18 ديسمبر، 2024 10:46 م

حكومات متعاقبة مترددة وقليلة الخبرة والحكمة وارادة غائبة وتغليب المصلحة على المواطنة والذمة والشرف والمسؤولية

حكومات متعاقبة مترددة وقليلة الخبرة والحكمة وارادة غائبة وتغليب المصلحة على المواطنة والذمة والشرف والمسؤولية

إن من دعم ومكن هذه الميليشيات هي الطبقة السياسية العراقية الجديدة التي لا تسعى إلا إلى الثراء. لقد قامت هذه العصابات المتعددة الطوائف لسنوات عديدة بممارسة الاحتيال على كافة المستويات ومن ضمنها السيطرة المستمرة على نقاط التفتيش، والاحتيال المصرفي، والتحايل على نظام الرواتب الحكومي. عندما تولى عادل عبد المهدي الحكم في عام ٢٠١٨، وسط ترحيب به كمصلح محتمل، حاول ضم الميليشيات للدولة، لكنهم فاقوه براعة وسيطروا عليه. وقد تضمنت حكومته أشخاصاً لهم ارتباطات بأحد أسوأ شبكات الكسب غير المشروع التي ابتلت البلاد بها.

بالنسبة لغير العراقيين، قد تبدو الحياة السياسية العراقية مثل حرب العصابات، لكنها في معظم الأوقات تتم تحت غطاء هذا الصراع سرقات بمنتهى الهدوء. ففي كل وزارة حكومية يكمن الفساد في اتفاقيات غير مكتوبة مع أحد الفصائل. الصدريون يملكون وزارة الصحة ومنظمة بدر طالما سيطرت على الداخلية بينما يسيطر تيار الحكمة على النفط. وعادة ما يواجه بعض القادمين الجدد صعوبة في التأقلم مع هذه الأوضاع. يعتبر الفساد في العراق هو السمة الجديدة الثالثة للسياسة العراقية. التحدث عنه في العراق يعرضك أنت أو أفراد عائلتك للقتل)

إن الزعماء السياسيين الذين يسيطرون على هذه العملية معروفون. فبعضهم حلفاء لأمريكا مثل عائلتي البرزاني والطالباني الذين سيطروا على عقود هذه المنطقة ومصرفها المركزي حتى أصبحوا فاحشي الثراء. وهناك المالكي وحلفائه الذين لايزالون يسيطرون على المشهد السياسي، ومقتدى الصدر رجل الدين الشيعي المتقلب المزاج، الذي يعد أيضاً عراباً آخراً يشتهر أتباعه بطلب الرشاوى. كان ينبغي معالجة النظام عام ٢٠١٤ عندما كادت داعش أن تسيطر على البلد. ولكن بدلاً من هذا كانت النتيجة ظهور نوع جديد من الطفيليات: الميليشيات التي ساعدت في هزيمة داعش والتي تعرف بشكل عام بالحشد الشعبي، وهي اتحاد فضفاض للجماعات المسلحة التي كان بعض منها قائما منذ عقود. ففي عام ٢٠١٦ قام حيدر العبادي بالاعتراف بهم كجزء من القوات الأمنية وهم الآن يتسلمون رواتب منتظمة كباقي أجهزة الجيش والأمن.أحد اقوى هذه الفصائل هي كتائب حزب الله المتهمة بشن هجوم على قاعدة جوية عراقية في كانون الأول والتي قتلت متعاقداً أمريكياً وأدت بعد أسبوع إلى اغتيال سليماني الذي يعد الراعي الأكبر لها. وبالرغم من أنها ذائعة الصيت إلا أنها محاطة بالغموض. إذ يقول مايكل نايتس المحلل في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى والذي تعقب هذه الجماعة منذ تأسيسها: نكاد لا نعرف شيئا عن قيادتها. إنها أشبه بالماسونية. إذ يمكن لأحدهم إن ينتمي لها وأن يكون في حركة أخرى في نفس الوقت.

لقد بنت لنفسها إمبراطورية اقتصادية من خلال اقتحامها في أعمال تجارية مشروعة وعقود حكومية.

من أقل الأمور المعروفة والخطيرة التي قامت بها هذه الميليشيا هي سيطرتها التدريجية على مطار بغداد. بدأ ذلك قبل سنوات عندما قامت كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق المدعومة أيضاً من إيران بتعيين موظفين مواليين لهم في المطار، وفقا لما أفاد به مسؤول رفيع هناك. وتمكنوا أيضاً من تعيين الموظفين في شركة G4S وهي شركة بريطانية لطالما تم التعاقد معها لإدارة أمن المطار (لم تقم الشركة بالتعليق على هذا الموضوع). ونتيجة لذلك لدى هاتين الميليشيتين إمكانية الوصول إلى كاميرات المراقبة في المطار فضلاً عن الوصول إلى طريق يدعى بالكيلومتر واحد والذي يربط المدارج بمحيط المطار متجاوزين بذلك الحواجز الأمنية، حسبما أخبرني ذلك المسؤول. (تم قصف قاسم سليماني وموكبه من قبل طائرة بدون طيار أمريكية في كانون الثاني الماضي عندما كانوا على هذا الطريق). وقد باتت نشاطات هذه المليشيات أكثر عدائية منذ سنة حسبما ذكر المسؤول، فقد قام منتسبوها بتهديد مدير سلطة الطيران المدني وأجبروه على تعيين نائب له من الموالين لهم. وفي أواخر شهر تشرين الأول حصلت إحدى الشركات التابعة لكتائب حزب الله على عقد لمدة ١٢ سنة في مطاري بغداد والبصرة بقيمة ملايين الدولارات بالسنة الواحدة على الرغم من أن تلك الشركة المسماة بالخليج لم تتواجد لأكثر من شهرين في ذلك الوقت، ولم تملك التراخيص اللازمة، كما أن مؤسسها كان قد منع من العمل بالمطار. لقد أوقف العقد منذ ذلك الحين لكن الشركة التي استولت على صالة كبار الزوار والفندق من حسين اللقيس مازالت في مكانها.

 

إن مطار بغداد ما هو إلا أحد المنافذ الاقتصادية التي تسيطر عليها الميليشيات الآن، كما استخدموا ذريعة داعش ليكون لهم مقرات على معظم حدود البلاد، فقد قاموا باستغلال تهديد داعش لتثبيت أنفسهم في معظم الحدود البرية. وسيطرت الميليشيات على التجارة من خلال الموانئ البحرية في الجنوب لأكثر من عقد من الزمن، وفي الواقع فإن الميليشيات تقوم بدور دولة رديفة في الظل حيث تفرض على المستوردين أجوراً أعلى من أجل تسريع عمليات إيصال البضائع. ولديهم لجان اقتصادية ومكاتب في بغداد يمكن للشركات الخاصة أن تعقد معهم الصفقات التي تتجاوز القنوات القانونية للبلد. فعلى سبيل المثال، أخبرني مسؤول في المطار أنه إذا قام باستيراد ١٠٠ سيارة من دبي فسيستغرق التخليص الجمركي القانوني شهرين، لكن إذا ما دفع لكتائب حزب الله ١٠ إلى ١٥ ألف دولار فإن هذه العملية ستستغرق يومين فقط.

إن المصدر الرئيسي للعملة النقدية التي ساهمت في انزلاق العراق نحو حكم اللصوص البيروقراطي هو البنك الاحتياطي الفيدرالي الواقع في شرق راذيرفورد بولاية نيوجيرسي حيث يتم حراسته بشدة. ففي كل شهر تقريبا تأتي شاحنة معبأة بأكثر من ١٠ طن من العملة الامريكية تبلغ قيمتها ١من إلى ٢ مليار دولار أمريكي. ويتم نقل الأموال لاحقاً إلى قاعدة جوية ومن ثم إلى بغداد. تعود هذه المبالغ إلى الحكومة العراقية كريع لبيع النفط عبر حساب مصرفي لدى بنك نيويورك الفيدرالي. إن هذا الاتفاق غير الاعتيادي ما هو إلا أحد تبعات الاحتلال الأمريكي عندما سيطرت مباشرة على الحكومة العراقية ومصادر تمويلها. وقد بقي هذا الوضع كما هو عليه لأنه مناسب للطرفين، إذ يحصل العراقيون على الدولار بشكل امتيازي بينما تبقى الولايات المتحدة مهيمنة على اقتصاد العراق. إن شحنات الدولار التي ترسل على نحو دوري (وهي تشكل جزءاً صغيراً من العائدات النفطية الإجمالية للبلد) تلبي احتياجات مكاتب تحويل العملات العراقية والمستوردين الذين يحتاجون الى العملة الصعبة. ولكن من الناحية العملية فقد ذهبت الكثير من هذه المبالغ الى أيادي العاملين بغسيل الأموال والجماعات الإرهابية والحرس الثوري الإيراني، ويعود ذلك إلى إجراء خاص لدى البنك المركزي لا يعرفه إلا قلة وهو ما يسمى بمزاد الدولار.

يعرف مزاد الدولار “بنظام الصرف الصحي للفساد العراقي”، لكن قلما كُتب عن آليات عمله الداخلية. إن مخططات التزوير التي تحوم حوله طالما أوقدت الحرب الأهلية في سوريا بما فيها الحرب مع داعش. لقد بذلت وزارة الخزانة الأمريكية ما في وسعها لإبعاد مزاد الدولار عن أيدي داعش وإيران لكنها غالباً ما تغاضت عن الأنواع الأخرى من غسيل الأموال. وطالما وجد الإرهابيون شركات وطرق جديدة ليخفوا ورائها مشاركتهم في المزاد يحدث ذلك غالباً بتواطؤ من مسؤولي البنك المركزي.

بل حتى إطلاق اسم مزاد عليه يعتبر مضللاً، فهي عملية يومية يقدم فيها البنك المركزي الدولارات لعدد محدود من المصارف التجارية مقابل الدينار العراقي. وقد قامت سلطات الاحتلال الأمريكية بتأسيسه عام ٢٠٠٣ ليخدم غرضين: جمع ما يكفي من الدينار العراقي لدفع الرواتب نقداً للعدد الهائل من الموظفين الحكوميين ومساعدة البلد في دفع مستحقات الاستيراد بالدولار. فهو من الناحية الأساسية مشابه للعملية التي تقوم بها بعض الدول لتسهيل التجارة الأجنبية. الهدف الأساسي من هذه العملية هو التالي: تنوي شركة ما استيراد الأحذية من الهند فتذهب إلى مصرف عراقي محلي حاملة فاتورة الشركة الهندية، فيقوم البنك بالمصادقة على العملية المصرفية وإيداع المبلغ المطلوب بالدينار العراقي لدى البنك المركزي والذي يقوم بدوره بتحويل المبلغ بالدولار إلى حساب بنكي تملكه الجهة المصدرة.

لقد بدأت المشكلة بتراكم مبالغ كبيرة من الأموال غير القذرة: كان العراقيون الذين سرقوا مبالغ ضخمة من خلال العقود المزيفة أو الرشاوى متعطشين لاستبدال الدينار بالدولار ليتمكنوا من استخدامها في الخارج. ولتلبية هذه الحاجة ظهرت طبقة جديدة من الانتهازيين وقامت بتسجيل شركات وهمية وإعداد الفواتير المزيفة اللازمة لإبرام صفقة الاستيراد التي ستمول لاحقاً من خلال مزاد الدولار. خلال أيام فقط يمكن لشخص احتال على بلده بالملايين أن يصبح مالكا لأحد البيوت الفخمة في لندن. أما المواد المستوردة الوهمية فلن تترك آثاراً كبيرة لأنها كانت قد وثقت ببطاقات تعريفية وصور لأشخاص حقيقيين وافقوا أن يؤدوا دور مسؤولي الشركات مقابل حصولهم على الرشوة.

وفي كل مرة تشك فيها سلطات البنك المركزي العراقي أو البنك الفيدرالي في نيويورك، يقوم المزورون بتحديث لعبتهم من جديد.

حسب مصدر مصرفي ومسؤول عراقي سابق، ثمة مكاتب صغيرة يديرها شبان تقوم بتزوير الوثائق على نحو احترافي، فمثلاً لكي يتجنبوا دفع ضرائب البضائع المستوردة بشكل غير شرعي، يقوم غاسلو الأموال بتسجيل عشرات الشركات ومن ثم يهملونها ويختلقون شركات جديدة كلما استحق دفع الضرائب. وقد أشركوا سلطات الحدود في هذه العملية حيث يدفعون الأموال للمسؤولين ليحصلوا على شهادات استيراد مزورة ذات أختام حقيقية. وبذلك سيطر غاسلو الأموال على مبيعات البنك المركزي اليومية للدولار والتي بلغت حسب إحصائيات البنك أكثر من ٥٠٠ مليار دولار منذ عام ٢٠٠٣. (يعد الرقم أعلى بكثير من المبالغ التي يتم نقلها من البنك الاحتياطي الفيدرالي إلى العراق لأن معظم الدولارات التي يبيعها البنك المركزي ترسل عبر حوالات إلكترونية من عوائد العراق النفطية.)

في بعض الأحيان يكون التزوير مكشوفاً على نحو مثير للضحك. ففي عام ٢٠١٧ استورد العراق رسمياً كميات من الطماطم بقيمة ١٫٦٦ مليار دولار من إيران، وهو أكثر بألف مرة من المبلغ الذي استورد به في عام ٢٠١٦. كما استورد بطيخ بقيمة ٢٫٨٦ مليار دولار من إيران بينما كان رقم السنة الماضية ١٦ مليون دولار. إن هذه الارقام ستكون مثيرة للسخرية حتى لو لم يتمكن العراق من زراعة ما يكفيه من الطماطم والبطيخ. لقد أخبرني بعض رجال الاقتصاد بأن أرقام الاستيراد الرسمية التي لا تزال تظهر على موقع وزارة التخطيط ما هي إلا غطاء رديء لغسيل الأموال عبر مزاد الدولار.

لقد ساعد هذا المزاد على تدفق مليارات الدولارات إلى جيوب سماسرة العراق ذوي النفوذ، ويستند هذا الغش على الفرق الموجود بين سعر الصرف الثابت الذي يوفره البنك المركزي المرتبط بالدولار ومعدل السوق المتذبذب الذي عادة ما يكون أعلى بكثير. وحالما بدأ المزاد في العام ٢٠٠٣، أدرك غاسلو الأموال بأنهم إذا ما حصلوا على صفقات استيراد يمكنهم عندها إعادة بيع الدولار الذي حصلوا عليه من البنك المركزي ليكسبوا ربحا فورياً. وحالما أدرك الزعماء السياسيين العراقيين مقدار المال الذي يجنى من هذه العملية، سرعان ما بسطوا سيطرتهم على عملية المزاد.

أما الشركات والمصارف الاعتيادية التي تريد القيام بأعمال الاستيراد أو الاقتراض المشروعة فقد وجدت نفسها محاصرة من قبل أولئك المدعومين من قبل الأحزاب السياسية والميليشيات. ومن أجل التغطية على هذه السيطرة قام هؤلاء حديثو الثراء بشراء معظم البنوك المتبقية وحولوها إلى مجرد وسائل خاصة بهم لأغراض المزاد.

ومن الاستحالة بمكان معرفة كمية المليارات المسروقة من خلال عملية بيع وشراء العملة، إلا أن الكثير من المصرفيين السابقين والمسؤولين العراقيين أخبروني بأن مثل هذا النوع من الحسابات المزورة المستخدمة للاستيراد يتم تمويلها عن طريق مزاد الدولار منذ عام ٢٠٠٨. وفقاً لتخميني الشخصي (المبني على أرقام من موقع البنك المركزي ومعلومات من مصرفيين عراقيين) سُرق ما مقداره ٢٠ مليار دولار، كلها من أموال الشعب العراقي. فرجال الأعمال الذي يديرون هذه العملية يقومون بطباعة العملة الخاصة بهم لأن تكلفة ما يقومون به تعد منخفضة، وتكمن في دفع الأموال مقابل الحصول على فواتير مزورة وتقديم رشى للبنوك والمسؤولين الحكوميين. إن بعض البنوك التي تحصل على فوائد عالية من المزاد ما هي إلا واجهات لمكاتب صغيرة تكاد تخلو من الموظفين.

 

حاول قائد عراقي واحد فضح الجرائم المحيطة بعملية مزاد الدولار بجدية، ففقد شعبيته. فقد قام أحمد الجلبي المصرفي والسياسي الذي ساعد إدارة بوش على تبرير غزو العراق بتحقيق برلماني حول مزاد الدولار عام ٢٠١٤. وكشف وثائق تبين تورط أكبر مصارف البلد وأصحابها في عمليات تزوير واسعة. وقبل أن يقوم بكشف المزيد حول هذه الفضيحة في تشرين الثاني ٢٠١٥، توفي الجلبي جراء أزمة قلبية. (وعلى الرغم من التوقيت المشكوك فيه إلا أن تشريح الجثة لم يكشف عن وجود دليل لسبب آخر للوفاة). أما المصرفيين الذين كشفهم الجلبي في تحقيقاته فلم يواجهوا أية عواقب ومازالوا يمارسون أعمالهم.

ولا يزال المزاد قائماً حتى اليوم إلى جانب غسيل الأموال والسرقة المرتبطة به. ففي أواسط شهر آذار سجل موقع البنك المركزي مبيعات الدولار التي تجاوزت ٢٠٠ مليون دولار- أكثر من مليار دولار خلال أسبوع واحد- كان يفترض أن تذهب كمدفوعات للاستيراد. وفي الوقت الذي أُغلق فيه الاقتصاد العراقي بسبب جائحة كورونا كان من المفترض أن تكون بعض هذه المواد المستوردة شرعية، لكن بعض المصرفيين أخبروني بأن هذه الأرقام تشير إلى عمليات غسيل أموال واسعة النطاق. أحد الدلالات الأخرى الفاضحة للفساد تتمثل في مبيعات الدولار اليومية إلى مكاتب صرف العملات والتي يفترض أن تستخدم فقط من قبل العراقيين المسافرين إلى الخارج. وقد بلغ المعدل الوسطي لهذه الأرقام في منتصف شهر تموز الماضي ما يقارب ١٠ ملايين إلى ١١ مليون دولار يومياً، على الرغم من أن مطار بغداد مغلق منذ شهر آذار حتى ٢٣ تموز، ومازالت قيود السفر قائمة حتى الآن.

وثمة دليل آخر على أن المزاد لايزال يزود الجماعات الارهابية بالأموال. ففي تشرين الأول بعث البنك الاحتياطي الفيدرالي كتاباً إلى البنك المركزي العراقي يطلب فيه منع مصرفين إلى جانب مكتب للصرافة من استخدام مزاد الدولار، مبرراً ذلك باعتقاده بأن ثمة ثلاث كيانات مرتبطة بداعش أو تقوم بتعاملات مادية مع داعش. يملك هذه المؤسسات الثلاثة رجل أعمال يدعى حسن ناصر جعفر اللامي، المعروف في الدوائر المالية بملك الفواتير المزورة. وفي شهر كانون الثاني صرح موظف في البنك المركزي العراقي لمحطة تلفزيونية لبنانية أن اللامي لا يزال يستخدم مزاد العملة من خلال بنوك أخرى تختلف عن تلك التي أشار إليها البنك الفيدرالي.

وفي بعض الحالات يبدو أن البنك المركزي يحاول بشكل مقصود عرقلة الجهود التي يبذلها البنك الفيدرالي أو وزارة الخزانة الأمريكية. ففي عام ٢٠١٨ أصدرت وزارة الخزانة عقوبات ضد آراس حبيب كريم وهو سياسي متهم بتمويل الحرس الثوري وحركة حزب الله في لبنان. وفرضت عقوبات على البنك الذي كان يديره والذي يحمل اسم مصرف البلاد الإسلامي. وبدلاً من تجميد أموال كريم، وجه البنك المركزي بأن ما قيمته ٤٠ مليون دولار من أسهم مصرف البلاد المملوكة لكريم وعائلته ينبغي أن تعود لهم وفقاً لوثيقة من البنك المركزي كنت قد حصلت عليها. وعندما سألت مسؤولي الخزانة حول قرار البنك المركزي أجابوا بعبارة جاهزة: إن الخزانة مستمرة في العمل عن كثب مع الحكومة العراقية لتطبيق العقوبات.

يعد العراق حكاية تحذيرية لباقي العالم. حكاية تلخص كيف يمكن أن يتحول أبسط أنواع الفساد بسرعة إلى آفة وكيف يصعب إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه. لن يستغرق الأمر طويلاً حتى يغطي غبار الزمن هؤلاء المشتركين في شبكات الفساد، كما حدث في أفغانستان والصومال وفنزويلا. يقول ريتشارد ميسك الذي أمضى عقوداً يدرس هذا الموضوع: إنه يصبح نظام مستدام ذاتياً. لا يمكن التدخل في قطاع واحد فقط لأن جميع القطاعات مرتبطة ببعضها البعض، لذا ينبغي تغيير عدة مؤسسات في وقت واحد. يكتب ريتشارد ميسك كمساهم رفيع المستوى ويكتب في مدونة شهيرة ترصد الجهود العالمية لمكافحة الفساد.

ويصعب عمل ذلك بدون وجود قوة خارجية. فقد كانت الحكومة الأمريكية أساسية في اجتثاث الفساد في شيكاغو الذي وصل ذروته في العشرينيات من القرن الماضي عندما سيطر رجل العصابات آل كابون على عمدة المدينة بالمال. لا يوجد هناك أمثلة عديدة على إصلاح دول بأكملها في العصر الحديث عدا عن الدول الأوتوقراطية الصغيرة مثل سنغافورة عندما أطيح برئيس الوزراء السنغافوري الأسبق لي كوان يو في ستينيات القرن الماضي.

إن أحد أكبر معضلات الإصلاح في العراق تكمن في اعتماده على السيولة النقدية التي يصعب تعقبها وتكون أكثر عرضة لغسيل الأموال. لذا فإن تحويل العراقيين إلى نظام المصارف حيث تكون ثمة سجلات تبين عمليات الدفع التي يمكن التحقق منها أصبح هدفاً يطالب به أنصار مكافحة الفساد لسنين. إلا أن عملية الانتقال من النقد محفوفة بالمخاطر، إذ أن التقنيات الحديثة تكون عرضة للسيطرة عليها من قبل أفراد قلة بإمكانهم استغلال هذه العملية كأداة لغسيل الأموال.

يطلق والعراقيون رجال الأعمال المشبوهين الذين أصبحوا أغنياء على حساب البلد اسم الحيتان، فهم دائماً فوق القانون. وقد تم تحذيري وأنا أعد هذا المقال بأن حياتي ستكون في خطر إذا ما واجهت اي منهم حول هذه النشاطات غير المشروعة، لكني نجحت أخيراً في التحدث مع أحد “الحيتان”. هو أحد اقطاب البناء وأخبرني أنه أمضى سنوات وهو يقدم الرشوة للسياسيين لتأمين عقود تبلغ قيمتها ملايين الدولارات. وصف الرجل عالماً مليئاً بصفقات الغرف المظلمة التي يكون التنافس المميت فيها أمراً مألوفاً، فضلاً عن التحالفات السياسية المتغيرة بسهولة حيث تكون العملة المستخدمة فيها دائما الدولار النقدي الذي يدفع مقدماً. وكان واضحاً بأنه قد قبل بالابتزاز المالي كجزء من واقعه اليومي. ولم يشعر بأي ذنب حيال هذا الشيء. لديه مكاتب ومنازل في عدة دول وتحدث بالعامية العراقية كرجل لم يحصل على قدر كبير من التعليم الرسمي.

ويقف خلف كل تلك الصفقات الميليشيات التي توفر الحماية وتأخذ حصتها من المال. قال لي إن أي رجل أعمال أو بنك بدون جماعة مسلحة تدعمه لن يتمكن من العمل.

لا يعد ذلك مفاجأة بالنسبة للعراقيين حيث يمكن لهم أن يروا كيف أن أجهزة مكافحة الفساد أصبحت وسائل لانتشار الرشوة. وللأسف فإن هذه لا تعد مجرد اتهامات بدون دليل. فعندما كنت في بغداد ذهبت للقاء مشعان الجبوري رجل الأعمال والسياسي الذي يبلغ من العمر ٦٣ سنة بارز العينين وأصلع الرأس. كان رجل أعمال في الثمانينات وهرب خارج العراق في نهاية ذلك العقد لينضم إلى المعارضة. وفي عام ٢٠٠٦ هرب من العراق مرة أخرى بعدما أتهم بالتخطيط لهجمات استهدفت أنابيب النفط. ثم عاد إلى العراق وانتخب في البرلمان وأصبح عضواً في لجنة النزاهة. أخبرني بينما كنا جالسين في منزله في الحارثية أن الجميع متورط ومن ضمنهم المتدينين والعلمانيين في القرى والمدن، من القادة حتى أصغر الأعضاء رتبة. أصبحت ثقافة يفتخر بها الناس.

 

يعيش العراق منذ عام 2003 أزمة مركبة ذات أبعاد متعددة ومتشابكة، عززها فشل الحكومات المتعاقبة في بناء دولة وطنية متماسكة، نتيجة هيمنة سلطة أَعلَت من شأن الحزبية والمحاباة الطائفية القائمة على التفضيلية وتهميش الآخر وإرغامه على الانصياع لما تمليه هذه السلطة.

وقد فتحت هذه البيئة السياسية لإيران الباب على مصراعيه ومكنتها من تبنّي استراتيجية تشكيل الميليشيات الطائفية بتوجهاتها الحركية المتنوعة، وعبر هيكلية تشبه البناء التنظيمي لـ “الحرس الثوري الإيراني”، وجعلها أذرعاً عسكرية تتحرك استجابة لمصالح طهران.

ويتواجد اليوم جراء هذه الاستراتيجية الآلاف من مقاتلي الميليشيات العراقيين حول الموصل وصلاح الدين وفي الأنبار، وهناك فصائل يشرف عليها مستشارون تابعون للحرس الثوري الإيراني، وتتمركز في نقاط التواصل التي تربط المحافظات ذات الكثافة السنّية بتلك التي تقع في الجنوب لتأمين الدعم والتزويد بالمعلومات وتنفيذ العمليات الاستطلاعية].

وقد بدا واضحاً في أعقاب انتهاء معركة الموصل في ديسمبر 2017، وقوع المؤسسات الأمنية والعسكرية تحت نفوذ هذه الميليشيات الطائفية الموالية لإيران بعد تهميش الجيش النظامي وإضعاف دوره، لتصبح هذه الأذرع العسكرية عصيّة على الضبط والإخضاع، وهو ما يجعل عملية استئصالها مكلفة للغاية، خصوصاً وأنها نجحت في أن تكون شريكاً يقاسم الدولة – السلطة والموارد.

وعادة ما تقوم هذه الميليشيات بأنشطة عسكرية أو أمنية مزعزعة للاستقرار في العراق أو المنطقة كلما ظهر ما يهدد المصالح الإيرانية، بهدف إيصال رسالة بالنيابة عن الإيرانيين إلى أطراف دولية وإقليمية ذات مدلولات أمنية أو سياسية أو تحذيرية من دون أن تظهر إيران طرف مباشر فيها، حيث يكون من السهل على طهران أن تنأى بنفسها عن كل ما يحدث من عمليات تستهدف الداخل العراقي أو تلك التي تستهدف الجانب الأمريكي.

لقد جعلت إيران من العراق منطلقاً لخدمة استراتيجياتها وركيزة أساسية لبنيتها الأمنية الإقليمية، وتوظيف هذه الميليشيات لشنّ حروب بالوكالة كما هو الحال في سوريا والعراق واليمن وغيرها. ويعكس تضخم نشاط هذه الميليشيات المدعومة من إيران، حالة التصدع التي يعاني منها البنيان المؤسساتي الرسمي في العراق بعد عام 2003، والتي أدت إلى انتشار الأجنحة العسكرية الطائفية، رغبة من طهران في إعادة رسم حدود السياسة والمصالح والقوة في عراق ضعيف ومحدود التأثير في محيطه الإقليمي والدولي، جراء ما تمتلكه هذه الميليشيات من قوة ونفوذ يفوق إمكانات الدولة وقدراتها.

وتعكس شبكة الميليشيات هذه طموح المرشد الإيراني علي خامنئي في عسكرة المنطقة وإنشاء دولة شيعية تحت قيادته باعتباره المرشد الأعلى الذي تلقى “تفويضاً من الله” ليحكم الأمة الإسلامية بسلطة مطلقة وممتدة خارج حدود إيران، الأمر الذي يتطلب تعزيز الروابط بين دولة الفقيه واتباعها وصولاً للدولة الشيعية الكبرى المرجوة التي تحكم العالم الإسلامي

يمثل الحزام الشيعي والقومية الفارسية حجر الزاوية للأمن القومي الإيراني من خلال مزج الدين بالأمن وصولاً للتغلب على تركيبة البلاد العرقية والدينية المعقدة، وتعزيز هيمنة إيران الفارسية على منطقة الخليج العربي وشرق المتوسط، وضمان الاعتراف الإقليمي والدولي بهذا التمددولهذا، فإن رعاية الميليشيات الطائفية يخدم مبدأ “تصدير الثورة” و”إقامة الدولة الطائفية” التي لا تقتصر على حدود إيران فحسب، بل تمتد لتشمل أماكن أخرى من العالم وتحديداً الدول المجاورة لها

فالوجود الثيوقراطي الشيعي المسلح الذي تمدد في أماكن متعددة أُريد به أن يكون وكيلاً لإيران، يتلقى عنها الصدمات ويقوم بتنفيذ ما يُطلب منه، فعلى سبيل المثال يعد “حزب الله” اللبناني أول من نفذ عمليات انتحارية، أضحت في ما بعد نهجاً طبقته الكثير من الجماعات الجهادية؛ ولعلّ الأهم هنا، أن إستراتيجية طهران تعتبر العراق منطلقاً لإنشاء جسر بري يمر بسوريا ومنها إلى لبنان، بقصد ترسيخ الوجود الإيراني في المنطقة من جهة. وتسهيل حركة الميليشيات العسكرية ونقل الأسلحة والمعدات العسكرية عبر هذا الرابط البري من جهة أخرى لتنفيذ المهام الموكلة بها.

ففي بدايات عام 2020، وخلال الحملة العسكرية الحكومية في محافظة إدلب شمال غرب سوريا، تم إرسال حوالي 400 من قوات الحشد الشعبي العراقية لهذه الجبهة مستخدمين هذا المعبر الحدودي بعد انسحاب القوات الأمريكية من قاعدة القائم منتصف مارس 2020 وهو ما زاد من قدرة إيران على المناورة في المنطقة والتحرك دون عوائق.

لذا، جاء تفضيل طهران لبعض الميليشيات عن غيرها من تلك المنخرطة في “الحشد الشعبي”، وهو ما حمل هذه الأذرع “الولائية” على عدم احترام القوانين، وارتكاب الانتهاكات الجسيمة دون حسيب خلال الحملة العسكرية على تنظيم “داعش”، بالإضافة إلى القيام بعمليات الاختطاف مقابل الحصول على الفدية والاستفادة من تهريب النفط، وسرقة ممتلكات المواطنين وأخذ الإتاوات منه، بل إن البلطجة الطائفية رفعت أصحابها إلى مصاف الأبطال وجعلت منهم رموزاً، وأبو درع مثال على ذلك.

وفي ظل الأوضاع التي تشكلت على مدار أكثر من عقد، وسمحت بصعود الهويات الفرعية ذات الثقافة الدينية المُسَيَّسَة، فإن التطرف الذي تمارسه الميليشيات الطائفية حيال الآخر قد يجد قبولاً في المشهد السياسي الحكومي، كونه يمثل طائفة السلطة، بل يُنظر له باعتباره حامياً لها وضرورة لمناهضة الآخر والتغلب عليه. ونذكر هنا، عدداً من الأذرع الإيرانية من بينها “كتائب حزب الله” و”منظمة بدر” و”حركة النجباء” و”عصائب أهل الحق”، حيث يرتبط قادة هذه الجماعات بعلاقات وثيقة مع إيران، وعدد من أفراد الحرس الثوري الإيراني في العراق الذين يقدمون المشورة لهم.

استخدمت الميليشيات الطائفية بقوة ضد احتجاجات الشباب العراقي الذي خرج في الأول من أكتوبر 2019 إلى الشوارع للمطالبة بالحد من التدخلات الإيرانية وإنهاء الفساد المستشري وإيجاد حلول للبطالة المزمنة، إذ احتل العراق المرتبة 162 من أصل 180 دولة على مؤشر الفساد ضمن تصنيف منظمة الشفافية العالمية، وطالب المتظاهرون بالإطاحة بطبقة سياسية تعتبر فاسدة وتخدم قوى أجنبية، في الوقت الذي يعاني فيه كثير من العراقيين من الفقر والبطالة وغياب الرعاية الصحية أو الخدمات التعليمة].

والأخطر من هذا أن بعض هذه الفصائل “الولائية” كثفت من عمليات قتل النشطاء وخطفهم، دون أن تتحرك الحكومة باتخاذ إجراءات عقابية ضدها، واليوم يتحدث العراقيون عن دولتين متوازيتين – واحدة بحكومة ضعيفة لن تقوى على تحقيق الوعود التي أطلقها رئيس الوزراء لجهة مكافحة الفساد، والأخرى قوية وتدار تحت نظر الميليشيات واستجابة لمصالح الجانب الإيراني؛ وبحسب رمزي مارديني فإن الميليشيات المسلحة في العراق، متشابكة مع الدولة وتمارس نفوذاً سياسياً معها، الأمر الذي يلغي الحدود بينهما.