الأمم والبلدان والمجتمعات غالبا ما تفخر بما لديها من حملة الشهادات العليا باعتبارهم ثروة لبناء الكفاءات في أعلى المستويات ، وبلدنا لم يشذ عن هذه القاعدة منذ عقود وسنوات فقد خصصت الدولة كثيرا من الأموال لبناء وتعزيز القدرات منذ نشأت بإرسال الطلبة إلى أرقى جامعات العالم للحصول على أعلى الشهادات ، وشهد برنامج الابتعاث (البعثات ،الإجازات الدراسية ،الزمالات) تطورا ملموسا بعد عام 2003 والذي تضمن شمول آلاف الطلبة بالبعثات على نفقة الدولة في مختلف الاختصاصات ، كما شهدت الدراسات العليا في الجامعات العراقية توسعا واضحا من حيث عدد ونوع الاختصاصات او في عدد المقبولين الذين استفادوا من مزايا التوسعات التي تمت بتوجيه من الدولة او بضغوط من هنا او هناك ، ومن يطلع على حجم الطلبة المتقدمين للدراسات العليا في جامعاتنا كل عام وعدد الطلبة المقبولين الذي لا تتجاوز نسبتهم 10% في بعض الحالات ، يعتقد إن الخريجين من الدراسات العليا ستكون لهم حاضنة قوية وشأن كبير في تولي وتطوير الأعمال بما يحقق أعلى استفادة من الخبرات ، ولكن المفاجأ أن يفترش عدد كبير من حملة الشهادات العليا المتخرجين من الداخل او الخارج الساحات المقابلة لوزارة التعليم العالي او تحت الجسر المحاذي لبناية مجلس الوزراء للمطالبة بالاستفادة من اختصاصهم وشمولهم بالتعيين بأية طريقة ممكنة ، سواء بالقطاع الحكومي او الخاص و على الملاك الدائم او المؤقت بما يجعلهم على تماس مباشر مع حقول العمل لخدمة البلد وتدبير لقمة العيش الكريم وعدم تقادم المعلومات .
وحسب مصادر في نقابة الأكاديميين العراقيين فان العدد المتوقع للعاطلين عن العمل من حملة الشهادات العليا سيبلغ 23 ألف في نهاية العام الدراسي الحالي ، مما يعني إن مشكلاتهم التي بدؤوا بالتعبير عنها منذ شهور من خلال التجمع والاعتصامات ستتفاقم يوما بعد يوم لان اللجنة المالية في مجلس النواب أعلنت في أكثر من مرة عن خلو موازنة 2021 من التعيينات ، وبطبيعة الحال إن هذا العدد لا أمل له في العمل بالقطاع الخاص لأنه لو كانت لهم فرصة فيه لما توجهوا للقطاع الحكومي ، وكرد فعل اعتيادي فان إطالة أمد التجمعات وعدم معالجتها يدفع حملة الشهادات كلا او بعضا لولوج طريقة أكثر قدرة على التأثير فتتحول إلى اعتصامات او مظاهرات او غيرها من مظاهر التعبير ، التي نتوقع أن تكون بحدود المقبولية والدستور باعتبار إن القائمين عليها من صفوة المجتمع كونهم من حملة الشهادات العليا وبعضهم درس في دول أعمق ممارسة في مجال الحرية والديمقراطية قياسا لما موجود في العراق ، ويقول بعض المشاركين بهذه التجمعات إنهم يلتزمون بتلك المعايير ولكنهم يتعرضون لمضايقات خارج القياسات كإخلاء الأماكن التي يتواجدون فيها وقطع الكهرباء والماء عنها ، كما إنهم تعرضوا لشن حملات استخدمت فيها الهراوات وبعض مظاهر القوة التي لا تتناسب بما يقومون به من أشكال التعبير ، وهو أمر يثير استهجان الجمهور الذي يتعاطف بعضا منهم مع مطالبهم في إيجاد فرص عمل لهم بما يحفظ كرامتهم ويبعد عنهم احتمالات التصعيد ورفع سقف مظاهر التعبير .
وتؤشر حالة بطالتهم العديد من نقاط الخلل والاختلال في أداء الأجهزة المختصة في الدولة ، فالمفروض أن تكون القطاعات المختلفة بحاجة ماسة لخدمات حملة الشهادات العليا وبانتظار تخرجهم لأنهم لا يشكلون سوى نسبة ضئيلة جدا من مجموع حملة البكالوريوس ، كما إنهم لم يدرسوا على مزاجهم لان القبول في الداخل يتم بضوء خطط الاحتياجات من الدراسات العليا حسب تخصصاتها ( دبلوم عالي ، ماجستير ، دكتوراه ) التي تعدها الوزارات وتقدمها لوزارة التخطيط كل عام ، والتي تتولى توحيدها وإحالتها إلى وزارة التعليم العالي لتوفير الفرص الدراسية بالعدد والنوع ، كما إن الابتعاث للخارج ينظم من قبل دوائر التعليم العالي التي تأخذ بنظر الاعتبار ندرة التخصص ورصانة بلد الدراسة والجامعة ومدى قدرة جامعاتنا على تغطية الاحتياجات من عدمه ، وهذه الإجراءات هي إثباتا لحق المحتجين في مشروعية ما يقومون به من وسائل التعبير لأنهم يعتقدون إن عدم تشغيلهم بمثابة النكول ، لان المفروض إن درجاتهم الوظيفية مهيأة منذ التخرج باعتبارهم يغطون الاحتياجات الفعلية للوزارات والدوائر والقطاعات ، ومن الغريب أن يبقى الخريجون بلا فرص عمل لهم وقد أنفقت عليهم الدولة ملايين الدولارات ، فهم يمثلون تكاليف أنفقت من الموازنات الاتحادية كاستثمار بشري من الواجب استردادها فيما بعد من الأعمال التي يؤدونها أينما تنشأ الحاجة للأعمال ، كما إن من الغريب أن تمضي وزارة التعليم العالي بسياسة زيادة عدد المقاعد في الدراسات العليا من خلالها او من خلال الضغوط التي تمارس عليها لإجراء توسعات القبول ، ومنها ثلاث توسعات خلال الشهرين الماضيين وخريجيها يفترشون الشوارع في علاوي الحلة وغيرها ليلا ونهار ويتوسلون منحهم فرص العمل ليخدموا الوطن حفاظا عليه وليس الوقوف ضده بأي شكل من الأشكال .
وان مسؤولية الحفاظ على كرامة حملة الشهادات العليا ومنع ( تحقيرهم ) بأي شكل من الأشكال يتحملها الجميع ، وفي مقدمتهم ممثلي الشعب في مجلس النواب وممن تطالب بعض لجانهم بتوسعة القبول في العديد من الحالات ، كما تتحمل الحكومة الوزر الكبير بهذا الخصوص من خلال إيجاد وسيلة عادلة لتشغيلهم والاستفادة من تخصصاتهم بأي قطاع حتى وان كان ذلك من خلال إعارة خدماتهم في الداخل والخارج باعتبارهم جزءا من ثروات البلاد ، وان هذه ( الكبوة ) ينبغي أن تستفد منها وزارة التعليم العالي لاحقا من خلال مقابلة كل مقعد دراسي بفرصة عمل بربط علاقة الطالب بحقل العمل منذ بداية دراسته العليا او من خلال التعاقد مع الجامعات الحكومية والأهلية لسد النقص الفعلي من حركة الملاكات وتنفيذ الخطط العلمية للأقسام ، وان التأخير والتأخر في إجراء المعالجات المناسبة سيضر من نواحي عديدة ، منها إصابة البعض بالإحباط ودفعهم للهجرة خارج البلاد وانخفاض دافعيتهم في التميز والإبداع وتقادم معلومات الخريج وضعف قدرته في مواكبة التقدم العلمي العالمي وتأخير تدرجه علميا من خلال البحوث والممارسات ، كما إن ذلك يعطي انطباعات ورسائل سلبية للدارسين من مختلف المستويات عندما يشاع بان حملة الشهادات يواجهون بالهراوات في أول خطوة لهم بعد التخرج ، ونعتقد إن إيجاد حلول ل 15 ألف خريج حالي هو أسهل بكثير من قيمة ومقدار الجهود التي يبذلها الطلبة في اجتياز الدراسات العليا ، وما تتطلبه من التضحيات العقلية والنفسية والمادية التي تبذل من قبل الطالب وعائلته ، فهي أمور لا يدركها إلا من سبر غور هذا المخاض العسير .