(حدوته صغيرة قد تجد لها صدى)
بعد أن شعر حميد الخياط بأنه قد استقرَّ وتجاوز الى حد ما حالة الإنفعال والتوتر اللتان انتابته قبل قليل، ها هو يعود من جديد الى حديثه، موجهاً كلامه لإبن شقيقته بشكل مباشر وعينا لعين: لا زلتَ يا ولدي طري العود والتحمل، ولا تعرف بعد ما معنى لغة الطعنات، لكني سأكتفي بأن أقص عليك ما جرى لي مع أحدهم ذات يوم، والذي يكبرني بسنتين وليس أكثر من العمر السياسي، ولك أن تخرج فيما تراه صحيحا من رأي.
بدأ إبن الأخت مصغياً ومُنشَدّاً بكل جوارحه الى ما سيقوله الخال، فراحَ الأخير يسرد: في إحدى المرات طلب مني هذا الشخص الذي جئت على ذكره قبل قليل، وبعد أن أحسَّ بأن هناك بعض من الشك والقلق أخذا يساورانني بسبب تلك السياسات الخاطئة، والتي بات الغموض بل إنعدام الرؤيا يكتنفها، أن آتيه بكتاب العهد الذي يجمعني وأياه وآخرين مثلنا بمصير مشترك واحد، ليكون فيصَلاً ومرجعا وحَكماً فيما بيننا، نعود اليه إذا ما اختلفنا في الرأي وإذا ما تجاوزنا حدود المسموح والمعقول، فأشار لي الشخص المعني أن أفتح الكتاب وأتلو على مسامعه بعض من نصوصه ذات الصلة، لا أتذكر الآن وعلى نحو دقيق، إن كانت تلك الفقرات التي قرأتها تقع في الباب التاسع أو العاشر من الكتاب، هذا ليس مهماً، ولكن الشيئ المهم والذي ظلَّ عالقاً في ذهني حتى اللحظة رغم مرور بضعة عقود على ذلك الحدث، هو ما سقطت عليه أعيننا، والذي يتحدث عن شروط الانتماء لتلك المنظمة التي جمعتنا، فأذا بي أكتشف ويكتشف معي صاحبي أن لا ظلم علي ولا هم يحزنون، فشريعة الحب، حسب البنود الآنفة الذكر، تقتضي بأن نمسك بالشمس وبالقمر، وأن نمضي بهما سوية، صوب الصدق وصوب الحقيقة. هكذا ورد في النص تماماً، إنَّه كلامٌ جميل أليس كذلك؟ ولكن!.
أخذ (الخال) نفساً عميقاً وواصل ما كان قد شرعَ به: بعد أن قرأت لصاحبي، تراجع وأدار وجهه بل ولاّه بعيدا، فبدا كمن أدرك خطأه، أو أنَّه بات في لحظة أوشك على مواجهة الحقيقة التي لا يريدها، فقد تسبب له حرجا. الخلاصة يا ولدي هي الآتية: من أوهمَ نفسه وبقي طويلاً في إنتظار الخلاص الذي سيأتيه من عالم الغيب والسماوات البعيدة، أصبح في وادٍ ونحن الحالمون والعاشقون الحقيقيون في وادٍ آخر.
حتى اللحظة قلت لا بأس عليّ بالتواصل وبالصبر، فسوء الفهم ربما غلبَ الفهم. وبقينا على هذا الحال بين أخذ ورد حتى ساعة متأخرة من الليل، الى أن بلغنا نقطة أصبح فيها الوصول الى منطقة وسطى أمرا ممكنا، أو هكذا خُيّلَ لي، لذا قلت في سري إذن سنلتقي عندها أو ربما سنعيد الإتفاق على عهد جديد آخر، أو المضي في إجراء بعض التعديلات التي سنتفق ونجتمع عليها لتكون شريعة لنا، لكن أمرا كهذا لم يحصل بل قُلْ دخلنا في باب الإختلاف المحكم.
(يواصل الخال)، عند هذه النقطة وكي لا اُطيل عليك، إتجه كل منا الى ما ارتضاه طريقاً، لذا ألفتني مواصلاً السير بذات الإتجاه الذي كنت قد إخترته منذ زمان بعيد وحين إختلفنا أول مرة. أمّا عن صاحبي الذي ظننته سيستمر ويتواصل معي على ذات الخطى، فقد ظلَّ يراوح مكانه وأعتقد، انه لا زال على هذا الحال حتى يومنا هذا. لا تسألني لماذا؟ وهل أعياه التعب أو ضعف في التفكير، أو بلغ مرحلة ما من الإنحراف، وهذا ما لا أتمناه له؟ أم اختار التروي حتى فقد البوصلة؟ لست أدري. في كل الحالات ها انت تراني اُغنّي لوحدي وربما هناك من يريد أن يغني معي ليصل صوتنا الى ما هو أبعد، ولا تظن بي سوءاً فخالك لا زال قوي العود والشكيمة.
لم أفهم ما قلت يا خال، هل فسّرتَ أو أوضحتَ لي أكثر ما تريد قوله وبما يتناسب وعمري….!
-ألم أقل لك ان الامر ليس سهلا؟
-سأصغي اليك ثانية….
-حسن! هل ترى ذاك الطير؟
-نعم أراه وأرى معه مجموعة اخرى مثله.
-جيد.. كنتُ كذاك الطير أحلق بعيداً..بعيدا
-ولكن كيف لك أن تطير وانك لا تملك جناحات (لم يقل جناحين)؟
-كنا نحلم، نحلم كثيرا.
-ولكن الحلم ليس حقيقة يا خال، هذا ما تقوله لي أمي كل صباح، وخاصة عندما يصاحب صحوي حالة من الإضطراب والتعرّق، وفي الحالتين إن كنت حزيناً أو فرحاً.
-ألم تقل لك أمك عليك أن تحلم؟
-كلا لم تقل لي، ولكن بماذا أحلم؟
-باﻷيام القادمات، بتلك التي ستحمل معها كل أسباب السعادة، لك ولأصدقائك ولمن تحب أيضاً.
-كيف ذلك، ألم تَقلْ لي عليك يا خال أن تكون واقعيا؟
هنا تراجع (الخال) قليلا الى الوراء بسبب من المفاجئة والإعتراض اللذين تحدث بهما أبن شقيقته، خاصة عندما ذكر كلمة واقعي، فعمره لا زال فتيا ولسانه لا زال طريا على قولٍ كهذا. عند هذه اللحظة انتبه إبن الاخت الى (الخال) ليبادره القول: لا تذهب بعيدا، لقد سمعتها منك كثيرا ولنعد الى حديث الطير. ( أدرك الخال خطأه حين لم يستخدم لغة أكثر بساطة، تعينُ سامعها على التلقي بطريقة أكثر جدوى وفائدة).
-آه…صحيح عليك أن تكون واقعيا، ولكن عليك أن لا تنسى الحلم.
-كيف، لم أفهم ما تعنيه؟
-سأحدثك بلغة الكبار قليلا. كثيرا من الافكار الصحيحة تبدأ بالحلم، وأحيانا حين تشعر بالراحة تقول في سرِّك كأنك كنت في حلم جميل.
-هل حققت بعض احلامك يا خال؟
-أوشكت على ذلك، فعندما ابتدأنا بالطيران كنا مجموعة من الحالمين، وكلما ازداد عددنا، كلما حلّقنا مسافات أبعد وأعلى ولتُفتح السماوات على عوالم أبهى.
-كيف يحصل ذلك؟
-هناك تفسيرٌ منطقي أو لنقل علمي بتعبير أبسط لهذه الظاهرة، يقول،:عند التحليق تحرصُ الطيور ان تكون ملاصقة لبعضها البعض.
-لماذا؟
-هذا يساعد الطير على التقليل من الجهد الذي يبذله، لذلك كلما ازداد عدد الطيور في السرب الواحد، كلما حلّقتْ مسافات أبعد وأعلى وباتت أكثر تحملاً على التواصل.
-ولماذا توقفتَ إذن يا خال عن الطيران؟
-هنا مربط الفرس وسأجيبك بشكل مباشر، لأن أسراب الطيور وأعدادها بدأت بالتناقص والتخلي عن هدفها شيئاً فشيئا، حتى تلاشت وبقينا قلة قليلة، لا يمكنها الطيران لوحدها، أو قُل إن طرنا فسوف لن نستطيع التحليق بعيدا.
-يعني هذا يا خال انكم بدأتم تشعرون بالتعب لأنَّ أعدادكم باتت قليلة!
-أحسنت يا ولدي، الآن بدأتَ تعرف أهمية التحليق أسراباً وهذا هو الدرس الأول.
-والثاني؟
-الثاني وهو ألاهم، أن لا تأخذ بالدرس الذي سمعته تواً فحسب، بل الأهم أن تعمل به. هل إتفقنا..؟
-إتفقنا طبعاً.