23 ديسمبر، 2024 7:31 ص

قصة العراق مع السلطة مختلفة عن سواها من الدول؛ لأنه إنموذج لمصطلح “حكومة ضد شعبها” إذ تأسست الدولة العراقية الحديثة، ردة فعل بريطانية على ثورة 30 حزيران 1920؛ لهذا سار العراق على طريق النسف المستمر، للثوابت التي يؤسس لها السابقون، فإنقلاب 14 تموز 1958، لم يكتفِ بتغيير نظام الحكم من ملكي دستوري الى جمهوري عسكري، بل قتل العائلة المالكة وحطم الأسس التي ثبتتها، وبدأ من الصفر، وبهذا لم تعد ثمة فرصة للآتين في الافادة مما تراكم ورثا عن الذاهبين، اللاحق يقضي على السابق بما لا يبقي أثرا يؤسس عليه؛ ما جعلنا عند خط الشروع في كل مراحل الدولة، ولم ننفذ الى جوهر مضمار العمل الحقيقي لدولة رصينة الاركان.. راسخة الجذور…

نردد ليل نهار بأن أرضنا شهدت الحضارة الاولى في تاريخ الانسانية، لكن إنتهينا آخر دولة لاننا بلا ارث، كلما إنقلب مجموعة من الضباط على سابقيهم تحت جناح حزب ما، محو آثار السابقين وإعتبروا ترديد ذكرها خيانة عظمى عقوبتها الاعدام.

فهل جزاء الماضي التنكر لمعطياته، والتنصل حتى الفائدة المرتجاة.. برغم شحتها؛ لان فاقد الشيء لا يعطيه، وهل تتأسس دولة على تبويب منهجي ما دمنا ننسف السابقين علينا منطلقين من الفراغ، نتنصل من إلتزام ما حققوه بل يلصق المقبلون تهما مقذعة بحق الغابرين، وهكذا يصبح المنجز السابق رمادا محروقا تذروه عواصف الحكومة التالية..

روح العسكر تنبض في عروق الدولة منذ اول رصاصة صوبها النقيب عبد الستار العبوسي الى العائلة المالكة وهي تخرج تحت حمى القرآن الذي رفعته أم فيصل الثاني فوق رأس أبنها وهو منزوع السلطة ثوريا وليس دستوريا.

هل تكفي قوة الاستحواذ على السلطة قهرا، لاعطاء العسكر مشروعية دستورية!؟

لكن الامم الحية تجدد، ماكثة عند مرحلة شبابها الحضاري، مفتعلة أسباب الديمومة التي تغذي استمرار نشاطها، من دون الانحدار نحو الشيخوخة، وهو دور مجلس النواب كسلطة تشريعية تبعث الرؤى الى السلطة التنفيذية من خلال مسح ميداني لواقع المجتمع وسن تشريعات بموجب نتائج المسح الميداني، ملزمة للسلطة التنفيذية بموجب حاجة الدولة لها، بناء على كون الدولة تتالف من ارض وشعب وسيادة، تتواشج بدستور ناظم لحركتها، وهذا ما نسميه ديمومة شباب الحضارة من دون شيخوخة محتملة، يأخذ فيه النواب مشروعية سن القوانين بتكليف شعبي عبر الاقتراع الانتخابي، الذي يعد عقدا إجتماعيا بين المواطن والسياسي.

وهذا لا يتأتى الا بالافادة من أحداث الماضي، ما حسن منها وما قبح من دون محو.. بل نتعظ ونتعلم ونتأمل كي نؤسس مستقبلا حسنا؛ فالعراق يدخر قانونيا موروثا عن النظام السابق، ينص على ان الوزير او المدير العام، الذي تثبت في وزارته او دائرته حالة فساد مالي او تزوير او إختلاس، يقال من منصبه!

التكييف الاجرائي لهذا النص بناه المشرع، عند سن صيغة هذا القانون على ان الوزير او المدير العام، الذي لا يحكم قبضته على منتسبي القطاع الموكل به، لا يستحق المنصب؛ لأننا مسلمون نهتدي بالحديث النبوي الشريف: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”.

ولو تم تفعيل هذه الفقرة من القانون الذي أقره مجلس قيادة الثورة المنحل؛ لاختزلنا جهودا كبيرة في الاصلاح، متحولين من آفة الفساد الضارية الى نشوة النزاهة الوطيدة.. آمنين مستقرين من دون ما قلق!

لكن يبدو ان مجتمعات غير اسلامية واخرى تدين برسالات وضعية ووثنية أو من دون دين.. البتة، أكثر إمتثالا لتعاليم الاسلام لانها محكمة السماحة.. تطلق الفرد حرا في فضاء تنتظمه الآليات المعرفية السديدة التي تقوم الدنيا من منظور أخروي.. وتلك معادلة كبرى توازن الغائب بالشاهد!

وهنا علينا ان نفيد من تراكم تجربة الدولة، لا ننسفها كما دأب عليه السابقون، وكأن الدولة العراقية الحديثة لم تتأسس يوم 23 آب 1921، بل إنهارت يوم الاربعاء 9 نيسان 2003، غير مسبوقة الا بجرائم النظام السابق،…

في حين ما اقدم عليه النظام السابق يشكل جزءا من اشتراطات السلطة في الشرق، بدليل الانحرافات الاجرائية متبعة بأشكال تتمحور حول ألأخطاء لا تقل فيها جريمة الفساد عن القتل بكثير.. ربما إعدام معارض سياسي في عهد صدام حسين، جريمة ترتكب بحق فرد او فئة، أما تدمير البنية الاقتصادية للعراق جريمة ابادة جماعية للاجيال الحاضرة والقادمة!

لكن هل أوتيت المجتمعات الاسلامية.. ومنها الشعب العراقي، ممثلا بساسته، رصانة فهم اخلاقي للهداية بمعناها المتسق مع “اللياقة الاجتماعية – الأتيكيت” يؤدى تلقائيا في شعوب غير اسلامية، مثلما نسمع عن وزير نقل ياباني انتحر لان طائرة سقطت بسبب اهمال مهندس الصيانة قبل اقلاعها.

لو عجنت طائرات العراق بسفنه وقطاراته وسياراته وهي محملة بالر كاب، لن يحجم وزير واحد في الدولة العراقية الراهنة عن شرب استكان شاي لحظة سماعه بالخبر.. بل سيواصل حتى آخر رشفة شاي في قعر الاستكان، مكتفيا بالترحم على شعب كامل أباده الفساد الحكومي.

وهذا يضع التشكيلة النيابية المقبلة، بناءً على إنتخابات 12 أيار 2018، أمام مسؤوليتها في توجيه الشعب نحو حسن الاختيار، من خلال منظومة وزارية لا تخضع للمحاصصة التي يراد منها تمويل الاحزاب والانفاق على أفراد باتت مصالحهم أهم من الدولة.. شعبا وارضا و… السيادة شأنهم!