منذُ بداية عام ثمانين من القرن الماضي , غادر العراق المواطن حمودي عبد عويد من أهالي محافظة السماوى متوجهاً الى اوربا .
بدأ حياتهُ هناك في عالمٍ أخر .. لم يعتد ان يعيشهٌ إلا في الافلام الخياليه
في حين كان بلدهُ العراق على وشكِ الدخول في أتون حربِ الثمانِ سنوات . وحمودي على عكس بلاده دخل عالم أوربا الشاسع .
وبعد بضع سنين راودهُ حـُلم العودةِ الى الوطن لكن بلا جدوى . واستمر هذا الحلم طيلة ثلاث وعشرين عام حتى تحقق .
عاد حمودي الى العراق .. وقد تغير كثيرا وتطور كثيرا وعبّدَ طٌــرقات روحهِ الحزينة في الغربة . والعراق لم يتغير كثيرا ولم يتطور كثيرا .
وحصل حمودي على شهادة علمية اضنها الدكتوراه والعراق لم يحصل الا على الدمار والحصار والاحتلال .
واجتهدَ حمودي اكثر فصار رجل اعمال مهم . والعراق خرج قبل ايام قليلة من عقوبات البند السابع سيئ الصيت لعنة الله على من اسسه وأصدره وأيده ضد شعبٍ مظلوم ورحمة الله على الشهداء .
وكَبُرَت خارطة أفكاره وأصبحت واسعة وصَغـُرتْ خارطة العراق من شماله حتى جنوبه .
تغـّير حمودي بعد سَـفرهِ الطويل والسماوى على حالها لم تتغير كان يتواصل مع زملاءٍ له ايام الدراسة في الاعدادية وبعد عودته فـَقَدَ منهم الكثير بين مُغدورٍ بكاتم او بعبوة او بمفخخةٍ .
عندما غادر البلد كان يحمل افكاراً مهمة حقق قسمٌ منها في الغربة . وبعد عودته لم يستطع ان يحقق اي شيء من افكاره التي اصبحت مبادئ فيما بعد . واكتشفَ اخيراً ان المبادئ التي غادر من اجلها لا تزال سجينة ولم يطبق منها ولا واحد بالمائة. وان المروجين لها في السابق حينما استلموا السلطة استأثروا بها لمصالحهمْ الخاصة وأهملوا رفاق العقيدة خلف ظهورهم .
وأثناء ما كان حمودي يأخذ قسطاً من الراحة في مقهى شعبي وسط سوق السماوى الكبير وقد رمى جسده المتعب في احد زوايا المكان بعد مشوارٍ طويل وهو يقلب محلات وشوارع السماوى متأملا ذكريات الصبا فيها . وإذا بصوت صاحب المقهى الذي ارعبه كثيرا عندما سمعه يصرخ ( انهض انهض واذهب بعيدا اخرج من المقهى ) الا انه لم يبال بصوت صاحب المقهى واستمر بالجلوس واذا بشاب اشعث الراس احمر العينين رث الثياب اظافره طويلة سوداء يجلس بجانبه . بعد ان نظر اليه هذا الشاب نظرة غضب واخذ يسحب السيجارة تلو الاخرى بشراهةٍ ويحتسي قدح الشاي الكبير الذي جلبه صاحب المقهى على الفور واكمل شرب الشاي ونهض مسرعا .
حمودي دفعه فضوله لسؤال صاحب المقهى ( ابو قاسم ) من هذا الشخص الغريب ! فأجابه على الفور هذا (علاء المخبل ) فسال حمودي ما قصة علاء المجنون هذا . قال صاحب المقهى ان علاء المجنون يضرب اي شخص يقف امامه وغالبا ما تؤدي ضربتهُ ان تذهبَ
بمتلقيها الى المستشفى . علاء لم يترك اي شخص من اهل السماوى لم يضربه فخشيت عليك وانت رجل اعمال معروف وابن عائلة كبيرة في السماوى . فقال حمودي ومن اي العوائل علاء المجنون . فقال ابو قاسم علاء ابن مُدَرِسْة العربي الستْ ام علاء اشهرُ من نارٍ على علمٍ في السماوى فقد أُصيبت المسكينة بالعمى منذُ عشرة اعوام وقد اجهدها ولدها علاء وهرب منها وغادرت لتعيش الان في محافظة كربلاء. وبقيَ علاء يجوب الشوارع شارد الذهن وسخ الثياب يدخن بشراهة . لا يأكل ولا يشرب ينزوي داخل الاماكن المعتمة والنائية .
هنا لعبتْ الغيرة العراقية دورها المهم في داخل هذا العائد من سفرٍ متعب فقرر حمودي ان يساعد علاء ويعالجه ويحقق شيء من تلك المبادئ التي حلم بها لخدمةِ احدِ ابناءِ جلدته . فكانت خطوته الاولى انه حصل على هاتف ام علاء واتصل بها وذهب اليها الى كربلاء وطلب منها الموافقه ليتسنى له معالجة ولدها علاء وهي المربية الفاضلة التي خرج من تحت جناحها مئات الطلبة والطالبات الان تعيشُ في كربلاء تتقاضى راتبا تقاعديا لا يكفيها عشرة ايام من الشهر . وافقت وباركت مسعى حمودي عبد عويد بمعالجة ابنها علاء . وكانت الخطوة الثانية انه اتفق مع مدير المستشفى الحكومي بالسماوى وهو الطبيب القديم الصداقة معه . اما خطوته الثالثة فهي انه استأجر اربعة من الشباب الاقوياء وطلب منهم ان يسيطروا على علاء ويقيدوه ويقتادونه الى المستشفى . وبالفعل تم ذلك كله بسرعه .
وعندَ دخول علاء المجنون صحبة حمودي عبد عويد وجماعته الى المستشفى مقيدا صارخاً نافراً لا تفهم ما يقول وعلى الفور قام الدكتور المعالج بزرق علاء مجموعةٌ من الحقنات هدأ بعدها علاء ودخلَ بنومٍ عميق وكأنه لم يتعرف على هكذا راحة منذ اكثر من عشر سنين . لكنَ الدكتور أنزعج كثيراَ قائلا لصديقهُ حمودي . ان هذه الحالات لا نُبقيها في مستشفانا لانها ليست من اختصاصنا نرسلها الى الشماعية في بغداد
( والشماعية مستشفى لعلاج المجانين في بغداد ) وسال حمودي صديقه الطبيب عن نوعية علاج المستشفى التخصصي هذا . فاجابه الطبيب ( الصعق بالكهرباء ) هنا انتفض حمودي قائلا. ايها الصديق كنت ارى في اوربا ان مثل هكذا مستشفيات تخصصية للمجانين تكون اغلى منتجعات العالم يرتادها الفنانون والمثقفون وكبار السن ليقضوا ساعات من الراحه متأملين طبيعة المكان . وحتى ان الحيوانات المتوحشة عندما يجلبونها لدراسة ومعالجة حالاتها الغريبة لم يستخدموا معها اسلوب الصعق بالكهرباء . واستمر الطبيب على رفضه . لكن رجل الاعمال حمودي يعرف كيف تتم مثل هكذا صفقات . فوافق الطبيب على علاج علاء داخل المستشفى . واستمر العلاج .. وفي احد الايام قرر حمودي ان ياخذ علاء الى حمام السوق الكبير ليغسل جسده ويحلق كل شعره وبالفعل في يوم سماويٍ لطيف اقتاد حمودي ورفاقه علاء الى حمام السوق الكبير في السماوى واخذ حمودي يغسل جسد علاء بيده ويحلق شعره الكثيف ويسكب الماء البارد عليه بهدوء .. انطلقت المفاجئة الكبرى ان علاء المجنون تكلم لأول مرة قائلا ( حلو وثاقي ) . فقام حمودي على الفور بحل وثاق علاء . فاخذ علاء الماء بيده واخذ يغسل جسده وينظر الينا برحمة وقطرات الدمع تأخذ حيزاً واضحاً على خديه وهو يحاول ان يخفيها بسكب الماء البارد على وجهه .
فقال له حمودي مبتسما علاء كيف تشعر (مرتاح) فقال نعم ولكن انا جوعان . فأعَدَ حمودي وجبة طعام دسمة وهي عبارة عن رز ودجاج مشوي ومجموعة مقبلات وقبلها ارتدى علاء ملابسه الجديده وكان فرحا بها وسروال ابيض طويل وكل الذين في الحمام سلموا على ( ابن ولايتهم) علاء مباركين سلامته وكان يرد عليهم بهدوء تام. وعندما اكملوا جميعا تناول الطعام قرروا العودة الى المستشفى وفي طريق العوده تفاجىء الجميع بهدوء علاء وكانوا يسلمون عليه باحترام وحمودي المنتصر كان مبتسما خلفه . فقرر الطبيب ان علاء تجاوز مرحلة العلاج وانه اصبح غير عدواني وانه طبيعي جدا ويحتاج فقط الى عدد قليل من الحبوب ليستخدمها فترة ثم يستغني عنها . هذا كل ما في الامر.
فغادر علاء وحمودي المستشفى وذهبا الى السوق وبدا حمودي يشتري ملابس حديثة لصديقه الجديد وبدأ علاء يختار لون القميص وشكل البنطرون ويميز العطور واشترى الذي ناسب ذوقه وقام حمودي ايضا باستئجار غرفة جيدة في فندق السماوى لعلاء واستمر هذا الحال كثيرا واخذ حمودي وعلاء يخرجان يوميا يستذكران مناطق جميلة في محافظتهم الى ان قرر حمودي الذهاب الى كربلاء للست ام علاء وهناك في كربلاء عندما سمعة صوت ولدها لم تصدق فحضنتهُ وكان مشهدا مأساويا .
حمودي اشترى مسكنا مناسبا لهما في كربلاء والمفاجئة ان ام علاء اخبرت حمودي ان علاء كان طالب في السنة الثانية علوم حاسبات الا انه في ليلة وضحاها حصل له الذي حصل ولكن لم اتمكن من علاجه كون جميع المرضى امثاله يعانون ولا يوجد من يعالجهم . الاطباء يكتفون بصعق المرضى بالكهرباء او بحبوب الهلوسة التي تزيد المريض مرضا
يقول حمودي في اوربا كنت اشاهد الاطباء يذوبون عطفا على مرضاهم يتحاشون ان يؤلمونهم اثناء زرق احدهم الحقنة كنت اشاهد رحمة الاطباء وعطفهم على مثل هكذا حالات .
وانا في العراق احاول ان اقنع نفسي باني عملت ولو شيىء بسيط جدا في اصلاح شان انسان عراقي .
حمودي عرض على علاء العودة الى الجامعة الا ان علاء فضل ان يعمل ليعيل والدته ويفكر بالزواج ليبني اسرة كريمة . ولا تزال جهود الخيرين مبذولة في ايجاد زوجة مناسبة له . ودعى حمودي وزارة الصحة في ان تتعامل مع الحالات المشابهة لحالة علاء بعلمية اكثر وتواكب حركت التطور المذهل في هذا المجال وتبتعد عن الصعق بالكهرباء (يقولون قديما الكي اخر العلاج )فان علاء هذا هو نتاج سياسات خاطئة تعاقبت على حكم العراق وأمثاله بالآلاف …