23 ديسمبر، 2024 12:01 م

حملة لإنقاذ “أبو نواس” من “أبو نؤاس”!

حملة لإنقاذ “أبو نواس” من “أبو نؤاس”!

إن هي إلاً ذكريات من ذلك الزمن البعيد!

سيستغرب القارىء من غرابة هذا العنوان وسأكون سعيداً بهذا الاستغراب لعله يدفع به للتوغل في هذا المقال حتى آخره، وسندي ما قاله الشاعر الإنسان شيخ المعرة (الخفيف):
وقبيحٌ بنا وإن َقدُم العه – دُ هوان الآباء والأجدادِ
كنت دون سن الحلم، حين عثرت على كتاب أنيق في مكتبتنا الصغيرة، والكتاب من كتب دار الهلال يحمل عنوان ” أبو نواس حياته وشعره” والمؤلف هو عبد الرحمن صدقي، وعلى وجه الغلاف بورترية مرسومة لرجل وسيم  خفيف اللحية اعتم بعمة “عصفورية” أنيقة، مبتسمٍ بعينيه أكثر من شفتيه، وكان هذا الكتاب يُشبه كتابا آخر لشاعر مغاير هو لطاغور يحمل صورة مشابهة..وقد قرأت في الكتاب الأول ورأيت عجبا من الشعر والفكاهة والمرح البريء وغير البريء وتعرفت على كلمات جديدة ومنها كلمة “مجون” ، “خود” و”شادن” و “جارية” حيث سُحِرت بعالم الجواري المُلغز لما تضمنه من جمال في الوجوه والأصوات، ترفده حسن حافظة للشعر والنوادر وسرعة بديهة؛ واشتقت للجواري وكم تمنيت لو يُبعثن من جديد، بل كم حلمت بواحدة صَبوحِ الوجه حُلوةِ الحديث تحفظ  أشعاراً وتدق أوتاراً وتميد كغصن نقا مكللاً بالذهب لا أكثر لا أكثر !
  وإذ كنت مزهوّا بما وجدت وأردت أن أشرك زملائي في الصف الأول المتوسط بهذا  الزهو، لأريهم كيف عبث أبونواس بحكاية: لقد ضاع شعري على بابكم كما ضاع عِقدٌ على خالصة! وحيث يغضب الخليفة لأجل محظيته خالصة تلك الجارية الحسناء التي تحفظ الشعر وتضرب على العود وتغني شعراً بصوت ساحر فتهتز القلوب وتطرب؛ ألا تستأهل عِقداً نفيساً يُضيء عليها ليكون الجمال نوراً على نور؟!..ثم يندم النواسي على ما كتب فراح يسترضي الخليفة ليغير بلباقة العينَ الى همزة من قوله ليُصبحَ: لقد ضاء شعري على بابكم كما ضاء عقدٌ على خالصة… وقبل أن يدرك الزملاء نهاية الحكاية دخل أستاذ اللغة العربية وأحسّ أننا مجتمعون على شيء ذي بال فصادر الكتاب بعد أن تفحصه مبتسماً  قائلا: هذا كتاب للكبار وليس لطلاب في مثل سنكم؛ فحزنت أيما حزن..ولم تمض سوى أيام قليلات حتى عثرت على الكتاب في مكانه بين الكتب؛  فقد قرأ المربي الودود الأستاذ عبد الهادي صالح الكتاب وسلّمه لصديقه وزميله الوالد..
وكانت مدينتي يوم ذاك مدينة خضراء يانعة يحتضنها دجلة ويطوقها تطويقا حانيا عليها حتى إذا ما تذكر أن أراضيا عطشى بانتظاره سارع وغيّر مجراه بعد أن روى أرضا أزهرت وأثمرت جنيّا من البرتقال والتين والعنب والتمر؛ وروى حقول القمح والقطن..
 عندما زارها ابنُها البار عبدُ الكريم قاسم المعروف بحسن الاستشهاد قال عنها: بلدة طيبة وربٌ غفور (15 سبأ)، وتقع الصويرة على بعد خمس وخمسين كيلومترا عن بغداد باتجاه الجنوب.. ورغم هذا القرب، كان السفر الى بغداد رحلة يُخَطَط لها ونبقى نحن الصغار مؤرقين أسبوعا حتي يأزف الموعد. كانت بغداد لنا يومذاك هي حديقة الأمة، وغير بعيد عنها شارع أبي نواس، وكنت أسمع اللفظ  بصور شتى من أهل بغداد وبخاصة من الجيل الأقدم ” أبو النوّاص”.. وكان هذا الشارع يبهجنا باضوائه الملونة ومقاهيه وأراجيحه و ومزحلقاته وحدائقه ودجلة ورائحة الشواء فنلهو بحراسة الكبار من الأهل ونعود وقد شبعنا لعِباً وأكلاً الى مدينتا الصغيرة التي تخلو تقريبا من مُبهجات بغداد!
كان ذالك العام نحساً جافياً جلب لنا الشؤم نحن بني اليسار، كنت جالسا في أبي نواس وفي مشرب القيثارة حيث الحديقة واسعة والأضواء خافتة والتخفي تقيةٌ واجبة ولا تدري باي وقت تؤب الى الدار خائفا وجلا والهجمة شرسة، فلا مِناص أن تجلس وتقتل وقتا، وتراجع النفس وتستشرف مستقبلا غامضاً وتفكر بالهجرة وستكون الثانية الأبدية ولا تدري أين؟ وكنت أسرح بهواجسي تارة ومع أم كلثوم أخرى وهي تغني (من الرمل):
ياحبيبي كلً شيء بقضاء- ما بأيدينا خُلِقنا تُعساء
نادى بائع “حامض نبع يا خيار”، وانتظرت أن يقترب حتى وصل الى جلاّس خلفي، والتفت فتلاشى البائع، وإذ سرحت مرة أخرى مع هواجس النفس المرتابة حتى جاءني النادل بطبق مترع من الخيار المخلل صًفّ تصفيفاً بإناقة قائلاً : هدية من البائع؛ ومن هو البائع؟ قال هو أحد تلاميذكم في ثانوية بورسعيد !! ما اسمه ؟ قال: لا أعرف؛ نادِ عليه لطفا؛ قال: غادر بسرعة!! شعرت بدعة واطمئنان وقوة بفعل كرم هذا التلميذ المجهول النبيل النجيب..
مامن شاعر جار عليه المؤرخون كالشاعر الحسن ابن هانىء بن عبد الأول بن الصباح الحكمي،(145ه /762م-199ه/813م)  فهو عربي من طيء ومن بني سعد تحديدا، وكنيته أبو نواس، والطعن كان بنسبه وكنيته وأخلاقه والطعن من العيار الثقيل بإمه جُلبان ( وتعني البازلاء) وهي فارسية الاصل..وقد ركّز المؤرخون على حياته من خلال شعره الماجن ومن خلال علاقته بمعاصره الأسنِّ منه الشاعر والبة بن الحُباب(ت170ه/786م)، أستاذه بالشعر والمجون؛ ونسي المؤرخون أن أبا نواس تتلمذ قبل ذاك على الراوية اللغوي خلف الاحمر بالبصرة ونهل منه علوم اللغة والتفسير، وعرف المتشابه والمحكم؛ والناسخ والمنسوخ من الآيات،، والرواية والدراية بشعر العرب حتى أصبح أبو نواس يشار اليه بالبنان؛ ولم يكن أول ضحية للمؤرخين بل سيُظلمُ بعد قرن شاعرٌ عبقري آخر هو ابن الرومي!
لم تشتهر زهديات أبي نواس كخمرياته فالناس محبون للدنيا ومُتَعها، وكانت زهدياته موضوع رسالة دكتوراه للدكتور علي الزبيدي، من إحدى جامعات اسبانيا إن لم تخنّي الذاكرة وطبعت نهاية الخمسينات، وحصل عليها نقاش ودار جدل في مجلة المعلم الجديد بالنظر للأخطاء النحوية الكثيرة والعروضية التي اكتنفت شعر أبي نواس فافسدت شعره، كانت المعركة الادبية بين ناقد لم يفصح عن اسمه والمؤلف نفسه، وقد فتن صاحب هذه السطور بهذه المعركة رغم صغر سنه.. ولا أحب الاستغراق في الخمريات ولا الزهديات أكثر فكل منهما معروف ومبحوث كما في الجوانب الأخرى..
إنما أريد التوقف هنيهة مع كنيته “أبونواس” التي ذهب بها المؤرخون مذاهب شتى واشتهر منها أن له وهو صغير ذؤابتين (قذلتين) تنوسان على كتفيه فكني بهذه الكناية! وهو أمر مشكوك به لأن ذؤابتيه رافقتاه وهو صغير، وهو أمر شائع بل أنني اذكر في طفولتي طفلا  في حيّنا له ما لأبي نواس ولم يُحلق له شعرُه إلا حين دخل المدرسة! والحكاية الاكثر قبولا هو أن أستاذه خلف الأحمر(ت 180ه) العالم بالأنساب قد توصل وتوسم أن نسب تلميذه يرجع الى أمراء اليمن المعروفين بكناهم كذي المنة وذي الحكمة  فلقّبه بذي النواس، وحيث أن الكناية عند أهل العراق كانت ومازالت يعبر عنها ب” أبو” فذاعت كنايته  حتى غدت شهرته وعنوانه؛ لذا فإنّ ما يكتبه البعض ب “أبو نؤاس” فهو خطأ واضح أتمنى أن يزول لنحفظ للشاعر كنايته الصحيحة وسندنا ما قاله شيخ المعرة في صدر هذا المقال. والغريب أن الخطأ فاشٍ عندنا في العراق!
 ولو كان الخطأ من العامة لهان الأمر بل من الكتاب والصحفيين والأدباء والباحثين وإلا فالظلم من أحفاده مضاعف كقول ابن العبد (من الطويل):
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة – على المرء من وقع الحسام المهندِ
رقة شعر النواسي وسهولة انسياب المعاني وخفة ظلها كصاحبها، وموسيقاها على البحور القصيرة خاصة، جعلته ملك الشعر العباسي غير المتوج، فهو شاعر العصور كلها وملهم الشعراء، وقد حفظ اشعاره الظرفاء والمتندرون وغنى روائعه المطربون كفيروز” (من المقتضب):
حامل الهوى تعِبُ – يستخفه الطرب
كما غنى له المطرب العظيم يوسف عمر من النهاوند (البسيط):
والله ما شرقت شمسٌ ولا غربت- إلا وذكرك مقرون بأنفاسي
وسأفصّل ذلك في موضوع “الشعر والغناء”.
ملاحظة: هذه مقالة مستلة من سلسلة : في ألقاب الشعراء والأدباء؛ مع بعض التغيير والأضافة خاصة في موضوع الذكريات.
رام كم هنغ 24/10 /2014