22 ديسمبر، 2024 9:44 م

حلم الدولة القوية المركزية وصدام الحضارات

حلم الدولة القوية المركزية وصدام الحضارات

طرح “فرانسيس فوكاياما” نظرية نهاية التاريخ والإنسان الأخير،بعد انهيار المعسكر الإشتراكي في أوروبا،وجمهوريات الاتحاد السوفياتي،منطلقاً من فكرته أن الديمقراطية الليبرالية في أمريكا والغرب ستكون نهاية للصراعات الآيدولوجية والسياسية وهي التي ستنتصر على جميع الآيدولوجيات وبقايا الأنظمة الشمولية الإستبدادية،مستوحياً فكرة نهاية التاريخ من رائد الفلسفة المثالية في عصر النهضة الألماني هيغل،ونهاية الإنسان من مواطنه الفيلسوف فردريك نيتشه،شارحاً نظريته حول فكرة نهاية التاريخ ليس بالمعنى الزمني المتعارف عليه،أي بتوقف الأحداث وحركة مسارها في العالم،وإنما بوضع حد للأفكار الآيدولوجية ونهايتها بشكل شبه كلي مع انتشار قيم الليبرالية الديمقراطية الغربية. وقد بشر بولادة بديل حضاري جديد للنظام العالمي متمثلاً بنهاية الصراع الطبقي التاريخي بين السادة والعبيد الذي سيجد نهاية واقعية له في سوق الديمقراطية الغربية،وبالتالي فإن المستقبل سيكون للرأسمالية أو الإشتراكية الديمقراطية،لكن فوكوياما تراجع فيما بعد عن نظريته وحذا حذو غيره من مفكري وفلاسفة الغرب في نظرتهم الاستعلائية المركزية تجاه شعوب الشرق وحضاراتها القديمة وهو الداعي إلى وجود هوية مركزية أوروبية موحدة لها طابع سياسي واقتصادي وثقافي مقابل التفتت واللامركزية في الحضارات الأخرى.
لكن النظرية التي أثارت جدلاً في الأوساط الأمريكية والغربية،هي نظرية صدام الحضارات لصاحبها “صموئيل هنتغتون”،وهي عبارة عن مقالة نشرها هنتغتون في مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية سنة 1993 قبل صدور كتابه المعنون”صدام الحضارات إعادة صنع النظام العالمي” سنة 1996 معلناً إن الصراعات في العالم لن تنتهي ولكنها ستأخذ أشكالأً أكثر عنفاً ودموية من الصراعات العقائدية في الحرب الباردة؛لإنها ستكون على أسس ثقافية وحضارية،وربما دينية أيضاً. اعتبر النقاد أن آراء وكتابات صمويل هنتغتون تأثرت إلى حد كبير بالمؤرخ البريطاني آرنولد توينبي الذي اتخذ من الحضارات والأديان مبحثاً لدراسته .
تطرق صموئيل هنغتون في كتابه صدام الحضارات إلى أن البشر بعد الحرب االباردة لا يمكن أن يعيشوا في توافق وانسجام بل سيعيدون انتاج هويات ثقافية إثنية تستند على الدين والتاريخ،وهي التي ستكون المحرك الأساسي للنزاعات بين البشر،وإن الحضارات التي يمكن أن تحل محل النزاع الآيدولوجي بين الرأسمالية والشيوعية هي عدة حضارات محتملة :- الحضارة الغربية،الحضارة اللاتينية،الحضارة الصينية،الحضارة اليابانية،الحضارة الهندية،الحضارة الأفريقية،الحضارة الأرثوذكسية،الحضارة البوذية،الحضارة الإسلامية.
من أهم المحاور التي يشير إليها صموئيل هنتغتون في كتابه هو تعدد الأقطاب في العالم،وإن العالم قد بدأ حقبة تاريخية جديدة،تتميز باختلاف موازيين القوى بين الحضارات،فالحضارات الآسيوية تتوسع اقتصادياً وعسكرياً على حساب قوة الحضارة الغربية المهددة بالتراجع والإنحدار،وإذا أراد الغرب أن يحافظ على وجوده كحضارة كونية شاملة تسود العالم عليه أن يدخل في صراع مع الحضارات الأخرى وخصوصاً الإسلامية والصينية،التي حذر منهما كثيراً،فقد ركز كثيرا ً على الإسلام وقال بأن حدوده دموية وله مرجعيات تاريخية عنيفة ما زالت ظاهرة ومتحققة في صراعات الدول الإسلامية مع الأديان والثقافات الأخرى،واستشهد ايضا ً بأمثلة عديدة لدول اتخذت أنماطا ً جديدة من الصراع،معتمدة على أسس ثقافية ودينية كحرب البوسنة والنزاع بين أرمينيا وآذربيجان وغزو العراق للكويت وموقف العالم الغربي والإسلامي من حرب الخليج سنة 1991الذي تمثل باصطفافات سياسية لدول كبرى غير التي كانت عليها قبل تلك المرحلة.
يستبعد صاموئيل هنتغتون كافة الحضارات في صراعها مع الغرب ويبقي على الحضارتين الإسلامية والصينية.ويتوقع إن تلك الحضارتين تشكلان خطرا ً قادماً على الحضارة الغربية بشكل عام والهوية القومية الأمريكية بشكل خاص؛لما تتمتعان به من أصالة وجذور قوية ترفض الحداثة الغربية. وهو يقترح مجموعة من السيناريوهات ذات الحبكة الدرامية طويلة الأمد على الساحة،فهو يرى بضرورة وحتمية الصراع والتصادم مع الحضارة الإسلامية بتقسيم العالم إلى غرب وإسلام؛لكي تحقق الحضارة الغربية سيادتها الكونية الشاملة،كما يرى ضرورة اندماج الحضارة اللاتينية والغربية واليابانية في منظومة واحدة ذات قوة اقتصادية وعسكرية تحقق التوازن الدولي،وأن تعمل بعض الدول على محالفة الغرب وتغريب مجتمعاتها مثل تركيا وهذا ما يسمى بالتحديث والتغريب،وما تبنته أيضاً بعض المنظومات الثقافية في الشرق الأوسط القطيعة التامة مع الجذور والتاريخ ومواكبة العولمة والتطور الغربيين،مما أدى إلى تشظي الفرد واغترابه أيضاً داخل المجتمع.
هكذا بدأ هنتغتون بناء عالمه من فكرة نازية ناعمة لها دلالاتها الفلسفية والمعرفية إلى نسق ثقافي درسه الأكاديميون والمختصون في علم السياسة والحرب إلى استراتيجية أمريكية بعيدة المدى بدأ العمل بها على أرض الواقع.
إن إشعال المناطق ذات الأغلبية المسلمة والبوذية والكونفوشوسية بالحروب الداخلية والاقتتال العرقي هو ما يحقق سلامة وأمن الحضارة الغربية في صراعها مع الحضارات الأخرى وهذا ما يحصل الآن في الدول العربية والإسلامية وبعض مناطق الهند والصين .
إنه عالم بلا مركز تحكمه الفوضى الخلاقة والصراعات الدامية،عالم لا يعترف بالقيم الإنسانية للتعايش والحوار،بل غابة مظلمة يسودها صراع البقاء،عالم يُهدم ويُبنى من لحوم البشر ودمائهم،عالم يستحضر التاريخ مسرحية ميثولوجية تتصارع فيها آلهة العالم القديم لتحكم الأرض الجديدة.إنه عالم هنتغتون المرعب.
العرب والمشروع الوطني (عالم بلا أحلام)
لم نجد في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ( عندما كان اليسار موضة ذلك العصر) هذا الخلاف التاريخي المضحك بين السنة والشيعة وهو يطفو على ساحة الصراع العربي آنذاك. العرب ومنذ تكوين دولهم في بداية القرن العشرين لم يملكوا مشروعاً انتاجياً في الفضاء العالمي يميز خصوصيتهم الجغرافية ومسار تطورهم التاريخي،فأصبحوا استهلاكيين لماكنة الأفكار الغربية على الصعيد السياسي والاقتصادي والثقافي وفي كل مرة يقعون ضحايا لصراعات كبرى وتحالفات إقليمية جديدة في المنطقة. الدول الكبرى مازالت ترانا شعوباً تابعة ومستضعفة،تستطيع أن توجه دفة وعينا متى شاءت مصالحها وأن تغرق المنطفة في بحار من الدم متى شاءت،وإن تشن علينا حروبها المباشرة وغير المباشرة ما دامت ترى في ذلك مبررا أخلاقياً يعيد توازن العالم.
بدأ البنتاغون العمل بطريقة غير مباشرة على تعزيز الهويات الثقافية الدينية في الشرق الأوسط قبل فكرة صدام الحضارات بسنوات عديدة.ترجع أصولها إلى المستشرق البريطاني برنارد لويس الذي قدم دراسته لمجلة البنتاغون سنة 1980 يقترح فيها إعادة رسم خارطة جديدة للشرق الأوسط وإعادة تقسيم المنطقة بإنشاء أكثر من ثلاثين كياناً سياسياً جديداً. لذلك أمريكا تضرب المركزية دائما و تحاول إضعافها خصوصا ً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي الذي كان داعما لبعض الأنظمة الشمولية في العالم.من مصلحة أمريكا أن يكون الهامش قوياً متمثلا بالاقليات والعرقيات،أما الدولة القوية التي نتمناها وننظر لها ثقافيا ً في مقاهي اللغو والثرثرة،إما أن تكون ذات نظام شمولي مركزي وهذا مستحيل لأن القسم الأكبر والفاعل من دول المنطقة اجتازهذه المرحلة والقسم الآخر مازال في طور الاجتياز والعبور إلى الضفة الأخرى،وإما أن تكون لدينا دولة ليبرالية قوية مبنيةعلى أساس حقوق المواطنة والكفاءات وتقبل الآخر،وهذا غير متحقق في المستقبل القريب؛لأننا نفتقر لعدة عوامل منها : -1-عدم وجود مجتمع حديث يتقبل الحداثة كمفهوم أممي صالح لكل المجتمعات إنطلاقا ً من البنى التكوينية لتاريخ وجغرافيا الشعوب.
-2 افتقارنا للوعي الفردي الحقيقي المنسلخ عن ثقافة القطيع
3- الإعاقة الروحية والفكرية التي أصابتنا بعد خروجنا من صراع الآيدولوجيات المتناحرة وقمع الأنظمة الشمولية
4- الكسل الفكري وإشكالية الهوية الطائفية التي تستمد قوتها ووجودها من المقدس التاريخي.
5-الماكنة الإعلامية الدموية ودورها في التحريض على العنف وإلغاء الآخر.
6- الحروب وتبعاتها المدمرة على الفرد اقتصاديا وثقافيا واجتماعياً .

“أسئلة بلا إجابات”
ماهو السر الغامض وراء مهارة اللاعبين الكبار على الرقعة الدولية؟

لماذا لم نستفق من سباتنا إلا ونحن تحت عجلة التاريخ الطاحنة ؟
هل سنعي دورنا الحقيقي وهويتنا المؤثرة في هذه المنظومة الكونية المترابطة
أم نسلم أقدارنا ومصائرنا للصيرورة المتمخضة عن الحروب والصراعات التي ستجتاح المنطقة على مدى الأيام البعيدة القادمة ؟
كلها تبقى أسئلة بلا إجابات، لكنها أسئلة مرهونة بكينونتنا وإحساسنا المقدس بالوجود. .