حموي ابن الحادية عشر. يبيع حب عباد الشمس على طاولة صغيرة لا تتجاوز أبعادها المتر إلى نصف المتر في منطقة ساحة الطيران على مقربة من باب مطار كركوك الدولي. كثيراً ما اشتري منه بألف أو الفين وأقف لأساله عن أموره العامة وحالة السوق وهو يجيبني على الدوام بـ(الحمد لله).
حمودي هذا لا يهتم بالدراسة بقدر ما يهتم بالعمل والكسب لإعانة أبيه وإن كان نزراً يسيراً.
الجماهير في مدينة كركوك كثيراً ما كانت تتظاهر أمام باب المطار قبل افتتاحه، مطالبين السلطات بالإسراع في افتتاحه وشروعه بالعمل. التظاهرات كانت بالقرب من مكان جلوس حمودي، بل كان مندمجاً مع المتظاهرين. ذات مرة وجدته يحمل على طاولته أعلاماً عراقية ولافتات كتبت عليها شعارات تطالب بفتح المطار أمام الملاحة الدولية. حمودي كان متحمساً جداً، بل كان حماسه أكثر من غيره من المتظاهرين. كان حمودي ينادي من مكانه وبأعلى صوته مطلقاً الهتافات المطالبة بافتتاح مطار كركوك الدولي.
الأمر أثار دهشتي، فليس من المعقول أن يكون حمودي أو أي فرد من أفراد عائلته ذو قابلية مادية للسفر على متن الطائرات فيما إذا تم افتتاح المطار. وليس له أن يقصد دولة ما لغرض السياحة، فهو من عائلة معدومة تشق طريقها في الحياة بصعوبة. هو ابن عائلة ضحت بدراسة ولدها ليجد حمودي نفسه في الطرقات تحت ليهب الشمس ووطأة البرد يبيع حب عباد الشمس ويحصل على دراهم معدودة من هذا وذاك! لماذا كل هذا الحماس لدى حمودي لافتتاح المطار وهو لا يجد ما يلبس من حذاء؟! ماذا يفعل حمودي بين جموع المتظاهرين من الأغنياء والميسورين والمتنفذين؟!
كان حرياً بي أن أسأله:
– حمودي لماذا أنت متحمس كل هذا؟ هل تريد السفر؟
أجابني بابتسامته الهادئة كهدوء رائحة الورود في فصل الصيف:
– أي سفر هذا يا عمي؟ّ! أنا لا أجد ثمن لفة فلافل أشبع بها بطني فمن أين آتي بمبلغ السفر؟ والدي لا يتمكن من ركوب باص ليرجع إلى البيت بعد مشقة يوم عمل طويل. يرجع مشياً وهو متعب للغاية كي يوفر لنا ثمن الباص الـ(كوستر). تريدني أن أركب طائرة بعشرات الألاف ونحن لا نملك ثمن شراء حبة باراسيتول؟!
أدهشني أكثر حتى سألته من جديد:
– إذن لماذا كل هذه الأعلام والهتافات والشعارات من أجل افتتاح المطار؟!
صعقني حمودي بجواب أدونه حرفياً:
– من أجل أهل مدينتي..
لم أفهم القصد من وراء هذه الاجابة طالبته بالتوضيح:
– كيف من أجل أهل مدينتك؟!
قال:
– دعهم يسافرون على متن الطائرات ودعهم يتمتعون بالراحة. فأنا أفرح بفرحهم وأسر لسرورهم. هم أصحاب أموال ولهم الحق بعد حرمان طويل أن يفرحوا وأن يسافروا على متن الطائرات. أنا أطالب من أجل اسعادهم ومن أجل رفاهية مدينتي. وإلاّ فإن سفري أنا وأفراد عائلتي من هذا المطار أمل بعيد المنال ولن نناله حتى في الأحلام..
هل لي أن أضيف شيئاً بعد ما سمعته من حمودي؟ هل لي أن أقف عنده بعد أن لقنني ولقن جميع المتظاهرين درساً في حب الأرض وحب المدينة والتضحية من أجل الناس؟! في زمن المتلونين، حمودي في هذه التظاهرة لا يصيح من أجل نفسه كما هو حال بقية المتظاهرين، هو يريد الخير للأخرين. يريد أن ترسم الابتسامة في شفاه أبناء مدينته ليفرح بفرحهم. يقدم ما يتمكن من عمل ليكون جزءاً مفيداً من المجتمع دون أن يحصل على شيء يذكر لنفسه. بعكس جميع الاخرين الذين لا يخرجون إلاّ خدمة لمصالحهم واشباعاً لرغباتهم وتأميناً لمنافعهم الشخصية. حمودي يحمل حباً حقيقياً لا مزيفاً كما نشاهده لدى الوصوليين والانتهازيين.
هكذا كان حمودي أول فرد التقيه يحمل في ذاته شعوراً بالوطنية الحقيقية المخلصة في زمن فاقت فيه المصالح الشخصية كل الاعتبارات واصبحت فوق المبادئ. الإنسان الوحيد الذي وجدته يعمل على اسعاد مجتمعه وناسه دون مقابل. ماذا لو كان هناك العديد من الذين يحملون شيئاً من وطنية حمودي؟ لكنا الآن بألف ألف خير. طوبى لك حمودي