“”ان معركتكم التاريخية من اجل الوطن قد غيرت القواعد السياسية واثمرت عن تشكيلة حكومية مستقلة لأول مرة منذ عقود بدون مشاركة مرشحي الاحزاب السياسية.. “وانه لا يمكن التهرب من الاصلاح.. فالدماء الغالية التي اريقت لن تذهب سدى”.. و”ان الحكومة ستباشر بالتحقيق حول كل ما وقع في ساحة التظاهر والكشف عن العناصر المتهمة وتقديمهم للعدالة”.
هذه هي الخطبة التي القاها على مسامع العراقيين رئيس الحكومة المكلف محمد توفيق علاوي يوم امس، والتي دعا فيها البرلمان العراقي لعقد جلسة استثنائية لنيل الثقة يوم الاثنين القادم، المصادف الرابع والعشرين من هذا الشهر. وهي الخطبة ذاتها التي درج عليها اسلافه، والتي تتبخر بمجرد دخول القادم الجديد مكتب رئيس الوزراء. وقد نجد نموذجها الاخير في خطاب عادل عبد المهدي، الذي انتهى عهده بقتل الثوار بدل تحقيق اي اصلاح او معالجة ملف فساد واحد. وبصرف النظر عن نجاح علاوي في نيل الثقة او فشله، فان حكومة علاوي ستلد من رحم ذات العملية السياسية التي اسسها المحتل الامريكي، واقام صرحها عملاؤه في المنطقة الخضراء، واستثمرها ملالي طهران. ودعكم من الادعاء بان الوزراء في حكومته هم من خارج احزاب السلطة، فهذه نكتة سمجة وضحك على الذقون. فألية العملية السياسية، التي تتحكم بها المليشيات المسلحة، وما يسمى بالدولة العميقة التي تقاد من خارج الحدود، لا تسمح لا لعلاوي اوغيره بالتمرد عليها، او حتى المساس بها. وخاصة نظام المحاصصة الطائفية والعرقية. بل انها غير قادرة على تغيير شكل هذه المحاصصة، حيث سيبقى رئيس الحكومة شيعيا ورئيس برلمانها سنيا ورئيس الجمهورية كرديا، ومن حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بالذات. وهذا ما عبر عنه ثوار ساحات التحرير بالقول، ان علاوي سيخضع في النهاية لضغوط الكتل وسيلتحق بسابقه عادل عبد المهدي.
لا نحتاج لادلة ثبوتية لتاكيد صحة هذه الاستنتاجات، حيث اعترف علاوي نفسه قبل هذا التاريخ بايام، ان كل اتصالاته المكثفة التي جرت مع الاحزاب والكتل في العملية السياسية، هي من اجل نيل موافقتها على منح حكومته ثقة البرلمان العراقي. بل لم ينكر الرجل الضغوط التي مارستها هذه الكتل والاحزاب للالتزام امامهم بالولاء والطاعة والحفاظ على مكاسبهم كاملة غير منقوصة. ومعلوم ان هؤلاء دون استثناء هم اس البلاء والدمار والخراب الذي حل بالعراق طيلة سنين الاحتلال العجاف، وهم الذين حالوا دون اجراء اي اصلاح مهما كان شكليا. وبالتالي فانه من غير المعقول ان يستجيب هؤلاء الاشرار لاي اصلاح يمس
مكاسبهم ويضر بمصالحهم، فكيف اذا كان الامر يخص تقديم انفسهم للعدالة بتهم الفساد والسرقة والاجرام، او حتى تسليم اتباعهم المتهمين بقتل الثوار وخاصة في ساحة التحرير. واذا حدث ذلك فمن لديه الشجاعة لتقديم ادلة ثبوتية ضدهم والحفاظ على حياته بنفس الوقت؟ وهل يجرؤ القاضي نفسه الحكم على هؤلاء المجرمين القتلة؟
على ارض الواقع، تؤكد التصريحات والنقاشات الدائرة بين الرئيس المكلف علاوي وقادة الكتل والاحزاب والمليشيات المسلحة، بان ما جرى لا علاقة له باجراء اي اصلاحات جدية، بل على العكس من ذلك تماما. حيث جري ارضاء جميع هذه الكتل والاحزاب والمليشيات وتلبية مطالبهم، التي وضعوها كشرط للموافقة على منح حكومته الثقة في البرلمان. فعلى سبيل المثال لمح رئيس اقليم كردستان نجرفان بارزاني في مناسبات مختلفة، بانه يريد عودة البيشمركة الى كركوك وسهل نينوى واستعادة المناطق المتنازع عليها، اضافة الى صرف رواتب البيشمركة دون المساس بحصة الاقليم في الميزانية العامة. اما حصته في الكابينة الوزرارية، فهو يعتبرها استحقاقا انتخابيا كرديا للاقليم الذي لا ينبغي معاملته كمحافظات عراقية او كاحزاب سياسية، بل يكون التعامل مع الإقليم كقومية كوردية وثاني قومية معترف بها في العراق بعد القومية العربية. وهذا يعني بانه على رئيس الوزراء المكلف اختيار الوزراء الذين يمثلون الكرد في كابينته بالتنسيق مع الأطراف الكوردستانية ومن خلال المؤسسات الرسمية في إقليم كوردستان. في حين يشترط “المكون السني” تعيين وزرائه دون تدخل رئيس الحكومة المكلف، وكذلك حصتهم من الدرجات الخاصة. اضافة الى المطالبة بمائة مليار دولار لاعادة بناء المنطقة الغربية وتشكيل جيش وطني تعداده مئة الف عسكري، والا سيلجا السنة الى اقامة اقليم مستقل او دولة مستقلة.
اما مطالب الثوار، فان علاوي سيصطدم بالدستور الذي قبل به وشكل الحكومة بموجبه. حيث يقول الخبير القانوني علي التميمي “أن رئيس الوزراء المكلف محمد توفيق علاوي لا يمكنه حل البرلمان دون موافقة رئيس الجمهورية، وإنه لا يوجد في الدستور العراقي شي اسمه انتخابات مبكرة، انما انتخابات عامة تكون في حالة واحدة نصت عليها المادة 64 من الدستور، والتي اجازت حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة خلال شهرين من تاريخ الحل. وان علاوي لا يستطيع أن يحل البرلمان منفردا الا بموافقة رئيس الجمهورية. ناهيك، كما يقول التميمي، بان علاوي في حال ورود ذلك في برنامجه الوزاري، فانه من المحال ان ينال ثقة البرلمان. اما ما يثار من امكانيه تحديد عمر الحكومة القادمة بستة اشهر فهو أمر غير دستوري، لان علاوي بكابينته اذا صوت له البرلمان سيكمل ما تبقى من مدة الاربع سنوات خلفا لعبد المهدي. بعبارة اخرى فانه من غير المعقول ان تمنح هذه
الاحزاب والمليشيات المسلحة الثقة الى رئيس الوزراء وتقر منهاجا وزاريا ينهي نفوذها او حتى يقلص جزءا منها؟
وفي كل الاحوال وبعيدا عن صحة ما ذهبنا اليه، فان من اهم شروط الاصلاح، وجود دولة مدنية، او شبه مدنية، تتوفر فيها على الاقل مؤسسات واجهزة امنية تحفظ امن المواطن وتحميه من التسلط السياسي والقهر الاجتماعي، وجيش قوي يحمي الحدود من الاعتداءات الخارجية، ولا يسمح للقوى الاقليمية التدخل في شؤونه،اضافة الى الفصل بين الدين والدولة، بينما ما نراه ونلمسه بام العين، ان ما يسمى بالدولة العراقية لا استقلال لها ولا سيادة وطنية على اراضيها وسمائها ومياهها الاقليمة، ولا تتمتع بقرار سياسي مستقل او شبه مستقل، دولة لا قانون فيها ولا امان، دولة تحكمها عشرات المليشيات المسلحة الموالية لاكثر الدول عداء للعراق وهي ايران. باختصار شديد جدا فان هموم الوطن بالنسبة لهؤلاء الاشرار لا تاتي في اخر جدول اعمالهم فحسب، وانما هي مشطوبة من ذاكرتهم تماما.
اذا كان الامر كذلك، ترى ما هي اذن مهمة هذه الحكومة؟
لكل حكومة مهامها، فاذا كانت مهمة حكومة اياد علاوي المؤقتة عام 2004 في القضاء على المقاومة العراقية، ومهمة حكومة ابراهيم الجعفري الانتقالية 2005 اثارة الفتنة الطائفية، وحكومة المالكي الاولى والثانية 2006 – 2014 التوقيع على اتفاقية الاطار الاستراتيجي والاتفاقية الامنية المجحفة مع امريكا، ومهمة حكومة حيدر العبادي طرد داعش من الموصل، وحكومة عادل عبد المهدي امتصاص نقمة الناس من تردي الاوضاع، فان مهمة الحكومة المرتقبة تنحصر في استكمال محاولات انهاء الثورة العراقية الصامدة، عبر اجراء بعض الاصلاحات الشكلية التي تؤدي الى تحسين بعض الاوضاع الخدمية والامنية، على امل اقناع الناس بالتخلي عن الانتفاضة والعودة الى بيوتهم او فقدان الانتفاضة مساحة واسعة من محيطها الشعبي، الامر الذي سيحرمها الكثير من الدعم والتاييد. وفي هذا الخصوص لا يستبعد ان تجبر امريكا وايران هذه الحكومة والمليشيات المسلحة تقديم تنازلات شكلية، خاصة بعد فشلها في انهاء الثورة بالقوة المسلحة جراء صمود ابنائها الاسطوري غير المتوقع.
آن الاوان لان تشارك جميع الاحزاب والقوى السياسية المعادية للاحتلال وبكل ثقلها في هذه الانتفاضة، وتلتحق بها جميع المدن الاخرى، وخاصة مدن المناطق الغربية والشمالية. اذ لا يوجد عذر او مبرر مهما كان وجيها للوقوف على التل، او الاكتفاء بتقديم دعم لوجستي للثوار. في حين ينبغي على الثوار رص صفوفهم وتوحيد خطابهم والتمسك بمطالبهم المشروعة وعدم التنازل عنها. خاصة وان انتفاضتهم اثبتت قوتها ومشروعيتها وشجاعة ابنائها في التصدي بصدور عارية لعمليات القتل ضدهم، وبالذات من ميليشيات مقتدى الصدر. ومن دون ذلك سيحتاج الانتصار فترة اطول وتضحيات اكبر.