حكاية زمنين بين دكان القرية والأسواق التجارية

حكاية زمنين بين دكان القرية والأسواق التجارية

في ذلك البيت الطيني ومن ذلك الشباك الصغير وفي تلك الدربونة التي لا يتعدى عرضها الثلاثة أمتار من أحدى الدربات في قريتنا القديمة، كان هناك دكان صغير يتوسط المشهد اليومي لأهالي تلك القرية. لا تعلوه لافتة كبيرة ولا يزاحمه إعلان ضوئي، لكنه كان كافياً ليُشبع حاجات الناس من متطلباتنا البسيطة. كانت هناك أنواع الحلويات المصنوعة من السكر أو الحلاوة السكرية ، أو بعض النساتل الخالية من طعم الكاكاو والفانيلا اضافة إلى متطلبات عوائلنا التي تعتبر من حاجيات البيت الريفي مثل بكرة الخياطة والإبرة وأمتار اللاستيك وباكيت السجائر وغيرها من الحاجات البسيطة التي يحتاجها الأسرة الريفية في القرية.
‏ذاك الدكان الصغير، الذي عاش معنا سنوات القحط والعوز بمساحته التي لا تتجاوز بضعة أمتار ورفوفه القليلة التي كانت تحمل تلك الحاجيات…
‏ومع مرور الزمن، تطورت الأمور في تلك المهنة وذلك الدكان بعد أن قررت الدولة منح وكالات خاصة تسمى وكالة المبيعات الحكومية، والتي تم منحها لأشخاص معينين ميسوري الحال وعلى مستوى كل قرية. وهنا اختلف الأمر، فأصبحت هذه المحلات ذات شأن لأنها تجلب كافة المواد المنزلية مثل السكر والشاي والطحين والأرز والدهن، بالإضافة إلى بعض المعلبات التي لم نكن نعرف شكلها أو نوعها أو اسمها. وهكذا دخلنا في عالم مختلف عن عالم ذلك الدكان القديم…
‏في دكان القرية الجديد أو كما ذكرنا التابع لمصلحة المبيعات، كان التعامل بالثقة بين أهالي القرية. فدفتر الدين مفتوح لكل من ضاق به الحال، وكلمة “على الحساب” لا تُقلق أحداً، بل تُشعره بالأمان والرحمة. لأن صلة الأرحام كانت مبنية على أساس العلاقات المتينة بين أبناء المجتمع وتسكن في قلوب نظيفة صادقة.
‏أما اليوم، فقد تغيرت الملامح وتبدلت الحكايات. الأسواق التجارية الحديثة الكبيرة ببضاعتها المتنوعة، والتي تُسمى مولات أو سوبر ماركت، حلت محل الدكاكين القديمة، بشاشاتها الإلكترونية وعربات الدفع وبطاقات الائتمان، والتعامل بكافة العملات المحلية والأجنبية. كل شيء مرتب وأنيق، لكن بارد ولا تشعر أن له طعم أو ترافقه فرحة معينة… كل شيء متوفر ولكن لا حكايات تُروى، ولا قصص عن الفقر، ولا يوجد شيء من متطلبات العائلة غير موجود.الا انه فاقد. لطعم الحياة.. تطورت الحياة نعم، وازدادت الخيارات وتنوعت البضائع، لكننا خسرنا شيئاً ثميناً: البساطة، والعلاقات الإنسانية العفوية، والعلاقات الأسرية… وافتقدنا التعليلة فوق ما يُسمى “دچة الوحل”، وربما خسرنا الكثير من الروابط الاجتماعية التي كانت تُبنى على عتبة ذلك الدكان وفي تلك البيوت الطينية، وأتذكر جيداً عندما كنا نشتري لعوائلنا حاجات المنزل الضرورية ونؤجل دفع ثمنها حتى موسم الحصاد.لم تكن الدكاكين مجرد محلات تجارية، بل كانت جزءاً من النسيج الاجتماعي. أما اليوم، فصرنا مجرد زبائن في عالم كبير لا يتوقف، لا يعرف الليل من النهار… عالمٌ مادي كثرت فيه الأموال وماتت فيه صلة الأرحام.ومع كل زيارة لأحد تلك الأسواق، لا يسعنا إلا أن نشتاق لرائحة الدكان القديم، لصوت الميزان اليدوي، وابتسامة ذلك الحاج وهو يقول: سلملي على أهلك.
‏ او ربما يسالك سؤال ما خطبتو لاخوك الكبير…

أحدث المقالات

أحدث المقالات