23 ديسمبر، 2024 5:37 ص

حكايتي مع الستلايت

حكايتي مع الستلايت

كنت لا أزال ضابطا في الجيش في منتصف التسعينات ، وأيام الحصار المجرم الذي فرضه ما يسمى جزافا ( المجتمع الدولي) ، وذروة البطش الصدامي ،والإعلام المسيّس الرخيص من قبل القائد الضرورة ونجله عدي ، ايام  TVالشباب .
فقررت الهروب ، ولكوني عسكريا ممنوع من السفر ، كان ذلك مستحيلا ، فقررت الهروب عقلا ، لا جسدا .
قررت أن افتح ولو نافذة صغيرة على العالم ، ذلك المجهول ، كوننا نعيش في حفرة مظلمة ، قد استطيع ان ارى ولو بصيصا من النور أو الحقيقة .
لم تكن النوافذ المتاحة كثيرة ، وكانت سمعية فقط ، الإذاعات الأجنبية ،التي كنا نلتمس فيها شيء من الحقيقة التي نعتبرها إسرارا ، وكان الاستماع لبعضها ، جريمة يعاقب عليها القانون !.
كنت اعرف عن الأقمار الصناعية ذات البث التلفزيوني المباشر منذ منتصف الثمانينات ، كوني مهندسا مختصا بالرادار وموجات المايكرويف ، وعند دخولنا للكويت إبان الغزو ، كنت أشاهد العديد من الأطباق اللاقطة في المنازل .
كنا نسمع أخبارا مرعبة عن كل من تسوّل له نفسه ، اقتناء هذا الجهاز الذي كان يدخل بالتهريب (القجغ)! ، من غرامات خرافية ، ومصادرة الجهاز ،ومكافأة الواشي ، وإيداع المالك لمدة ستة أشهر في الحبس ، ولما لم يكن ذلك كافيا ، خصوصا بالنسبة للأثرياء ، تفتـقت ذهنية القائد الملهم ووزير داخليته أن يستبدل السجن بالإيداع في مستشفى المجانين ، كي يخرج مجنونا عند انقضاء مدته!.
لم يكن دافع النظام الحرص على أخلاقنا من أن تفسد ، هذا ما يعرفه الجميع ، ولكن كانت الكثير من القنوات الفضائية ،منبرية في تعرية النظام وفضح أساليبه ، هذا ما كان النظام يخافه فعلا ، ليس إلا ، بل بالعكس ، فالجميع يعلم أن عدي ، نجله ، قام بافتتاح تلفزيون الشباب بسلسلة من الأفلام الإباحية ، كان الغرض منها جس النبض ، ولكن الاحتجاج الواسع النطاق من قبل العوائل العراقية جعلت عدي  يتراجع ، ويضع اللوم على فنيي تلفزيونه ، كان احد ضحاياه الاعلامي والناقد اللامع (سامي محمد) ، في مسرحية هزلية رخيصة ، وأقفلت القضية ،وهذه حادثة معروفة.
ولما كانت إمكانيتي المادية اقل من متواضعة لاقتناء جهاز ، قررت أن ابني واحدا .
وهكذا ، كنت أقضي الساعات الطويلة على سطح المنزل في الليل المتأخر ، لأقبض على أحدى هذه القنوات ، لم تكن التقنية معقدة ، فقد كان البث تماثليا (Analogue) ، ونجحت في ذلك ، واعتبرته انتصارا على النظام .
كانت تسري شائعات كثيرة (كان النظام يروّجها) ، من أن الأمن يمتلك أجهزة خاصة لاقتفاء اثر تلك الأجهزة (وكمهندس كنت اعلم إن هذا غير صحيح) ، وإنهم يبحثون عن الأطباق اللاقطة على أسطح المنازل بالطائرات ، كل ذلك لم يكن صحيحا ، ولكني أقر أن أكثر من 90 % من مالكي هذه الأجهزة ، قد تعرضوا للفضيحة! ، ليس بسبب شطارة الأجهزة الأمنية ، ولكن بسبب الوشاية ، عن قصد أو دونه من قبل صديق ، أو جار!.
أحد أقاربي كان معوّقا ، ويمتلك هذا الجهاز ، كنا نجتمع في غرفته كاللصوص ، وكان أحد جيرانه معنا ، يشرب الشاي ويأكل الطعام ، وبعد ايام ، قام بالتبليغ عنه!.
لم تدم فرحتي طويلا ، فقد تعرضت إلى إلقاء القبض من قبل الفرقة الحزبية ، بسبب جاري الأول ، وليس السابع الذي أوصى الله به خيرا ! ،العضو العامل في الفرقة ، بعد أن دفعه فضوله إلى البحث عن مصدر ومضات الضوء على سطح منزلي في منتصف الليل .
ومرت الأيام ، وسقط النظام ، وصار الجميع يمتلك أجهزة (الديجيتال) .
هذا اليوم ، تصفحت أكثر من 100 محطة بعجالة ، أكثر من 90 محطة منها كانت تبث الدعايات التجارية ، التي لا ناقة للعراقي بها ولا جمل ، فجـُلّ هم العراقي ، هو أن يبقى حيا ، لا أن يضع المساحيق ، اوالاغتسال بالشامبو الفلاني ، أو المشاركة في حملات اليانصيب أو الحزورات السخيفة التي تلتهم رصيد الموبايل دون طائل من قبيل (ماهو الشيء الذي ظهره أخضر وبطنه حمراء وبداخله حب رقّي!) ، أوما هو  الفرق بين صورتين لفنان قاموا بمحو (خشمه ) من الصورة الثانية !، أو دعايات البيتزا الفاخرة ، أو مراهم تفتيح البشرة لدى الفتيات ، وكأن سمرتهن صارت عارا بعد أن كان شعرائنا يتغنون بها لأنها جزء من هويتنا ، ومستحضرات للتخلص من التخمة ،تُعرض أمام متفرج جائع !،وعدة قنوات أخرى منهمكة بعرض الطبخ ، نحن نعلم أن كل ذلك ليس لنا ، بل لسكان الصحاري الذي جعل منهم النفط (أوادم) ، ونحن قد احترقنا بنفطنا ! .
باقة من هذه المحطات ، مصدرها دولة خليجية ، راعية للإرهاب والتكفير ، جعلتني أحفظ كل المصطلحات البذيئة التي يتعاطاها المجتمع الأمريكي السفلي عن ظهر قلب !.
من حق المحطات الفضائية دفع مستحقاتها بواسطة بث الدعايات التجارية ، ولكن ليس إلى درجة الاستخفاف الشديد بالمشاهد ، فقد تبلغ مادة الإعلان ثلثي مادة القناة ، من مسلسل أو فيلم.
استبشرت خيرا بقناة (ناشيونال جيوغرافيك –ابو ظبي) ، كونها تبث موادا علمية ، حتى اصابني الغضب والحيف والحنق ،فهي تارة تعرض انجازات علمية هائلة تجعلني اتسائل : الا يشعر سياسيونا بالغيرة ، فيتجهوا للاعمار بدلا من الانهماك في السرقة والتأمر والخيانة ،الى درجة الانخراط في الارهاب!؟.
وتارة تتحول الى دعاية للآلة العسكرية الأمريكية الهائلة ، ويتبجحون بفخر ، إنها ساهمت في ضرب العراق في عاصفة الصحراء ، وبعدها ما يسمى بحرب تحرير العراق ، وكأننا حقل تجارب مجانية لهذه الاسلحة الجهنمية ، وقد كنت من ضحايا هذه الأسلحة التي قطعت أوصال أبناء جلدتي ودمرت ما تبقى من بلدي  ، وأنا أراهم يعبئونها في طائرة أو دبابة ، يعترفون انها جُرّبتْ للمرة الأولى في حرب الخليج الاولى !.
في نظري ، إن عهد الستلايت كعهد ما بعد صدام ، لقد كان التخلص من صدام ، والتطلع الى عراق ما بعد صدام ، الكأس المقدسة لدى العراقيين ، كفضولي لبناء جهاز الستلايت ، وفي الحالتين ، كانت الخيبة مدوية .
في عهد صدام ، كانت الحواجز هائلة ، تنطح السماء ، وكل الذي حدث ، ان تلك الحواجز صارت مرئية وملموسة ، حواجز كونكريتية ، غلفت وجه بغداد الجميل ، وكل مدن العراق ،تلك الحواجز قد أثرتْ (البعض) ، ممن ينطبق عليهم القول (مصائب شعب للسياسيين فوائد) !.