وصلتني ردود كثيرة حول المقالين السابقين (الانتصارات والإصلاح ) (والأحزاب والإصلاح) . وكانت بالمجمل تعبر عن يأس مطبق في إمكانية أن يسير الإصلاح بالطريقة التي يطمحون بها ، وهم أيضا أكثر يأساً من أن تُصلِح الأحزاب الحاكمة نفسها ، حتى انسحب هذا الشعور على مجمل العملية السياسية ، فأضحت صفة التحزب صفة غير مقبولة عند الناس . ولا أجانب الحقيقة إن قلت أن غالبية العراقيين فقدوا الثقة بأن هذه الأحزاب الحاكمة يمكنها إصلاح ما أكملت تدميره من البلاد خلال الحقبة الماضية لأن فاقد الشيء لايعطيه .
لكننا وضمن المنهج الذي رسمناه ، وهو منهج التفاؤل والبناء على الإيجابيات ؛ نرى في الطرف المقابل سباقا محموما على إنشاء أحزاب جديدة ، وتسجيلها رسميا في مفوضية الانتخابات ، وقد تجاوزت الخمسين حزبا . ومن جهة أخرى فإن الأحزاب القديمة ، ومنها الأحزاب الحاكمة تحاول جاهدة إصلاح بنيتها ، وبنية تحالفاتها، وآخرها تنشيط التحالف الوطني ذي اللون الشيعي ، بعد أن تسنم رئاسته السيد عمار الحكيم . بيد أننا لانستطيع إنكار أن هذا المنهج من الإصلاح لايتناسب أبدا وتطلعات الجماهير . وهو الذي أدى بالسيد الصدر الى ارسال شروط جمة للعودة الى هذا التحالف .
اليوم نتحدث عن المرجعية في النجف ، ولاأخفيكم سرا أنني كنت أقدم حرفا وأؤخر آخر لحساسية الموضوع الذي نكتب فيه . ولأن بعض المقلدين يرى أن هذه المرجعية مقدسة ، ولايجوز نقدها أو نقد سلوكياتها . ولسنا هنا على أية حال لهذه الغاية ، ولكنني لابد أن أبين للقارئ ؛ أن البيت الصغير الذي تنطلق منه هذه الأفكار الكبيرة صدره أيضا رحب وكبير لتقبل الآراء النقدية ، ولكن بعض الجاهلين يوغلون في المحبة حد التطرف فيَفقدون إنسانيتهم في النظر الى الناس المفكرين والمصلحين .
ليس من شك في أن المرجعية في النجف كان لها دور فاعل في مسيرة العراق بعد 2003 . وهي لازالت ركناً أساسياً في قيادة البلاد والعباد شاء من شاء وأبى من أبى. ولذلك فإننا نكتب هنا من هذا المنطلق الذي يعي دورها جيدا في تاريخ وحاضر ومستقبل العراق ، بل والمنطقة أجمعها . وهنا لابد من التذكير بما سطرته مرجعية النجف من منجزات وقيم ومبادئ وعلامات مضيئة في تاريخ العراق الحديث بعد 2003 :
1. منذ أول يوم حينما دخل المحتلون ( المحررون ) لم يُسمح لهم بتخطي حواجز المدينة القديمة احتراما لقدسيتها ، وقد استجاب الأمريكان وقتها لأنهم يعرفون أن المعركة مع هذا الرجل وهذه المرجعية خاسرة على الرغم من انتصارهم على الأرض وفرح الجماهير بالخلاص من حكم الطاغية . وبقي هؤلاء يتحسرون على لقاء مباشرمعها طيلة هذه السنوات .
2. المواقف والبيانات في الحفاظ على ممتلكات الدولة وحرمة التعرض لها وحرمة الاعتداء على الناس بحجة الثأر والقصاص وترك كل ذلك الى القضاء والمحاكم .
3. الوقوف بحزم أمام خطط بريمر بوضع دستور دائم للبلاد تكتبه جمعية منتخبة وحكومة ذات سيادة .
4. إنهاء حالة الحرب الخطيرة بين مناصري السيد مقتدى الصدر والأمريكان وانقاذ العراق من براثن حرب أهلية وشيكة في 2006 بمواقف معروفة ومسجلة .
5. دعوة الجماهير الى التصويت على الدستور الدائم للبلاد وأهمية اختيار الأصلح لقيادة البلاد في كل انتخابات .
6. دعوات الإصلاح المتكررة والتنبيه على المظالم والمفاسد وضرورة أن تكون الحكومات ملبية لمتطلبات الفقراء قبل الأغنياء وتقليل الفوارق بين موظفيها وتطوير الخدمات .
7. حماية البلاد من السقوط بعد تهديدات داعش لاحتلال بغداد من خلال فتوى الجهاد التاريخية والتي لبى نداءها كل العراقيين وأعطتهم دافعاً معنوياً كبيراً للدفاع عن أرض العراق .
هذه النقاط بعض ما أسهمت به المرجعية في وضع لمساتها على خارطة العراق الجديد . بيد أن الذين أيدتهم وساندتهم لتسنم الحكم ، خذلوها يوماً بعد يوم . فنبهتهم وحذرتهم فلم يستجيبوا . فأوصدت أبوابها أمامهم ، ومنعتهم من التحدث باسمها أو التشدق بانتمائهم لها ، وبقيت تعاتبهم وتحثهم على الإصلاح من على منبر الجمعة حتى بُح صوتها . لم يعِ هؤلاء مطالبها النابعة من الناس بأن الدولة وقيادتها شيء ، والانتماء للطائفة والمذهب شيء آخر . فهي لاتدعو إلا إلى دولة مدنية تُحترم فيها الإنتماءات كلها ، ولافضل لمواطن على آخر إلا بعمله وإخلاصه ، دولة كريمة عادلة ، دولة تحارب الفساد والفاسدين وتعلي من الصلاح والصالحين .
ولكن ماذا بعد، فهل فقدت المرجعية ثقتها بأحزاب السلطة التي مافتئت تلتصق بها ؟ أم أنها فقدت الثقة بالحكومات التي تنتجها هذه الأحزاب ؟ أم لعل مشكلتها مع بعض الشخصيات التي تسنمت الحكم في العراق ؟
تلك أسئلة مهمة والإجابة عنها يعطينا فكرة جيدة عما يمكن اقتراحه من حلول للمرحلة المقبلة . وإذا اعتبرنا أنها كلها تؤدي إلى سبيل واحد الذي يمكن اختصاره بوصفها الشهير ( المجرب لا يجرب ) ، فيمكنني أن أقترح على المرجعية مايلي :
1. فتح بابها أمام الحركات السياسية والأحزاب التي لم تشارك في السلطة ولم تتلوث بالفساد أو شبهاته لإعطائها فرصة مساوية لأحزاب السلطة حينما شقت طريقها سابقا .
2. دعم التجمعات الشبابية والأكاديمية المستقلة من خلال مواصلة اللقاء بهم والإشادة بهم والإعلاء من شأنهم وحسب المبادرات والفعاليات التي تسهم في الإصلاح .
3. ذكر المصلحين الحقيقيين والإشارة لهم بالبنان سواء أكانوا وزراء أم وكلاء أم مدراء أم موظفين فذلك مما ينفع الناس والإصلاح .
4. إن أخطر مايمر به إصلاح البلاد اليوم ؛ هو تبني الفاسدين لشعارات الإصلاح. بل والأكثر خطراً أن رؤوس الفساد اليوم يمتلكون القرار ، وينفذونه كل يوم لإزاحة أهل الكفاءة من الدولة ، وخاصة من هم في الخطوط الثانية والثالثة. وقد اتخذوا شعار الإصلاح مثل ( كلمة حق يراد بها باطل ) . وهذا أخطر ما تمر به البلاد اليوم . فعلى المرجعية أن تؤكد على من له الحق في ذلك ، وسحب البساط من هؤلاء الفاسدين الكبار .
5. بلا أدنى شك ؛ فإن أغلبية أحزاب السلطة اليوم ، والتي تمثل المكون الذي يحترم رأي المرجعية تقليداً واستئناساً ، إنما تسنمت مواقعها من خلال دعوات المرجعية في كل انتخابات لانتخابها . فمنذ زمن اللجنة السداسية ، والإئتلاف العراقي الموحد ، والتحالف الوطني ، كانت الفتاوى والتوجيهات للمعتمدين كلها تتضمن إشارات قوية لانتخاب هذه الأحزاب . وعلى المرجعية اليوم وفي الانتخابات المقبلة أن تصحح هذه المسارات فتكون واضحة بما لايقبل التأويل بعدم إنتخاب هذه الأحزاب التي مازالت مصرة على سلوكياتها المناقضة لمطالبها ومطالب الجماهير .
هذه النقاط ، ومثلها غيرها إذا أراد أهل الشأن أن أشاركهم إياها لغرض وضع الخبرات التي اكتسبناها من خلال عملنا الأكاديمي والسياسي والإداري في خدمة البلاد . وهي دعوة أيضا لمن يجد في نفسه الأهلية والخبرة والمعرفة أن يمارس هذا السلوك الإصلاحي . ولا أظن أن مرجعية بحجم الوطن ستصم آذانها عنا بل هي حتما ستكون أرضا خصبة لكل بذرة إصلاح .
ولكننا في ختام الأمر ؛ نؤكد أن حركة المرجعية أوسع من أطروحتنا ، وهي أبعد نظرا من مقترحاتنا . ونحن هنا لانمارس إلا فعلا مضافاً لعله يرفد أهل الإصلاح والمطالبين به بزخم مدني يضمن تعميق أواصر الثقة .