مما سبقه، والأمر لديه كان يقع خارج دائرة التنظير، ومثلما عاش جيل الستّينيّات هذا الواقع في العراق، فقد كانت تجربته في سوريا ومصر وفلسطين ولبنان وبعض بلدان شمال أفريقيا العربية، ناهيك عن تجارب كونيّة مقاربة لذلك، ممّا جعله بعيدًا عن الإيمانيّة التبشيريّة أو الاستسلام إلى تنظيرات جاهزة أو كليشيهات شائعة، حيث ارتفعت لديه نبرة النقد وازدادت العقلانيّة شحنةً إيجابيّة لا سيّما بفيض الأسئلة في الذات والموضوع، مع الأخذ بنظر الاعتبار المتغيّرات الجماليّة العامّة في إطار المشترك الإنساني الذي يقرّب الجوامع ويقلّل من الفوارق ويلاحظ الخصوصية والتميّز في ظلّ بيئات اجتماعية ومحلّية مختلفة، إضافة إلى تعدّد الأصوات، حيث كان المكوّن الجمالي والإبداعي أكثر تأثيرًا من المكوّن الفكري والأيديولوجي.
لقد أضحت المقاهي الستّينية، حلقات أدبيّة وشعريّة وفنّية وثقافيّة مفتوحة، تختلط فيها المدارس الفكريّة والسياسيّة على نحو عجيب ليس في بغداد وحدها، بل في العديد من المدن العراقية العربية والكردية في آن، وكان روّادها إضافة إلى نُخب مختلفة من المثقفين والإعلاميّين المُبدعين بعض طلبة الجامعات، والذي تقارب أعمارهم العشرين عامًا أو ما يزيد عنه بقليل، باستثناءات محدودة، وقد بلغت هذه “المنتديات” حضورًا لافتًا بعد عدوان الخامس من حزيران (يونيو) العام 1967.
ولتوثيق تلك الفترة يمكن القول إنّ مجلّة “الطليعة” المصرية كان لها قصب السبق حين فتحت ملفًّا خاصًا عن الحركة الستّينية الأدبية والثقافية، وفعلت الشيء نفسه مجلة ” الطريق” اللبنانية، وذلك في العام 1969، وكان محمد دكروب قد كتب دراسة عن “الأدب الستّيني” قدّمها إلى مؤتمر اتحاد الأدباء العرب المنعقد في دمشق العام 1971، وأصدر غالي شكري كتابًا بعنوان ” ذكريات الجيل الضائع” قصد به ” جيل الستّينيّات” بالدرجة الأساسية في العام 1972.
وساهمت “مجلة شعر” التي أصدرها أدونيس مع يوسف الخال العام 1957 ومن بعدها “مجلة مواقف” التي أصدرها أدونيس أيضًا في العام 1969، في نشر النتاج الستّيني الجديد على نحو كبير ومتميّز، وعبّرتا في الوقت نفسه عن “الموجة الجديدة” في الشعر بشكل خاص والأدب والكتابة بشكل عام، تلك التي عُرفت فيها الستّينيّات بروحها الحيّة.
وأعتقد أن فاضل العزاوي هو أوّل من لفت الانتباه إلى الظاهرة الستّينية “عراقيًا” وحاول التنظير لها، حين ألقى محاضرة عن “جيل الستّينيّات” في اتحاد الأدباء ببغداد العام 1974، بعد أن كان الحديث عنها عربيًا. أما “فلسطينيًا” فقد كان غسان كنفاني السبّاق إلى ذلك حين كتب عن أدباء الأرض المحتلّة وعرّفنا بشعراء المقاومة، وخصوصًا بعد العام 1967، وجاء على ذكر محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد، والروائي إميل حبيبي والكاتب المسرحي توفيق فياض، وهؤلاء معظمهم ينتمون إلى “جيل الستّينيّات” حتى وإن كان بعضه أبعد زمنيًا.
وكان ذروة صعود الحركة الستّينية على المستوى العالمي في العام 1968، وخصوصًا في فرنسا، التي فاض الحديث عنها بعد ذلك في عدد من البلدان الأوروبية وبعض بلدان أمريكا اللاتينية، ارتباطًا بحركة الاحتجاج العارمة التي شهدتها والتي سنأتي على ذكرها.
مصطلح “التجييل”
بقدر ما كان مصطلح “جيل الستّينيّات” دليلًا على التميّز أو التمايز في الوسط الأدبي والثقافي، فإنه كان مصدر التباس أحيانًا وربّما إبهام وغموض، فلم يُذكر إلّا وثار الجدل حول معناه ومضمونه ودلالته، سواء من الذين نسبوا أنفسهم إليه أو من الذين عارضوه وشكّكوا في أغراضه، ناهيك عن بعض التساؤلات المشروعة عن عملية “التجييل”، فإذا كان هناك جيل ستّيني، فهل هناك جيل خمسيني أو أربعيني، وبعد ذلك سبعيني وهكذا؟ بحيث ينصرف الاعتقاد إلى أن كل عقد من الزمان يمثّل جَدّة أو افتراقًا أو تمايزًا لجيل يختلف عن الجيل الذي سبقه لدرجة “القطيعة” أحيانًا.
ليس هذا فحسب، بل إن المصطلح تعرّض “عراقيًا” حسب فاضل العزاوي للاتهام من جانب جهات سياسية مختلفة، بحيث تم وضعه رديفًا لليأس والهزيمة ومعارضة الاتجاهات الثورية وتقليد الغرب والتنكّر للتراث، والأمر سيّان، سواء باسم “الواقعية الاشتراكية” أو “القيم القومية”، وبتقديري إن السبب الأساسي هو أن الأحزاب الآيديولوجية والشمولية صَعُبَ عليها قيام اتجاهات ثقافية وأدبية خارج سيطرتها.
إن محاولة البحث عن رؤية جديدة وأدب جديد وتجاوز ما هو سائد كان الهمّ الأساسي لنخبة وجدت نفسها خارج السياقات الفكرية والأدبية القائمة التي لم تعد تعبّر عن تطلعاتها، وأخذ مثل هذا الهاجس يتولّد لدى عدد من الأدباء والفنانين والنقاد والكتّاب والسياسيين من مختلف الاتجاهات والمدارس الفكرية، على الرغم من أنّهم لا يمثلون تيارًا واحدًا أو حتى حركة فكرية متجانسة، ناهيك عن تاريخ موحّد، لكن الرغبة في تجاوز القائم والبحث عن وسائل جديدة للتعبير، سواء بالكتابة أو باللوحة أو بالقصيدة أو باللحن والأغنية بالاحتجاج المباشر والرفض للقوالب والكليشيهات، كان هو الدافع في ولوج فضاء الحداثة الجديد والرغبة الطليعيّة والمتمايزة عن الجيل الذي سبقه.
لم يكن إذًا نشوء “جيل الستّينيّات” اعتباطًا، بل ظهر وتبلور وعيه في خضمّ معاناة شديدة وقاسية ومفارقات بعضها متناقضًا وحادًّا، حيث اجتمعت فيه أحيانًا عوامل النجاح مثلما صاحبتها عوامل الإخفاق، كما تبادل فيه اللّاعبون الأدوار بين الحرّية والعسف، بما فيه منظور كل “جماعة ثقافية وفكرية وسياسية”، ولهذا ترى الاختلاف قائمًا وشديدًا في الكثير من الأحيان في تقييم المراحل أو الفترات الزمنية على تداخلاتها وتناقضاتها، ولكن محصّلتها الأساسية كانت شعور عام بالخذلان والقنوط وتبدّد الأحلام.
وهكذا انطلقت ظاهرة الستّينيّات ردًّا على ما ساد من ظروف موضوعية وذاتية عربيًا ودوليًا كحساسية ثقافية وأدبية جديدة جرى التعبير عنها بأشكال متنوّعة في الكتابة والفن والأدب بأنواعه المختلفة، إضافة إلى العلوم والاكتشافات العلمية، وسرعان ما أثّرت تلك الأوضاع على الجوانب السياسية والثقافية والأدبية والفنية والعلمية والاجتماعية والقانونية والموقف من المرأة ونظام التربية والتعليم وكل ما يتعلّق بالأخلاق والسلوك بتمايز أو تميّز اختلف عمّا سبقه، بل كان ناقدًا له، إضافة لما تلاه من حركيّة فكرية وثقافية وسياسية.
وإذا كان ذلك قد حصل في الستّينيّات فهل يا ترى انتهت الستّينيّات أم انتهى مفعولها أم ما زالت تأثيراتها قائمة؟ وماذا حلّ بجيلها؟ أوليس ما يدركنا ويمتدّ إلى ما بعده هو من صُنعها؟ أم ثمّة في الأمر مبالغة وتضخيمًا لواقع الحال؟ ومهما كانت التقييمات فما زال البعض يعيش نستولوجيا تلكم السنوات التي ظلّت تسكنه أو يستحضرها في حنين وشوق خاصّين، بل ويتعرّف من خلال كتابات لصيقة بها على جوانب لم يولِها اهتمامًا كافيًا أو لم يتوقّف عندها طويلًا في تلك الفترة.
استعادات وافتراقات
كان عبد القادر الجنابي قد أعاد “الستّينيّات” إلينا أو أنه أخذنا إليها بمن فيهم جيلنا الستّيني، وذلك حين نشر في العام 1992 عددًا خاصًا من “مجلة فراديس” (4-5) قدّم فيه العديد من روّاد ذلك الجيل أو المشاركين في حركيّته شهاداتهم الخاصة، ثم عاد وأصدر كتابًا في العام 1993 بعنوان “انفرادات الشعر العراقي الجديد”، ولعلّ ذلك ما دفع سامي مهدي للإسراع بإصدار كتاب قال إنه بدأ العمل فيه منذ العام 1978، وبسبب ظروف خاصة وعامة تأجّل إكماله، وصدر الكتاب بعنوان “الموجة الصاخبة – شعر الستّينيّات في العراق” في العام 1994.
وقدّم سامي مهدي في كتابه رؤية توثيقيّة لجيل الستّينيّات ولعدد من روّاده، خصوصًا لتجاربهم الشعريّة الجديدة. ويعتبر كتابه مرجعًا عن جيل الستّينيّات الشِّعري، خصوصًا وقد بذل جهدًا في تدقيق وتوثيق النصوص والموضوعات المنشورة خلال الستّينيّات بالرجوع إلى مصادرها الأصلية من خلال جرد شامل لما صدر وما نُشر بفهرسة كاملة، ناهيك عن جانب مهم من حياة المقاهي البغدادية وروّادها من الأدباء والمثقفين بشكل عام والنقاشات التي كانت تدور بينهم، ولعلّ الجهد المتميّز المبذول في إعداد الكتاب وتبويبه ولغته يعطي للباحث خريطة ثقافية مهمة للتعرّف على حقيقة إبداع جيل الستّينيّات وانشغالاته دون إهمال النتوءات والإقحامات السياسية التي كانت تبدو خارج سياقها في الكثير من الأحيان، ناهيك عن بعض الحساسيات الشخصية وادّعاء الأفضليات، لاسيّما محاولة التقليل أو الانتقاص من دور فاضل العزاوي الذي سخّر صفحات كاملة للحديث عنه، إضافة إلى ما ورد في متنه للردّ عليه، أو السعي للنيل من بعض المثقفين الذين غادروا العراق بسبب القمع في أواخر السبعينيات.
وخارج نطاق بعض الأحكام السياسية، وهو أمر مفهوم، إذا أخذنا بنظر الاعتبار تاريخ صدور الكتاب (في العام 1994)، حيث كان سامي مهدي حينها أحد أبرز الوجوه الثقافية والإعلامية في عهد النظام السابق، وبعض التقييمات الشخصية الذاتية فيما يتعلق بالمنافسة والريادة وإنساب المزايا أو حجبها، أقول بغضّ النظر عن ذلك، فالكاتب والحق يُقال كان أمينًا في النقل والاقتباس والتوثيق.
ثم جاء كتاب فاضل العزاوي “الروح الحيّة – جيل الستّينيّات في العراق” العام 1997، وهو كتاب مؤسّس للحركة الستّينية، التي لا يمكن الحديث عنها دون الإتيان على ذكر دور فاضل العزاوي وإلى كتابه النقدي للواقع والتجربة الخاصة والعامة، وقد احتوى الكتاب باقة أفكار واجتهادات جريئة كان سبّاقًا إلى طرحها منذ أواسط الستّينيّات، ولا بدّ من الإقرار أن فاضل العزاوي كشاعر وروائي وكاتب ظلّ الأكثر أمانة والأكثر تعبيرًا عن جيل الستّينيّات وإرهاصاته الذي يعتبر ركنًا أساسيًا ورياديًا من أركانه، وإذا كان البعض قد بدأ يتأثر بالموجة الستّينيّة حتى بعد انقضائها، فإنّ بعض المشكّكين والناقدين انحاز لها وأصبح من دُعاتها بحكم تغيّر المواقع والمسؤوليات ذاتها أحيانًا.
وبغض النظر عن بعض الردود على سامي مهدي والحساسيات الشديدة باختلاف المواقع، فإن كتاب العزّاوي – “جيل الستّينيّات: الروح الحيّة” قدّم ربطًا كبيرًا بين جيل الستّينيّات العراقي والجيل ذاته على المستوى العالمي، أي العلاقة بين العامل المحلي والظرف الدولي في التعبير عن حركة الحداثة في كتابة جديدة أطلق عليها “الموجة الجديدة” و”الكتابة الطليعية” و”الكتابة المضادّة” و”الكتابة الحرّة” وغيرها، ولعلّ قصده من ذلك هو محاولة خلق فضاء جديد للحداثة.
وفي وقت متأخّر صدر كتاب فوزي كريم الموسوم “تهافت الستّينيّين- أهواء المثقف ومخاطر الفعل السياسي” 2006، حاول فيه أن يقدّم رؤية مختلفة عن رؤية سامي مهدي وفاضل العزاوي خارج دائرة الصراع السياسيوي- الثقافي، لاسيّما بعد احتدامه في أواخر السبعينات. ويمكنني القول بعد هذه المقدمة إن للحركة الستّينية روافد متعدّدة لا يستطيع أحد أن يزعم أو حتى يدّعي احتكارها أو النطق باسمها، طالما كانت هناك رؤى عديدة ومتعدّدة ومتباينة في نظرتها للحداثة والجمال والحق والتنوير، وهو ما تمّ التعبير عنه في الكتب التأسيسية الثلاث، وأعني بها كتب عبد القادر الجنابي وسامي مهدي وفاضل العزاوي، ولذلك اخترت عنوانًا مستوحى من الكتب الثلاث “انفرادات” و”الموجة الصاخبة” و”الروح الحيّة” والتي وضعتها مكمّلة لبعضها في هارمونية حركيّة ذات معنى دلالي في بحثي المذكور.
وعلى الرغم من التهافت الذي تحدّث عنه فوزي كريم، فإن جيل الستّينيّات حظي بشهرة كبيرة إلّا أن نتاجاته لم تحظَ بالنقد والدراسة والتأصيل بما فيه الكفاية، وتلك إحدى المفارقات، سواء تتعلّق بالجيل ذاته أو ما تعرّض له من خارجه من نقدٍ أو محاولة استصغار أو انتقاص، على الرغم من أن بعضهم غيّر مواقفه منه منتقلًا من النقيض إلى النقيض كما جرت الإشارة، لكن بعض الحساسيات والمواقف الذاتية ما تزال قائمة.
استحقاق
وإذا أردنا الحديث عن تجربة حميد سعيد الإبداعية وصيرورتها الستّينيّة وما بعدها فلا بدّ من التوقّف عند تجربة الجيل الستّيني بشكل عام خارج دائرة المبالغة بالتهويل أو التعظيم أو بالتقليل أو التهوين، فإنّ “جيل الستّينيّات” يستحقّ البحث والعناء لأسباب عديدة منها:
أولًا – لما عاشه من إحباطات وما شهده من تصدّعات وما اجترحه من معاناة، حيث تحطّم الكثير من قناعاته وانكسرت غالبية أحلامه، ولم يعد مكتفيًا أو مقتنعًا بما قدّمه جيل “الرواد” الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، مثلما لم يعد يرى في أسلوبه تعبيرًا عن حاجاته الجديدة وتناسبًا مع التطور الذي حصل، لذلك سعى للتجريب في محاولة لتجاوز ما سبقه.
وثانيًا – لما تركه من تأثيرات على الأجيال التي لحقته، فحتى بعد نصف قرن من الزمان ظلّت الستّينيّات عالقة ومتعلقة لدى جيلها وما لحقها من أجيال: تاريخًا ونقدًا وانطباعات وذكريات وشهادات ودراسات، وذلك في محاولة لإعادة القراءة والفهم والتقييم، فالستّينيّات امتازت بنكهة حادّة ورائحة قويّة وتجريبيّة عالية، خصوصًا وقد جمعت الأضداد في جوار أقرب إلى التجانس والانجذاب والتفاعل والتداخل والخصوصية المتميّزة بالاندفاع والتحدّي وإنْ ظلّت الفوارق قائمة لكنّ الحدود اشتبكت على نحو كبير.
وثالثًا – لما حاوله من تجارب لاستشراف الجديد وما سعى لابتكاره من أساليب، مطروقة وغير مطروقة، لتجاوز ما سبقه، خصوصًا وقد جاء بعد جيل الحرب العالمية الثانية الذي وجد نفسه وسط المآسي والعذابات، بما فيها ظروف ما بعد الحرب القاسية في أوروبا، ناهيك عن أوضاع العالم الثالث ومنه بلداننا العربية التي شهدت صدمة الاستعمار وامتدّت منذ بداية القرن العشرين وحتى ستّينيّاته، وصدمة الهزيمة الحزيرانيّة في العام 1967 التي ما يزال العالم العربي يعاني من تأثيراتها فيما يتعلّق بالمشروع الصهيوني، وكان من نتائجها مقايضة التنمية بالعسكرة، والإصلاح والتطوّر الديمقراطي الجنيني التدرّجي بالأنظمة الشمولية، والحكم المدني بهيمنة ضبّاط الجيش والعسكر، ودور المدنية وثقافتها المتطلّعة بالترييف وتقاليده الثقيلة، وهكذا تم قطع خط التطوّر الذي بدأ في عدد من البلدان العربية صاعدًا وإذا به يتجه بالنزول، لاسيّما في مصر وسوريا والعراق وغيرها.
وبغضّ النظر عمّا سبق الستّينيّات أو ما لحقها، فقد كانت حقبة مائزة رائزة، امتدّت تأثيراتها إلى ما بعدها وأنتجت أدبًا جديدًا وفنًّا جديدًا بمدارسه المختلفة، حيث شهدت الحركة الفكرية والثقافية تواصلًا مع ما قبلها ولكن بأفق جديد ورغبة جديدة في التحرّر والتعبير عن خصوصيتها، ارتباطًا ببُعدها العربي وتشابكاته ووصولًا وتواصلًا مع البُعد الإقليمي والدولي والتأثيرات المتبادلة.
الستّينيّات مضَت ولم تمضِ
لعلّ هذه الحزمة من الأفكار والذكريات والأسئلة كانت توشوشني كلّما أتيت على استحضار الستّينيّات، لدرجة أنني لا أستطيع الفكاك منها، فما زالت تدور في رأسي، وتفاجئني بين الفينة والأخرى لتتسلّل إلى نصّي أو تتغلغل في سرديّتي، بل تدخل عليَّ من هذا الباب أو أراها أمامي في تلك الزاوية أو يشعّ ضوؤها من تلك النافذة أو ذلك الشباك، وأشعر أحيانًا أن رائحتها تعطّر أنفاسي فكأنّي أتذوّق خمورها وأستنشق دخان سجائرها وأسمع صراخ حاناتها وجدل مثقّفيها في مقاهي البلدية أو حسن عجمي أو البرلمان أو مقهى الزهاوي أو مقهى أمّ كلثوم أو مقهى الشط أو “مقهى الحاج زناد” أو ليالي السمر أو عارف آغا أو البرازيلية أو “المعقّدين” (مقهى العباقرة كما كان يدعوه البعض تهكّمًا) أو في أروقة الجامعة وكليّاتها المختلفة ونقاشاتها الحامية وحواراتها الساخنة وحركاتها المتفاعلة. وفي أواخر الستّينيّات يمكن إضافة مقهى رعد ومقهى الربيع وشهد الأخيران لقاءات شيوعيّة كما شهد أحدهما أوّل لقاء بعثي- شيوعي في مجال الطلبة كنت قد جئت على ذكره في أكثر من مناسبة.
وكانت تلك المقاهي تضجّ بحضور للعديد من الأدباء والمثقفين أذكر منهم الحضور الدائم للشاعر عبد الأمير الحصيري وشاكر السماوي وعزيز السماوي وعزيز السيّد جاسم وشريف الربيعي وعبد الرحمن مجيد الربيعي ووليد جمعة وعمران القيسي وعبد الرحمن طهمازي وفوزي كريم وفاضل العزاوي ومؤيد الراوي وجليل العطيّة وسامي مهدي وحميد المطبعي وخالد الأمين ومزهر المرسومي، وهؤلاء من علقَ بذهني، علمًا بأنّ هناك أسماء أخرى عديدة لا يتّسع المجال لذكرها، وقد تكون أقرب إلى جيل الستّينيّات من بعض هؤلاء. وفي المساء كان ثمّة مجموعات متفرّقة تلتقي، لا سيّما أيّام الخميس أو بين خميسٍ وآخر في حانات أبو نؤاس منها: سرجون وبلقيس وكاردينيا وآسيا والجندول والشاطئ الجميل وغيرها.
ومن عاش الستّينيّات، لا يمكنه أن يتوقّف عند جانب واحد من جوانبها، فقد كانت مترابطة ومتلازمة إلى حدود كبيرة، ابتداءً من الشعر والأدب إلى السينما والمسرح والفن التشكيلي والموسيقى والغناء، ومن السياسة إلى الثقافة، ومن التربية والتعليم إلى الجنس والمرأة والدين، ومن الرأسمالية المترهّلة والمنضبطة إلى الانفتاح ورفض السلطة، ومن البيروقراطية الاشتراكية إلى حلم الاشتراكية ذات الوجه الإنساني، ومن الديكتاتورية والهيمنة إلى الرفض والدعوة للديمقراطية “الغائب الموعود” و”المنسي المفقود”، والمسألة سيّان بالنسبة للسياسي والمثقّف، وهي تنطبق على الجميع دون استثناء، حتى وإن كانت الفوارق قائمة، وسواء في الحكم أو معارضته، فالأمر واحد وإنْ كان الاختلاف بالدرجة والمدى، أمّا المحتوى والكينونة فهي واحدة على تنوّعها.
1968 العام الاستثنائي
قد ينصرف ذهن البعض باختزال الستّينيّات إلى الحديث عن حركة الاحتجاج الواسعة التي شهدتها فرنسا في أيار (مايو) العام 1968 باعتبار ذلك الحدث مثّل ذروة التمرّد، وبقدر ما كان العام 1968 “عامًا استثنائيًا” بلا أدنى شك على المستوى الدولي وعلى مستوى عدد من البلدان والمناطق، إلّا أنه لا يمكن فصله عمّا سبقه وعمّا لحقه من أعوام، فقد كانت الستّينيّات، وخصوصًا تلك السنّة الفريدة مِرجلًا يغلي على نحوٍ متصاعد في جميع الميادين والحقول، وهو ما يراه الكاتب الصحفي البرازيلي زوينير فنتورا الذي ألّف كتابًا مثيرًا بعنوان “عام 1968 أبدًا لم ينتهِ”، كما ورد في ملف “خمسون عامًا على مايو 1968” الذي نشرته مجلة “كتابات معاصرة” في عددها 110، شباط – آذار، 2019. أمّا دانيال كوهن بندت، وهو أحد قادة الحركة الطلابية التي ساهمت في انتفاضة باريس، ومؤسّس حركة “22 مارس” التي دعت إلى التضامن مع فيتنام، فيرى أن العام 1968 انتهى لدرجة أنه سئم الحديث عنه ولا يودّ تكراره.
ولكن هل انتهى العام 1968 فعلًا، وهل غادرتنا الستّينيّات حقًّا؟ وإذا كان الأمر قد حصل زمنيًّا فما زال “جيلنا” على الأقل تحت تأثيرها، وهكذا ترانا نستحضرها بمناسبة أو دون مناسبة، لأن “روحها حيّة” حسب الشاعر والروائي فاضل العزاوي و”موجتها صاخبة” حسب الشاعر والكاتب سامي مهدي، والعبارتان مستوحيتان من عنواني كتابيهما، وحين شرعت بالكتابة عن حميد سعيد كانت الستّنيّات قد قفزت إلى ذهني لدرجة أنّني وقفت متأمّلًا بذهول أمام ذكريات الماضي وتأثيراتها، لأن عاصفتها لم تهدأ في داخلي وروحها ما تزال حاضرة، بل أنّها تتوثّب بين حينٍ وآخر.
وحين أعيد استذكار بعض الأحداث لأضعها في سرديّات مؤطرة أجدها ترتبط بأكثر من وشيجة بالستّينيّات حتى وإن كانت بعيدة عنها لدرجة أشعر أنني ما زلت أعيشها وأتحسّس بعض تفاصيلها التي لا تبارحني. هكذا أشعر أنها تلازمني وتعيش معي، فتلك الأعوام الفريدة شهدت إرهاصًا في كل المجالات، فمن ثقافة البوب الساحرة (البيتلز والرولينغ ستونز وغيرها) إلى الموجة الجديدة من التمرّد على القصيدة الكلاسيكية، بل محاولة التمرّد على شكل القصيدة الحديثة، والأمر ينسحب على الرسم والنحت والمسرح والموسيقى والغناء والرواية والقصة القصيرة والقصّة القصيرة جدًا، أو “الأقصوصة” وغيرها من الفنون والآداب، إضافة إلى اللغة المتداولة في الصحافة والإعلام، مثلما شهدت تلك الأعوام بداية هزيمة الامبريالية الأمريكية في الفيتنام، والتي كانت حدثًا مذهلًا على المستوى الكوني، ارتبط إلى حدود غير قليلة بانتصار حركة الحقوق المدنية في أمريكا وصعودًا أولًا للحركة المطالبة باحترام حقوق الإنسان، لاسيّما بعد تأسيس منظمة العفو الدولية العام 1961 واتّساع نطاق الثقافة الحقوقية بشكل عام، لاسيّما الربط بين الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
كان رفض الحرب على الفيتنام في الولايات المتحدة يتصاعد مع تصاعد حملة التضامن الدولية، فانتشر اسم هوشي منه والجنرال جياب وأبطال المقاومة، وأثبتت الفيتنام في الحرب كما في المفاوضات براعة كبيرة والتي انتهت بتوقيع اتفاقية باريس سنة 1973، كما اكتسب اسم جيفارا ألَقًا خاصًّا في الستّينيّات وكانت عمليّة اغتياله في 9 تشرين الأول (أكتوبر) 1967 في بوليفيا قد تركت أثرًا معنويًّا بالغًا على العديد من القوى التي حاولت أن تقتفي أثره، خصوصًا بصعود ظاهرة العمل الفدائي الفلسطيني وتبلور رؤية فلسطينية لحركة المقاومة التي اكتسبت زخمًا كبيرًا وشهدت تطوّعًا وانتسابًا وصداقةً من جانب العديد من المثقّفين الذين وجدوا فيها تعويضًا آخر عن هزائم سابقة، ناهيك عن أمل جديد.
وفي الستّينيّات أيضًا نجحت حركة الحقوق المدنية بزعامة القس مارتن لوثر كينغ من انتزاع الاعتراف بالمساواة وعدم التمييز على أساس العرق أو اللون أو الدين أو الجنس أو الأصل القومي، ولكن في العام 1968 اغتيل زعيمها، كما اغتيل بوب كنيدي، شقيق الرئيس كنيدي الذي اغتيل في العام 1963، وكان السيناتور بوب قد اغتيل خلال فترة الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة عقب فوزه في المرحلة الأولى في كاليفورنيا وداكوتا الجنوبية عن الحزب الديمقراطي، واتُّهم حينها المهاجر الفلسطيني سرحان سرحان (24 عامًا) بتهمة القتل في ظروف وملابسات غامضة مثلما هي ملابسات اغتيال شقيقه الرئيس كنيدي، الذي أخلفه الرئيس جونسون ثمَّ تولى الرئاسة من بعده ريتشارد نيكسون أمام هزيمة هيوبورت همفري في تلك الانتخابات.
وإذا أردت العودة عراقيًّا إلى جيل الستّينيّات فلا بدّ من استعادة ما حصل بعد انقلاب 17 تموز (يوليو) العام 1968 من استقطابات وتجاذبات بين أطرافه حتى وإن ظلَّ التقارب بينها قائمًا في الفترة الأولى، لكنّ التباعد كان يأخذ طريقه بين فريقٍ قريب ومؤيّد للحكم الجديد وأخذ يتحمّس له، بل صار جزءًا من “سلطته” الثقافية وبين فريق بعيدٍ، تضيق الهُوّة أو تتّسع معه حتى وإن ائتلف في إطار اتحادات وجمعيات ثقافية ومهنيّة، الأمر الذي انعكس على فلسفة جيل الستّينيّات الذي ظلَّ بعض أجنحته وفيًّا لأطروحاته الأولى كما يعتقد، في حين اعتبر أجنحة أخرى تخلّت عنه بفعل مواقعها في السُلطة. ولا شكّ أنّ متغيّرات عديدة طرأت على المشهد الثقافي انعكاسًا للمشهد السياسي بجوانبها المختلفة، وهو ما أثّر على توجّهات بعض تجارب أطراف من الجيل الستّيني.
قراءة ارتجاعية
إذا كانت قد مرّت مياه كثيرة وسريعة خلال العقود التي تلت العقد الستّيني وعلى أحداثه الكبرى، فإن التوقف عنده ومراجعة بعض تفاصيله إنما تهدف إلى إعادة القراءة الارتجاعية للماضي لا من أجل استعادته أو رواية محطاته كما حدثت بقدر ما هي محاولة القراءة بعقلية جديدة، سواء لمجمل الوقائع أم لمفرداتها، لاسيّما وقد انجلى غبار المعارك القديمة ولم يبقَ سوى ذكراها، تلك التي تستحق استعادتها من خلال النقد وهذا هو الهدف الأول.
أما الهدف الثاني، فإن النقد بحد ذاته يعتبر محاولة خلق أخرى وإبداع آخر جديد يقارب القديم ولكن زاوية النظر إليه تكون مختلفة كما هو حادث لحظة وقوع الحدث، خصوصًا بالقراءة الجديدة للنصوص القديمة، وبما هو متوفّر منها في الذاكرة، بمعنى ليس إعادة تكرار تفاصيلها، بل عبر روايتها على نحو جديد ومن خلال رؤية جديدة.
والهدف الثالث يتجلّى في أن بكل نقد إثارة وتحريك للساكن وتقليب لأوراقه العتيقة، لاسيّما بطرح فكر جديد آخذًا بنظر الاعتبار التطوّر التاريخي والمعطيات الجديدة، وهو في الوقت نفسه إعادة لطرح الأسئلة القديمة بصيغة جديدة وراهنة أي بصورة طازجة، لأن هذا النقد الجديد سيتجاوز زمانه ومكانه. وحسب هيغل فالتاريخ ماكر ومُراوغ، وذلك إذا أخذنا وقائعه منفصلة، ثم إن التاريخ لا يعيد نفسه، وإنْ حصل ذلك ففي المرّة الأولى كمأساة وفي الثانية كملهاة حسب اقتباس كارل ماركس من هيغل.
وأفترض أن الهدف الرابع من النقد يتوخّى إعادة مفردات الرواية منظورًا إليها رؤيتنا الجديدة زائدًا التجربة التاريخية، وكأننا نعيد تفكيك عناصر الرواية القديمة لنؤسس لرواية جديدة، لاسيّما بعد هذا الفارق الزمني، حيث ننظر إلى الرواية من منظور راهن وليس تأريخيًّا.
وبعد ذلك فلا تتكشّف منابع القوّة وتظهر الأهمية لأي مرحلة تاريخية أو حركة فكرية أو ثقافية أو سياسية واجتماعية دون النقد، لأن ما قيمة التجربة دون نقدها أو النظر إليها في وضعها الستاتيكي أي الساكن أو غير المتحرك؟ وستكون التجربة منسيّة أو دون إثارة إذا لم يتم نقدها بالإيجاب أو بالسلب، ففي النقد يتبيّن الوجه من زواياه المختلفة وتتكشف الألوان لا باعتبارها أسود وأبيض لحظة الجدل بشأنها، بل باعتبارها جزءًا من مسار له مرجعيات مختلفة واجتهادات متدافعة ورؤى متمايزة وبالتالي قناعات متفارقة.
وستثير مثل هذه الاستعادة أسئلة جديدة وهذه الأخرى تولد أسئلة أيضًا، وتلك هي العبرة التاريخية من إعادة قراءة الرواية في أحداثها التاريخية، والدرس الذي لا غنى عنه للتفكير بالمستقبل من خلال القراءة الجديدة.
اللغة والرؤية الجماليّة
وإذا كنت قد تناولت ظاهرة جيل الستّينيّات وأنا أتوقف عند تجربة حميد سعيد فلأنّ الستّينيّات شهدت تبلور قصيدته الجديدة، وباختصار وأرجو أن لا يكون مخلًّا، فإنّ قصيدة حميد سعيد بدأت تغتني في هذه البيئة مع أنها بقيت محافظة على حزنها لكنها أصبحت أكثر ميلًا إلى الأسئلة لتأخذ مساحة كبيرة من حوار داخلي خارج دائرة التصنيفات، ومن يقرأ مجموعته الشعرية “الأغاني الغجرية” و”حرائق الحضور” التي يتحدّث فيها عن تجربته في المغرب العربي وإسبانيا، يستعيد القيم التراثية الشخصية والإنسانية المديدة، وفي دردشة مع حميد سعيد قال: إذا نجح جيل الروّاد في الانصراف إلى تكريس الشكل الخارجي لقصيدة التفعيلة، وهو إنجاز مهم، فإنّ الجيل الذي تلاه، وهو منه بالطبع، كان قد انصرف إلى تطوير الحالة الشعريّة من داخلها لتمثل جوهر عملية التجديد.
ولعلّ الأمر لا يقتصر على القصيدة، بل إنه يمتد إلى جميع أشكال الإبداع والكتابة لدرجة أن اللغة التي أخذت تُستعمل في الستّينيّات أصبحت مختلفة عمّا قبلها من حيث العديد من المفردات والمصطلحات والتداول اليومي بفعل تطورات شهدتها تلك المرحلة، واللغة هي تعبير عن رؤية فكريّة وجماليّة في الآن، وحسب أرسطو ليست ثمّة تفكير بدون رموز لغويّة، لأنّ الفكر وفقًا لديكارت يستخدم اللغة لكي يعبّر عن نفسه.
لحجارتها لغةٌ
وُلدت في ظلال النبوّاتِ
واكتهلتْ في نصوص السماءْ
فإن فَتَرَ الوحيُ .. نادتْهُ
أقبِل .. ومدَّتهُ بالعنفوانْ
هي أوَّلُ معجزةٍ .. وحدَّت بينَ القراءاتِ” (من أوراق الموريسكي)
لقد اختلفت لغة حميد سعيد بعد المرحلة الأندلسية عمّا قبلها، وهي تمثّل حياة عاشها وتعلّم منها واغتنى بفكرها واكتشف الكثير بينه وبين الأندلس التاريخية، معشّقًا ثقافته العربية بالثقافة الإسبانية، وتدريجيًّا أخذ يعتبر مرجعيات الإبداع هي مرجعيات الحياة، وبالطبع تلك خلفيّة لمرجعيات الشِّعر ذاته.
نجمةٌ
تقود خطاي إلى بيت مولايَ
يرسم السيد المشرقيُ بابا
على صفحة من كتاب قديم
ويفتحه
يتقحّم أندلس المدونة المغربية
في خطها الشجري
الزمان الذي كان يبحث عنه
لياليه من عسل أسود
والنهارات من كهرمان شفيف
أكثر ما توقفت عنده في تجربة حميد سعيد هو مجموعته الشعرية “أولئك أصحابي” التي صدرت في العام 2015 عن “بيت الشعر الفلسطيني” وضمّت 15 قصيدة، وهذه القصائد استبطنت شخصيات ثقافية كونية، وفيها إحالات عاطفية مهمة منها: قصيدة “الأخوة الأعداء” للروائي اليوناني كازنتزاكي وقصيدة “الأخوة كارامازوف” للروائي دوستويفسكي وقصائد أخرى، فهذه أنّا كاريتنا تتألّق في اللغة العربية.
“أَنّا..
ذاكَ مقعدُكِ
انتظرنا شمسكِ البيضاءَ.. في المقهى القريبة من إقامتنا ببطرسبرغْ
قُلنا.. فليكن ما كانَ وهمًا..
وليكن حلمًا جحيمًا
ولتكوني.. في مفاتنك الثريّةِ..
ما يُذَكِّرنا.. بأَنّا”
حميد سعيد انشغل أو لم ينشغل بجيل الستّينيّات فقد عاش إرهاصاته وشهد منقلباته وانجرف في منعطفاته وخاض صراعاته فولدت قصيدته في ظل اضطراباته.
** هذه الدراسة هي مساهمة في كتاب قيد الطبع بعنوان:
“النشيد البابلي موسوعة عن الشاعر حميد سعيد” **– يصدر قريباً.