لأنني عاشق لبغداد وتراثها ومعالمها ومساجدها الاثرية والتراثية فكان لابد لي وأنا في طريقي بين الفينة والأخرى الى شارع المتنبي،أو شارع الرشيد،أو ساحة الرصافي أن أصلي في هذا الجامع الاثري وعمره اليوم”أربعة قرون ونصف” بالتمام والكمال،حيث شيد -جامع المرادية- في رصافة بغداد على يد الوالي العثماني مراد باشا سنة 1570م ،وله مئذنة غاية في الروعة وقبة كبيرة في منتهى الاتقان مع عدد من القباب الصغيرة المجاورة ، وكأن المئذنة أب،والقبة أم ،وبقية القباب الصغيرة ابناءهما من ذكور وأناث !
ومن لطائف جوامع بغداد التراثية القديمة وروائعها أنك تسمع أذان المساجد القريبة وتلاواتها العطرة في نفس الوقت وانت داخل أحدها ولكن من غير تشويش ولاتداخل ولا تنافر ولاتقاطع بينها البتة،فمن باحة جامع المرادية الخارجية مثلا كنت استمع من مكبرات صوت(جامع الاحمدي،الذي بناه أحمد باشا الكتخذا سنة 1796م وقد سمي بأسمه -الأحمدي-وكان يضم مدرسة فقهية عريقة -الاحمدية -ولها وله اوقاف لاتحصى تخرج ودرس فيها كبار علماء بغداد) والذي يبعد عن المرادية من جهة اليسار بـ 50 مترا فحسب الى صوت المنشاوي وهو أجمل صوت قرأ القرآن الكريم منذ استخدام الكرامافون والاسطوانات وبدء التسجيل الصوتي والى يومنا،اسوة بالشيخ الحصري وعبد الباسط عبد الصمد والحافظ خليل اسماعيل من وجهة نظري المتواضعة،فهؤلاء لاتكاد تمل من رخامة اصواتهم ولا من الاستماع لهم على مر الزمن ، فيما كانت الصلوات على النبي صلى الله عليه وسلم الصادحة من مكبرات(جامع الازبك الذي بناه سلطان اوزبكستان عبد العزيز خان ،سنة 1682م ثوابا على روح عمه السلطان السابق عقب وفاته في بغداد خلال مروره بها في رحلة الحج الى مكة وكان الجامع يضم مدرسة فقهية رصينة ينفق على طلبتها ومدرسيها من وقفيات الجامع،اما السؤال عن مصير هذه الوقفيات والى اين تذهب عائداتها ، فسؤال حائر ومؤرق قطعا لن يجيبك عليه احد عن ذلك قط) القريب والذي يبعد عن المرادية بـ 130 مترا فقط،تفوق الوصف وتتجاوز الخيال ففي حياتي كلها لم استمع لا في اذاعة ولا تلفزيون ولا يوتيوب أجمل من صوت المؤذن الصادح بعد الاذان بالصلوات على النبي الاكرم صلى الله عليه وسلم مطلقا..لقد كان رجلا طاعنا في السن الا ان صوت آذانه وصلواته على خير الخلق من عرب ومن عجم عبارة عن تداخل روحاني وتنسيق نغمي عجيب يجمع بين المدارس النغمية العراقية والتركية والشامية والمصرية في آن واحد..حتى أن أحدا ليس بوسعه تقليده رحمه الله تعالى حيا او ميتا، ولطالما حدثت نفسي بمغادرة جامع المرادية بعد الوضوء فيه للصلاة في جامع الازبك متأثرا بهذا الصوت الرخيم المذهل المنساب كنسيم الصباح أو كسرب حمام ابيض يحلق عاليا في كبد السماء” ياجماعة الخير إن الاهتمام بأصوات المؤذنين وخاماتها وطريقة ادائهم وأسلوبهم ومخارج حروفهم والفاظهم ليست ترفا بالمرة فالاذان الجميل كالتلاوة القرآنية العطرة الجميلة = اشاعة جو ايماني وروحاني يملأ المكان بعبقه وشذاه ، ما من شأنه رفع همة المتكاسلين،المتقاعسين ،المترددين وجذبهم الى الجامع لاداء صلاة الجماعة جذبا !” .
ولطالما تابعت برامج على اليوتيوب لغربيين وآسيويين يستمعون الى الاذان ويتأثرون به أيما تأثر وبعضهم يذرف دموعا سخية مع انه لايفهم كلمة واحدة من الاذان ،وعندما اختار الاسلام صوت الانسان لرفع الاذان بدلا من الشوفاراليهودي والناقوس الكنسي لم يكن ذلك عبثا أو متأتيا من فراغ،انه صوت الانسان المنبعث من القلب ليذهب من فوره الى القلب بخلاف صوت الجمادات -الشوفار والناقوس – ولابد من حسن اختيار المؤذنين وتدريبهم واختبارهم أمام لجان متخصصة لهذا الغرض كما هو معمول به في عدد من الدول العربية والاسلامية لعل تركيا وماليزيا في مقدمتها !
جامع المرادية يقع الى جوار دار الكتب والوثائق العراقية، أو “دار المليون كتاب والـ 20 مليون وثيقة التي تصارع من أجل البقاء”،والتي تعرض جانب كبير منها الى الحرق والاغراق والعبث والنهب في عصر الحواسم عام 2003 في عهد السكير الاحمق “بوش لنك ” مستلهما خطته الشيطانية تلك من سلفه تيمورلنك الذي احرق بغداد ومكتباتها وعاث فيها فسادا وافسادا،وحدث في عام 2009 ان كلفت بعمل تحقيق صحفي عن هذه الدار وقد استمعت الى ما تشيب لهوله الولدان فهذه المكتبة الوطنية قد تعرضت الى الدمار بنحو35% بالنسبة للكتب،اما بالنسبة للوثائق فقدرت بحدود 50% ،وكان التلف بشمل الحرق والسرقة والتهريب،وقد طالت الوثائق العثمانية،ووثائق الانتداب البريطاني، والحكم الملكي، كذلك وثائق العهد الجمهوري بمراحله المتعاقبة،علما أن عدد الكتب التي كانت تضمها قبل 2003م، تقدر بمليون عنوان ،أما عدد الوثائق فيبلغ 20 مليون وثيقة، أغلبها تعرض الى الضرر والتلف المتعمد من جهات مجهولة فتحت بعضها المياه على ما خزن منها تحت الارض فيما أخذ الاميركان بعض ما اغرق منها بذريعة اعادة ترميمه – وتعيش عمر النسر وتواسد أم عران ..هذا يوم وذاك يوم ، مش بوزك فما سرق رعاة البقر أثرا في يوم ما الا وأخفوه،الا وأتلفوه ،الا وأعادوه مقابل المقايضة بما هو اثمن منه، أو انهم أعادوا نسخة مشوهة او مزيفة منه ،أما ما تعرض منها للتلف فإن بعض كفاءات هذه الدار قد بذلت جهودا حثيثة لإعادة ترميمها يدوبا تارة باستخدام الورق الياباني، وأخرى بطريقة العجينة،وبعمليات معقدة ودقيقة جدا اشبه ماتكون بالعمليات الجراحية كل ذلك بغية إعادة تأهيل وترميم اعداد كبيرة من الملفات والسجلات العثمانية والكتب النادرة والافلام المصغرة(المايكروجب) التي تعرضت للتلف بسبب النقل والحفظ والعوامل البيولوجية والكيمياوية اضافة الى هجمة الحواسم !
والاعجب من سرقة الوثائق العراقية في عهد بوش الاميركي الحاقد ، هو ما قامت به قوات الاحتلال البريطاني من محاولة لنشر الرذيلة في العراق لإفساد شبابه يوم تعمدت حصر المبغى العام في المنطقة القريبة و المحيطة بالجامع في محلتي – كوك نزر والكلجية – بما كان يعرف يومها بـ” الدربونة “هكذا من دون تخصيص او قرينة وتضم 100 منزل قذر خصص لهذا الغرض حتى عام 1954 حين شنت حملة كبرى ضد هذه الدور وتم ترحيل من يسكنها ، واشترطت القوات البريطانية وقتئذ ان يشرف على الدربونة -سمسارا- يعطيها جزءا من الرسوم المفروضة على الداخلين اليها بلا ادنى حياء ولا خجل ..ولايفوتني هنا ان اذكر انه وعندما سألت احد المتخصصين عن الاسباب التي تقف وراء اتلاف تلكم الوثائق وبهذه الطريقة الهمجية على يد عصابات – مجهولة معلومة – فضلا عن حرص المخلصين واصحاب الغيرة على بلدهم لإعادة ترميمها واصلاحها برغم الاضرار الجسيمة التي لحقت بها قال ” لأن هذه الوثائق انما توثق ملكيات وعائديات واراض وبساتين ومزارع وعقارات لأصحابها الاصليين وما محاولة العبث بها الا محاولة خائبة كمقدمة للعبث بالملكيات والعائدات والوقفيات حتى يتم تغيير ملكياتها لاحقا وعلى مراحل لبيعها واستملاكها من قبل كل من هب ودب !
وهكذا مضت السنون وظلت جوامع بغداد الاثرية والتراثية شامخة وشاهدة على مجمل الاحداث يؤمها المصلون ويتعاقب عليها الائمة والخطباء والمؤذنون وستبقى كذلك ما تعاقب ليل ونهار ولن تفلح كل محاولات تغيير عهدة الاوقاف التي اوقفها الخيرون عليها لأن الاوقاف لا تباع ولاتشترى ولا تهدى ولا تورث مطلقا …!
#لا_لإتفاق_الوقفين
#أوقافنا_ليست_للبيع
#بيع_الاوقاف_باطل