18 ديسمبر، 2024 5:46 م

حكاية تركمانية تبكي الحجر قبل البشر

حكاية تركمانية تبكي الحجر قبل البشر

طورغوت كوبرولو ابن الشهيد أحمد أنور كوبرولو وأخ لشهيدين هما طوران وأتيلا. يروي طورغوت هذا قصة إعدام والده وشقيقيه والتي تحتوي على أبشع أنواع الوحشية التي شهدتها الإنسانية قط بعد واقعة الطف الأليمة في أرض كربلاء. هذه قصة واحدة فقط من بين 102 قصة لشهداء تركمان مغدورين في مجزرة التون كوبرو.

يروي طورغوت قصتهم حيث لجئوا إلى مدينة التون كوبرو هرباً من قمع النظام الصدامي وبطشه إبان الثورة الشعبانية الدموية. لجئوا إلى التون كوبرو ليسلموا من شر الظالمين وينجوا بأنفسهم وأولادهم من البطش والغطرسة والعنجهية الصدامية. فهم لا دور لهم بكل ما يحدث وليسوا إلاّ شعباً مدنياً ومواطنين عزل. لجأ الشهيد أحمد أنور كوبرولو إلى التون كوبرو ليحافظ على حياة أطفاله وعائلته. وليحميهم من شر هذا الجيش البربري الذي لا يرحم صغيراً ولا كبيراً.

وهم مختبؤن في البيت الذي لجئوا إليه في التون كوبرو حيث وصل الجيش العراقي إلى مشارف المدينة. بدأت الاعتقالات وتم أخذ الرجال المدنيين العزل من السلاح والذين لا حول لهم ولا قوة. الكل يعتقد أن الاعتقالات هي لغرض التحقيق والاستجواب لاستتباب الأمن ولغرض كشف القائمين بالانتفاضة وإلقاء القبض عليهم ليس إلاّ.

جاء أفراد من الجيش العراقي ودخلوا البيت الذي يقيم فيه أحمد أنور كوبرولو وعائلته. طلبوا منه أن يذهب معهم. فقام أحمد أنور وتهيأ للخروج معهم والأمر طبيعي جداً وليس في نفسه شيء من الخوف. فهو ليس بمقاتل وليس من الذين حملوا السلاح ضد الطاغية. إنه يلجأ إلى التون كوبرو كي يسلم هو وعائلته من الموت.

أبناء أحمد أنور الصغار والذين يحبون والدهم للغاية ومتعلقون به. الذين لا يتجاوز أعمارهم 13 عاماً، أصروا على الذهاب مع والدهم. الأب الذي لا يعلم شيئاً عن مصيره يقول لهم أبقوا أنتم في البيت سأعود إليكم بعد انتهاء التحقيق. إلاّ أن الأطفال يصرون على مرافقة والدهم وكأنه يخرج إلى نزهة أو سيشتري لهم شيئاً من الحلوى كما اعتادوا على ذلك.

يقتاد الأب الطفلين معه.. وهذا شر اقتياد شهدته البشرية على وجه الأرض. الجنود يأخذون الأب أحمد ومعه اثنان من أبنائه.. وإذا بالأمر أن الجيش العراقي يجمع المواطنين التركمان لغرض إعدامهم رمياً بالرصاص وبشكل جماعي. وصلوا إلى المذبحة في منطقة قرب قضاء الدبس حتى اكتشف الأب الأمر وعرف أن لا رجعة لهم بعد الآن وأن مصيرهم المحتوم هو الموت. صعق الأب وشلت كل أعضائه.. لا يفكر هذا الأب بالموت ولا بما سيحل به.. انصب جل همه وتفكيره بطريقة ينقذ بها طفليه من الموت وقد اقتادهم بإرادته إلى هذا المصير. لا يقوى أحمد أنور على الوقوف ورجلاه لا يحملان جسده المثقل بوقعة الفاجعة بل يسند نفسه بكل صعوبة.

في هذه الأثناء يتوجه الأب المفجوع بالرجاء من الجلادين من أفراد الجيش العراقي.. يرجو منهم أن يتركوا أبناءه الصغار ليرجعوا إلى البيت ومن ثم يفعلوا به ما يريدون. الأب أحمد أنور يعتبر الموت هنا هدية بل فوزاً له إذا ما تمكن من إنقاذ ولديه.. سيفرح كثيراً بالموت وسيسعد للغاية إذا ما تم قتله دون ولديه طوران وأتيلا. يترجى الجلادين القتلة من الجنود عديمي الرحمة أن يحرروا ولديه. يتكلم إلى هذا وإلى ذاك، يبكي يصيح يرجو يستنجد.. لكن دون جوى. إلى أن اتخذ الجلادون القرار في أمره..

نعم اتخذ الجلادون القرار واخبروا أحمد أنور بقرارهم السيئ. قالوا له (سنقتل أولادك أولاً).

عندها عقد لسان أحمد أنور وما عاد يقدر على الكلام.. أي ظلم هذا أي بؤس هذا أي طغيان هذا.. ماذا من شأنه أن يفعل وهو ينظر إلى أعين أطفاله بكل عجز وقد يئس عن إنقاذهم. الأولاد يتطلعون إلى أعين أبيهم ويحترقون بنار قد يكون أكثر وطأة من الرصاصة التي سوف تطلق عليهم. سقطوا أرضاً فليس في بدنهم قوة تسندهم للوقوف. في هذا المنظر المأساوي الذي يندى له جبين الإنسانية. بعد أن يأس وتيقن أن الجنود العراقيين قد عزموا على قتل أبنائه، في تلك الدقائق القاتلة بالغيظ يعود أحمد أنور ليغير طلبه من الجنود الجلادين وهذا هو الطلب الثاني له عسى أن يجدي نفعاً.. يرجوهم الآتي: اقتلوني قبل أولادي..

إن بعض الشر أهون.. أصبح أحمد أنور الآن يتمنى الموت مقابل أن لا يشاهد قتل أبنائه رمياً بالرصاص أمام أعينه.. يرجوهم أن يقتلوه وأن ينتهي أمره قبل الطفلين.. أي طلب هذا وأي قلوب هذه التي تضحك من أناس تحترق أفئدتهم. للمرة الأولى يجد طوران وأتيلا أباهم أحمد عاجزاً بائساً ضعيفاً.. هذا الأب الذي كان يلين لهم الحديد ويخدمهم بنور عينيه. ها هو الآن يسقط بين أقدام الحقراء من الجلادين يرجوهم بأن يقتلوه.. إنه يرجو منهم الموت.

الجلادون يتخذون القرار الثاني بعد القرار الأول بقتل الأبناء قبل الأب.. يقرر الجنود مستهزئين بأن يقتلوا الأبناء ويبقوا الأب يدور رقصاً من الألم على أشلاء فلذات أكباده طوران وأتيلا. اختاروا أبشع أنواع الموت ليموت الأب بحرقة قلبه.. ليموت بعد أن تنقطع أنفاسه حزناً على أبنائه وأن يختنق ويغرق بدموع عيناه.. وقد تم ذلك فعلاً.. سحب جندي حقير صعلوك من جنود الجيش العراقي سلاحه ليوجه إطلاقاته إلى الصغيرين طوران وأتيلا.. وأمام مرأى ومسمع أبيهم. أفرغ هذا الجندي الحقير ما في مخزنه من الرصاص في رأس الصغيرين وبدم بارد إلى أبعد الحدود. يضحكون ويفرحون وأحمد أنور يكوى بنار أطلقت على الصغيرين. لم يكن يحس بالألم والحرقة لو وجهت هذه الرصاصات على رأسه هو. إنه يسابق الرصاص ليعترض طريقه، يريد أن يمسك بالرصاص قبل أن تخترق جسد ولده. لكن الرصاص أسرع من الأب أحمد بل وأسرع بكثير..

كان يتمنى أن تقع تلك الرصاصات على صدره أو على ظهره أو على عينيه أو على رجليه وعلى بطنه، بدل أن تطلق على رأس ولديه. أحمد أنور كان يعتبر تلك الرصاصات بخات من قنينة عطر أو كلونيا يعطر بها جسده كما يفعل الشخص بعد الحلاقة أو عندما يتهيأ للقاء الحبيب. كان يتمنى أن يعطر بها كل نقطة من جسده قبل أن يشاهد طوران واتيلا يأنون أمام تلك الإطلاقات ويسقطون تحت وابل الرصاص وعيونهم تتمعن السماء ولا يعلمون بأي ذنب قتلوا.

الرجاء الثالث لأحمد أنور من الجلادين.. يرجوهم أن يقتلوه. يجري من خلفهم يصيح بأعلى صوته طالباً أن يتفضل عليه جندي من الجنود وأن يوجه عليه سلاحه وأن يقتله. يصيح أرجوكم اقتلوني، فالنار التي يكتوي بها الأب أشد حرارة من حرارة الرصاص الذي يتمنى أن يرمى بها والذي ذاقه قبل قليل اثنان من ولديه. إنه يعتبر الرصاصة في رأسه مفتاحاً لدخول الجنة التي دخلها ولديه قبله. أنه يعتبر الرصاصة وسيلة لتلحق روحه بولديه إنه يعتبر الرصاصة الآن سفينة يركبها ليصل إلى اليابسة التي انطلق إليها ولديه ويلتقي بهم هناك.

بقي أحمد أنور على هذه المناجاة لمدة ساعة إلى أن ترحم عليه أحد الجنود برصاصة في رأسه ليسقط شهيداً وتتحرر روحه الطاهرة من جسده ويلحق بولديه الذين ينتظرونه في منزلة الشهداء في العليين.

وهكذا انتهت قصة أحمد أنور كوبرولو مع ولدية طوران وأتيلا في مقبرة جماعية سكنها مع نجليه.. إنهم أحياء عند ربهم يرزقون ولهم الشرف والعزة ولذويهم الافتخار. والخزي والعار لكل من ساند الجلادين وهتف لهم وصعد في مركبهم في الدنيا قبل الآخرة وسود الله وجوههم.