في رواية الاخوة كارامازوف للكاتب الروسي دستويفسكي التي وضعها في القرن التاسع عشر، رأى ( اليوشا )ذات ليلة هذا الحلم الكئيب: في عصور محاكم التفتيش التي ازهقت على آلات التعذيب ارواح المئات من البشر في اشبيلية باسبانيا بتهمة الخروج على نصوص الكتاب المقدس، كان على رأس هذه المحاكم احد الكرادلة المخيفين الذي كان يرهبه الناس جميعاً، ويثير اسمه الذعر بينهم، لما عرف عنه من قدرة دائمة على اصدار امره بقتل اي انسان بدعوى انه خارج على الدين. الدين كما يتصوره هو نفسه بطبيعة الحال.
وذات يوم فوجئ اهل المدينة بأن المسيح نفسه قد عاد الى الارض مرة اخرى. بعث حياً من جديد، وايقنوا انه فعلاً هو المسيح من هالة الضوء التي تحيط بوجهه دائماً، ومن المعجزات التي قام بتحقيقها امام الناس جميعاً. حملوا اليه نعش طفل فلمسه المسيح بيديه وقال له انهض، فنهض الطفل على الفور، قادوا اليه اعمى فوضع المسيح يده على عينيه، فأبصر الاعمى في الحال. وألتفت حوله الجموع تريد ان تلمس طرفاً من ازاره الفقير. وجاء الكاردينال الرهيب ورأى المشهد بعينيه، المسيح واقفاً والكل حوله يتمتمون بالصلاة.
وتضاءل الكاردينال، سقطت من فوق كتفيه عباءة الكهنوت الموشاة بالذهب، وذاب فوق وجهه القناع الشمعي للدين وظهر من خلفه وجه قاتل ونظرة سفاح.
غير انه لم يطلق ساقيه للريح ويلوذ بالفرار… كلا، فمقعد الكاردينال شديد الاغراء بالنسبة اليه، والسلطة تستحق دائماً الحرب من اجلها، فماذا فعل؟
عندما اقترب المسيح منه، تواجه امام الجموع المحتشدة الدين مع رجل الدين، وحدق المسيح في عين قاتل الرجال باسم المسيحية، وادرك الكاردينال على الفور ان المسيح يدينه، فظل يستدرجه حتى ابواب السجن، ودفعه الى الداخل، واغلق الباب عليه.
الكاردينال المسيحي وضع المسيح نفسه وراء القضبان، وفي الداخل راح يساومه… وقال له ـــ اعرف انك المسيح بعينه واعرف انني بأسمك احكم على الناس بالموت حرقا في محكمة التفتيش و بدأ بالحديث عن المسيحية التي تلاقي في هذه الايام الاضطهاد والعنت، والمسيحيين الذين يتحملون ما لا يتحمله بشر من التعذيب والالام في سبيل التمسك بها والدفاع عنها… ثم ازدادت صفاقته غلوا، فراح يشرح للمسيح نفسه، كيف تغيرت المسيحية نفسها بمرور الزمن، وكيف تشكلت معانيها الجديدة في اذهان الناس، فهي لم تعد كما كانت على عهده، صارت شيئاً جديداً قد لا يعرفه هو نفسه، والناس ما عادوا يفهمونها ذلك الفهم التقليدي القديم، هم ايضاً تغيروا كثيراً وما بقي فيهم شيء يشبه اجدادهم واباءهم الاولين.
قال له ــــ انك لم تفهم ابدا حقائق الحياة في عالم متغير ، انت تقول ليس بالخبز وحده يحيا الانسان ، وتقول ان حرية الانسان هي الاولى ، وان الكلمة تحرركم ، وانا اقول ــ من اجل حكم الناس يجب ان تأخذ منهم حريتهم لتعطيهم الخبز .
وبعدها اعلن له قراره، ان وجوده في المدينة بات يشكل خطراً على المسيحية، ان المسيح الواقف امامه وراء القضبان لم يعد هو نفسه مسيحياً، ثم بلغت المهزلة ذروتها عندما طلب الكاردينال من المسيح ان يغادر المدينة على الفور، والا… فانه سوف يصدر امره بمحاكمته بتهمة الكفر بالمسيحية. ويشيح المسيح عن القاضي بوجهه ويختفي كما ظهر فجأة ودون ان يقول شيئا .
وبالفعل، اطلق الكاردينال المسيح من وراء قضبانه الحديدية بعد ان وعده بأن يمضي بعيداً عن مدينته، فلا سبيل الى ان يجتمع المسيح وبائعوا المسيحية على ارض واحدة، لا سبيل الى ان يتوافق الدين مع رجل الدين الذي استحال الى رجل حكم و’ملك ومصلحة.
رمزية الكاتب الروسي عاشت وتعيش في عراقنا اليوم ، فبأسم حرية الوطن صادرت دكتاتورياتنا وعساكرنا حرية المواطن ، وبأسم الوحدة الوطنية كرست التفرقة المذهبية والاقوامية ، وبأسم التقدم حاولت ان تعطيه الخبز فأعطته الفقر …وها قد وصلنا ــــــــ وطن منهوب ومنخور ، ومواطن في الاكفان وهو حي .