في مقالتي السابقة أكدت على مبدأين :
أولهما.. أن خطابات التشاؤم والتذمر والتخوين وماشابهها لن تنفعنا في إصلاح البلاد والعباد بل العكس تماما إذ ستكون عقبة كأداء وحاجزا كونكريتيا لما تولده في داخل النفوس من الهزيمة والضغينة واليأس..ثانيهما.. أن ” الأمن خط أحمر” ولا خط أحمر آخر يعلو عليه.. وانتصاراتنا هي مصدر قوة للمجتمع وأساس متين لبناء الإصلاح بشرط استثمار النصر لبناء الثقة واسترجاع ماتسرب منها بسبب مكابح الفساد والتطرف..
وقد أخذت على عاتقي أن انطلق في الحلول والمقترحات من أرض الواقع وإن كان مأساويا فلا نفع في حلم لا واقع ينطلق منه فلا عصا موسى هنا بيننا ولا مصباح علاء الدين ولا الأمنيات الثلاثة والأميرة النائمة..
هنا أرض الواقع الذي شئنا أم أبينا يؤثر فينا ونؤثر فيه.. فهو المسيطر إن تكاسلنا وتقاعسنا وسمحنا للمعتوهين والحمقى والفاسدين والسيئين والأشرار أن يستولوا عليه.. ونحن المسيطرون إن فعلنا العكس وشمرنا عن سواعد الإصرار والعزيمة وإعلاء الحق وتمجيد الفضائل والعمل الصالح المنظم والموحد..
كثيرون وبنسب متفاوتة_وأنا منهم_ يعتقدون أن العملية السياسية وصلت الى طريق مسدود بمعنى آخر أنها لن تنتج حلا لما تعانيه البلاد من فساد وخلل في الأداء.. ولما كانت الأحزاب المشاركة في العملية السياسية هي من يقع اللوم والتقريع والاتهام عليها صار من الواجب علي هنا في هذا المقال والتزاما بالمنهج الواقعي والذي ينطلق من الإيجابيات أن أترك هذا اللوم والتقريع والتخوين والاتهام لنقدم الحلول والمقترحات الكفيلة بأن تستعيد بعض هذه الأحزاب ورموزها رونقها الذي عاشت به السنوات الأولى بعد 2003… فهذه الأحزاب السياسية فيها بعض الإيجابيات التي يمكن أن تكون انطلاقة نحو الإصلاح السياسي ليعاضد الإصلاح الأمني الذي ناقشناه في مقالتي السابقة.بعيدا عن التشويه المستمر لحركة هذه الأحزاب على اختلاف توجهاتها وانتماءاتها والذي مارسته القوى البعثية والجهل العربي والأنظمة التي خونت كل شيء بعد سقوط صدام واعتبار ان الشيعة هم الحاكمون.. والمتعاونون من السنة هم المرتدون.. والكورد هم الخونة والعملاء.. فإن هذه الأحزاب لم تستطع سلوكا وعملا واستراتيجية أن تفضح هذا التشويه وتسكته بل أسهمت هي نفسها في تأكيده بسبب ممارسات الفساد والمحاصصة والطائفية والقومية الضيقة التي انتهجتها لجلب جمهورها فكان سيفا ذا حدين انعكست آثار ذلك عليها سلبا ففقدت الجماهير او على أقل تقدير شريحة واسعة ثقتها بهذه الأحزاب. وانسحب فقدان الثقة على كل العملية السياسية حتى أضحى تأسيس حزب جديد أو حركة وطنية حقيقية أقرب الى المستحيل..ولكن هذا النزوع لم يصنعه سوى من يريدون بالعراق شرا ثم استطاع هؤلاء بثه في كل النفوس أملا بالقضاء على هذه التجربة والالتفاف عليها وارجاع العراق الى ماكان عليه قبل 2003 أو تقسيمه كما جاء في ورقة بايدن..
واذا كان هناك من يرى أن هذه الأحزاب لن تنتصر لنفسها وعلى نفسها ولجمهورها وللعراق بسبب تركيبتها وأهدافها وبناءاتها فإنني هنا أقترح عليها مايلي لعلها تكون عند حسن الظن كما كانت في بدء العملية السياسية..
أولا.. على الأحزاب الكبرى اليوم وتحالفاتها أن تعي جيدا أن ثقة الجماهير بها هو أهم عامل لبقائها وعليها أن تسعى جاهدة لتفعيل النقد الذاتي والاستماع الى من هو خارجها بحرص شديد وخاصة أولئك الذين يبتغون نجاح العراق وتجربته بعد 2003 في تخطيه هذه التحديات فهؤلاء يكتبون بتجرد خصوصا من خاضوا التجربة وفهموا التوجهات السياسية وكانوا جزءا فاعلا فيها..
ثانيا.. اذا كان واقعنا لايسمح الا بأحزاب مبنية على جمهور غير متنوع فالأحزاب الكوردية جمهورها كوردي والأحزاب في جنوب العراق ووسطه جمهورها شيعي والأحزاب في محافظات أخرى جمهورها سني فإن على هذه الأحزاب التخلص على أقل تقدير من هذا الجمود وتنويع قياداتها والحث على ذلك من خلال ترشيح متنوع أي أن يمارسوا نكران الذات والإيثار وترشيح المكون الآخر فهذا مما يقرب النفوس ويسقط مافي أيدي الأعداء .. أما الأحزاب التي اجتازت هذا التقوقع فعليها أن تفرد مساحة أخرى حقيقية للآخر..
ثالثا.. يجب أن تتفهم الأحزاب أن صلاحها هو صلاح الدولة وأن دعمها للإصلاح هو في التخلي عن مصالحها الحزبية وعن اعتبار المناصب مغانم لرفد أحزابها بالأموال والجمهور وأن لايكون ذلك بالكلام فقط فالجماهير ليست مغفلة.. كما أن أعداءهم التقليديين والجدد واقفون لهم بالمرصاد.. فنحن اليوم نسمع عن ضغوطات وتدخلات تمارسها الأحزاب على الوزراء التكنوقراط الجدد فضلا عن الوزراء الآخرين. ونرى أيضا بعض الصفقات المشبوهة وعودة لسلوكيات مرفوضة وكل ذلك لن يوصلنا الا الى هاوية أخرى..
رابعا.. مكاشفة الجماهير عن خططها لضرب الفساد وفضح رموزه والتخلي عن المكاتب الاقتصادية بصورة واضحة ودعوة النزاهة لكشف المتسترين بظلها وعزل من طالته الشبهات وتجديد الدماء في المناصب الموكلة لها ترشيحها ووضع قواعد صارمة وعقوبات مشددة لمن يتهم بالفساد منهم..
خامسا.. السؤال الأكثر احراجا هو.. هل تستطيع هذه الأحزاب انتاج نظام ديمقراطي حقيقي داخلها يتيح تغيير قيادتها كل أربع سنوات كما هو حال كل الأحزاب في الدول المتقدمة. فقاعدة أن(( الدولة الديمقراطية لاتبنيها إلا أحزاب ديقراطية)) حقيقة لاشك فيها ومن دون توفر هذا الشرط سنبقى نراوح مكاننا إذا لم يكن إلى الوراء در .. ويمكن لهذه الأحزاب أن لاتتخلى عن رموزها بطرق متعددة وحلول متنوعة..
هناك مقترحات أخرى يمكن إضافتها لكننا نعتقد أن هذه النقاط الخمسة كافية لخلق حركة إصلاحية في الأحزاب ومن ثم تتبلر كإصلاح سياسي..قد يعتقد بعضنا أن هذا كلام لا طائل منه وأن هذه الأحزاب لن تغير شيئا مما ذكرناه أعلاه بيد أن بعض التغيرات التي طالت بعض الحركات السياسية وفي جو مشحون بالكلام عن الإصلاح وضغط جماهيري ومرجعي ودولي حينها ستجد هذه الأحزاب أن مصلحتها تتطلب أن تمارس الإصلاح من داخلها وإلا فإن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك..
المقال السابق.. الانتصارات والإصلاح
المقال اللاحق.. المرجعية والإصلاح