19 ديسمبر، 2024 3:33 ص

في حفلة التخرج الخاصة بكلية الهندسة التي جرت في باحة الكلية , لم تكن ” رخيل “

متميزة , ربما بسبب تحفظها , فقد كانت طروحاتها في بعض الامور حيادية ومقوّضة في أمور أخرى, فقد تبين ذلك في إطارأستفتاء خاص بتمديد فترة الدراسة في كلية الهندسة كأقتراح من أحد التدريسيين أستجابة للتطورات النظرية الحديثة في مجال علم الميكانيك مما يتطلب الزيارات الميدانية للدول المتقدمة في هذا المجال والاشتراك بالدورات التدريبية . وبسبب موقفها هذا فقد تعرضت الى نقد قاس من بعض الطلبة واتهامهم لها بقصرفي الأدراك وآخرين قالوا إن هذه الشابة تهيمن عليها عادات وأنماط قديمة . كما وأن هذه الحفلات لا تبعث على شيء يمكن أن تحلم به فتاة مثلها , فهي طوال فترة الدراسة كانت بعيدة عن أقرانها الى حد يقترب من الأزدراء . وذات مرة أخبرني صديقي ” غازي ” أنه يراها ذات حساسية مفرطة ماجعلها غير مهتمة حتى بالمقربين منها , ومثل هذه المرأة , أضاف صديقي , تبحث عن هدف جدير بها وهي بهذه السيرة إنما تغلق على نفسها الباب بينما يتوجب عليها القليل من الأنفتاح والخروج من طرق يتعين أن تراها مناسبة للهروب من دائرة التردد هذه والدخول في عالم الألفة وهو المعيار للمكون الانساني إذ بدونه يعيش المرء في متاهة أمزونية .

أنقضت فترة أسبوع على حفلة التخرج , كنت فيها أعد للتقديم على عمل في لجنة الصليب الأحمر , إذ وضعت الحياة قدماي على طريق الكفاح كما تضع الثور في النير وعلى المرء إدراك وتقبّل ذلك . فألتقيت الفتاة نفسها عن طريق الصدفة بالقرب من موقف للسيارات وهي تخرج من سيارة بي أم فارهه . ومن دون أن تخفي أهتمامها , فقد غرزت عينيها بي بطريقة كأنها تركّز في قراءة أعلان تجاري . لم أكن متواصلآ معها أثناء الدراسة في الكلية فكأن بيني وبينها برزخآ فجآ , حتى أنني حّدقت يومآ في نقطة معينة في جسدها من دون أن أعرف أنها “رخيل ” , فوقفت تحدّق بي قائلة : هل حددت كتابك أخيرا ؟!

تسمّرت في مكاني في تلك اللحظة وأنا أحاول تفسير ماتقصد , إلا أنني تراجعت وأحسست أن أحدا يقبض على عنقي وأن أفكاري لم تكن كافية للرد عليها فكدت أختنق ,أما هي فبحركة يشوبها الانفعال استدارت لتتركني .

إلا انني اعترضت طريقها هذه المرة وقلت لها متهكما :

– هل قرأت الإعلان بدقة هذه المرة, إنه عن مهندس غرير يبحث عن عمل !! .. ثم راحت ترتقي حافة الرصيف لترد بإجابة تعضّد ذلك التحديق , فقالت ببرود :

– لست طريدة !

أثار ردها اهتمامي وأدركت أنها كمن يريد ان يضعني في لعبة شطرنج لأرد على هذه النقلة لتخضعني لاحتمالات هذه اللعبة التي تقودها كلمة ” ينبغي ” وبما أنني لست لاعبا ماهرا ولا أملك الرغبة في ذلك , فرأيت الانسحاب من هذا الامتحان وقلت لها :

– أنت تفتحين بابا للحوار هذه المرة . وأنا لست مضطرا لذلك , ولنتقبل هذا الأمر .

فتراجعت هي الأخرى بوجه متجهّم ثم راحت في ذلك اليوم الشديد الشمس تتقدم بجسد مائل ورقبة مشرئبة وكأن الارض لاتتسع لجمالها وأناقتها وسلاسة كعب حذائها الذي يوشك في خطواته ان ينغرز في بلاطات الرصيف , فأومأت للسائق ليهرع في اعطائها ظرفآ كبيرآ لتخطفه منه . ثم تقدمت بخطواتها السريعة لتدخل في بناية اللجنة . بعد هنيهة أقترب مني سائقها فجأة ليخاطبني بعد أن القى التحية قائلآ :

– مع أني لاأجد ما أبرر به وقوفي أمامك , إلا أنني رأيت وكأن مبارزة بالكلمات جرت بينكما وأظنها مقدمة لما ستنصبه لك من حبال .

أستغربت ونظرت اليه بذهول فرأيت كيف أمتقع وجهه مضطربآ وقلت له بسخرية :

– أتعرفني حتى تجيء لتلقي عليّ قصتك المتقنة ؟! .. من أنت حتى تتكلم عنها بهذه الكلمات التحذيرية ؟

جفل السائق وهمّ بترتيب هيئته , ثم أخذ شهيقآ وعاد ليقول لي :

– أعلم أنك دهشت ولكنك ستسمع شيئآ سيدهشك اكثر اذا اتحت لي الفرصة . ثم أضاف :

-عن أي شيء تود ان تسألني ؟

لم ارد على سؤاله , بل تذكرت نصيحة أحد الاصدقاء : ” الكلام تعبيرعما تخبئه النفس “, كما وانني ادركت ان هذا الرجل بائس ولايستحسن التحدث معه . فقلت له :

– هل تعمد بأبلاغي عن ضميرك اليائس وإرادتك اليائسة , أو عن تجربة انتهت بالفشل ؟ فانا لا أريد الخوض في الحديث معك ارجوك !

دنا مني السائق وأنا أنظر الى عينيه السوداويين ببريقهما الخافت ووجهه الاسمر العادي ثم قلّبت نظري نحو قامته المتوسطه وأنا افكر في اختيار الكلمة التي تليق برجل كهذا الذي خلق مناخآ للخوض والكشف عن مجهول هذه المرأة التي تداولنا أمرها فترة طويلة , وقال أخيرآ وهو يضع يده برفق فوق كتفي :

– ولكنني اخوض في شأن يهمنا ولكي نبدأ الحوار , علينا ايجاد مايسوغه . وانا وجدت ان اتكلم معك لأضيء شيئآ من عتمة ماأراه , وأسمح لي أن أقول أني عمدت ان تكون لي سلّمآ اصل فيه الى حكم قاطع لهذه المرأة .

أشتدت الصفرة في وجهه وكأنه يتهيأ للدخول في حقل من الالغام , بينما أوشكت شمس النهار أن تنتصف تحجبها اكتاف الغيوم الساكنة , وأردف يقول :

– الحكم القاطع اعني به معرفة ماإذا كان لكما تأريخآ مشتركآ وإلا ما تفسير هذا الوقوف والنظرات الأنفعالية لأحدكما الآخر أمام أنظار الناس وكأن أواصر قربى بينكما ؟!

أخرجت منديلي لأمسح به وجهي وأنا أنظر الى النحيل وشعر رأسه الأسود الطويل الذي يشوبه الشيب في بعض من أجزاءه وذقنه المستدق فسألته بقلق :

– من أنت ؟ وماهي صلتك بالبنت ؟ ! وهل انت قلق من شيء ؟!

حدّق الرجل بي وكأن شيئآ داهمه بغته فقال :

– هل ينبغي أن تعرف ؟ ! ثم صمت وخيّم السكون بيننا ونحن نقف وجهآ لوجه .

ظهرت علينا الفتاة فجأة وهي تخرج مجتازة المسافة بين باب اللجنة ومنعطف الشارع الذي يقع نحو اليسار وهي تنظر الينا بأستغراب , ثم توجهت بالكلام نحو سائقها لتقول :

– هل اتيحت لك الفرصة أن تطلق النار على أحدهم . ثم التفتت اليّ وقالت :

– أرجو أن تفهم ان النظر الى الاعماق لايتم من بعيد .ثم أبتعدت الفتاة ولم أتفوه بكلمة واحدة لها أو لسائقها أوأمسك بتلابيب مايجول في ذهن أيٍّ منهما .

ساد الهدوء في المكان وأنا أقف محلقآ بتفكيري في يوم وقف فيه زملائي مبتسمين عندما خاطبني ” غازي ” بقوله :

– أما زلت تنظر من خلف زجاج النوافذ تقضي على صمت لتستأنف آخر ؟ وهل هناك بقية من العمر ؟ ثم اردف قائلآ وهو يرفع ناظريه نحو سقف قاعة الدرس :

– هل أنت معجب بها ياسيدي الأنسان ؟

– لا أعرف , ياصديقي .. فأنا لاأجد القواعد المشتركة . أجبته وأنا أشاركه التحديق .

– إذن تقدم لها وأحسم أمرك إذا اردت الظفر ولاتكن مثاليآ وأنظر بعين الواقع الى نفسك , شيّد قواعدك بالتواصل وإلا ستلقى الهزيمة. خاطبني بأنفعال وهو يدسّ في يدي قصاصة ورق . حدقت في عينيه وقال لي بأقتضاب : العنوان !!

أحسست بوهن امام زملائي وانا اقبض على القصاصة ثم لففتها ببطء ووضعتها تحت طية غلاف دفتر المذكرات , وبقيت منذ ذلك اليوم أخطط كالحالم منتظرآ اللقاء الذي سيقرر كلمتي الأخيرة , إلا أنني لم أفعل شيئآ وأبقيت العنوان كتذكار فحسب .

ثم عدت أفكر في تحليل قواعد هذه اللعبة التي بدت كأنها تحتجب خلف أزمّةٍ غير مألوفة .فلم يعد هناك وقتآ كافيآ للدخول في بناية اللجنة , إذ بدأ موظفيها بالخروج وكان أحدهم يحادث زميله : أنها لا تؤمن بالحب بل بآلية الجسد وهي فكرة غريبة . ثم أضاف .. ولكن مع هذا فقد فتحت باب الذكريات لتأرجحني بالإثارة للعودة اليها !

صمتّ مذهولا وأنا أحدّث نفسي معلقا بحسدٍ : أنت تتأرجح بالإثارة وأنا بنار المرارة .

في صباح اليوم التالي توجهت نحو اللجنة وكانت صورة الفتاة تدور في ذهني. وصلت وقتذاك وكانت الأيام الأولى من شهر آب أقل حرارة , فلم أستطع تحاشي الوقوف تحت شجرة الكالبتوس المحاذية لباب اللجنة منتظرا افتتاح بابها .وفي تلك اللحظة أقترب مني فلّاح البلدية ببذلته الزرقاء مخاطبا الشجرة كأنه يروم إلقاء بعض الأقوال المأثورة , ربما ليسمعني أو أرضاءآ لشيء في نفسه :

– أيه .. أيه .. أيتها المنتصبة وحدك .. أنت أيضا.. يموج بك الحزن والخوف .. حتى تذبل أغصانك ثم يأتيك الموت . ثم راح الرجل يتقدم نحوها ليحدثها بصوت خافت :

– لا تعبثي معي فقد أزلت عنك أصّك المعدني بيديّ وأنبتك هنا وسقيتك بماء عذب حتى كبرت ولكن غدا سيحين قطافك يا ذات الأسرة العميقة الجذور. لكنني رفعت نظري عنه منتظرا من يفتح الباب وأنا أسأل نفسي عما يعنيه هذا الفلاح في خطابه الوجودي وإشارات قوله العجيب , وأفكر بالفتاة بنبضات قلب توشك ان تمزق أضلاعي على الرغم من برودة النسائم المحيطة التي اندفعت في المكان فجأة .

اقتربت الساعة من الثامنة صباحا وابتدأ المكان يتخذ شكل سوق لتداول الأوراق الأجنبية بسبب توافد المتقدمين وضجة أحاديثهم . لم أفهم أي حديث منهم على الرغم من أنني كنت أصيخ السمع بدقة متناهية كما يفعل من ينشد الأخبار , ثم عدت أفكر في شأن تلك الفتاة حتى ظهر فجأة أمامي رجلا ذا وقار وهيبة فحسبته البديل عن حاسة السمع في بادئ الأمر جاء في ساعة اضمحلال الضجيج . لم أر هذا الرجل في السابق , فبدأ يتأمل في وجهي كأنه يريد تفكيك بنيته النفسية وهو يقول :

– من يستطيع أن يصنع حكاية من هذه الضوضاء فهو لاشك رجل حاذق , يستحق الحب والاحترام . ثم وضع يده اليمنى على كتفي الأيسر وهو ينظر إلى جمهور الواقفين ليقول :

– الديك حكاية ترويها لي تذكرك بهذا المكان ؟

لم أتجرأ على أجابته , بل أستغربت لأمره . تركت الرجل وأنا أتحسس حرارة شمس التاسعة صباحآ ومصوبآ نظري نحو باب اللجنة الموصد الذي بدا ينوء بالرجال الواقفين أمامه , فحدّثت نفسي :

– صحيح ان الأنسان يسقط في عالم دون اختيار منه ولكن هل يعني أنه يرغم على حياة مبتذلة كهذا الرجل ؟! وإلا مالأمر .. ماهذه الكائنات .. ماذا يجري , وماهي رغبتي أنا التي أحاول أقناعها في هذا المكان ؟! ثم خرج أحدهم من باب اللجنة وهو ينظر يمينآ وشمالا كأنه لايريد النظر في وجه أحد , ثم توجه نحو الجمع ليخاطبهم :

– أنتباه رجاءآ ..لاتوجد مقابلة هذا اليوم مع من اكملوا أستماراتهم بالأمس .ثم أضاف : سوف يتم انتخاب المتقدم وفق المعلومات المدونة وليس وفقآ لفن الارتجال مهما بلغ المتقدم فيه من قدرات في اعمال اخرى .ثم اغلق الباب وعاد بعد هنيهة ليفتحه ثانية قائلآ :

– أن مسوؤل التعيينات في مهمة أنسانية عاجلة ولا فائدة من الانتظار . ثم عاد ليدخل ثانية ويغلق الباب ليثرثر عن ذلك الجميع بذهول واستخفاف لما سمعوه , وهذا ليس مستغربآ في تلك الايام التي جاورت الاحتلال .

أما أنا فقد وقفت أسأل نفسي : ” إما نحن حمقى أو مشردون فوق هذه الارض نأتي كل يوم لنطرق بابآ محطمآ ونزدحم ملتصقين على جدران بيت أنشغل أصحابه في فن التأجيل والتسويف رغم أن البعض هم من أبناء مدينتي إلا أني رأيت وجوههم تتهدل لرؤيتي وكأنهم أصبحوا سادة على أهل مدينتهم من دون أن يعرفوا أن يومآ سيأتي وستفلت الوظيفة من بين أيديهم لأنهم رضوا أن يكونوا أداة في يد شبكة الانترنت الجديدة التي تسعى الى تدمير القيم الأنسانية في اكثر جوانبها .”

لكزت ظلي ليحملني بعيدآ عن هذا المكان الذي يسعى لصياغتي الى انسان مولع بالثرثرة والتطفل بخطوات وئيدة وأنا أرمي بأوراقي خلف جدران لجنتهم كما تلقى القمامة .

لم أكن أعلم أن أحدآ يختلس النظر وأنا في تلك الحالة . فأقترب مني رجلآ وأستوقفني قائلآ بصوت رقيق : لك أن تحكم عليّ فيما بعد , أما الآن فأسمع ماأقوله لك : ” عيناي ليستا درهمين وأنا لست بداعية لأي رأي أو فلسفة . لكن ماأغراني بالمجئ الى هنا هو أن تأتي فتاة شابة لتقول لي أنها تتضور جوعآ منذ فترة طويلة وأن زوجها الذي جمعها به فندقآ حديثآ قد تخلى عنها , لكنني وجدت تناقضآ بين ماتفوهت به لي وبين هويتها التي أكتشفتها .

توقف الرجل عن البوح فبادرته بالسؤال محاولآ كشف التناقض الذي تكلم عنه هذا الرجل المتهور في الكلام معي بطريقته البدائية عن موضوع بعيد وغير ذي صلة بي :

– هل تقصد أنها عقدت معك صداقة لفترة قصيرة وفشلت في التوافق معها ؟

– نعم , لقد أمضيت معها ليلتان ثم أنسلّت كالفأر تاركة محفظة صغيرة في داخلها صورة لطفلة في سنتها الخامسة تحمل شيئآ من سماتها .

– وماالذي جاء بك الى هنا لتخبرني بهذه القصة ؟!

– لا اجد صعوبة في الاجابة , فقد أنبثقت منها كلمة ” لجنة “, قل تسرّبت منها هذه الكلمة , حيث قالت أنها تقدمت على عمل في هذه اللجنة . إلا أنها لم تحدد أي لجنة !

أتسم كلام الرجل المتهوّر بالتطوّر مما يلفت الأنتباه اليه , لكنني لم الاحظ علائم الحكمة فيه إلا أنه خلق جوآ غامضآ بعض الشيء مما أضطرني لطلب الكشف عن الصورة فقلت له لعلي اعرفها :

– هل لك أن ترينني الصورة تلك ؟

حدّق الرجل المتهور بي قائلآ :

– أرجو أن تتعامل بصدق متناه مع أوصاف هذه الصورة , فلا تتيح لخيالك أن يربط ملامح هذه الصورة فتصيغها لفتاة انت تعرفها وهذه مخاطرة كبيرة في العثور على الحقيقة .

أذهلني كلام الرجل المتهور مما تحتم عليّ تجاوز تسميته بهذا الوصف لأنه لا ينتمي له . فقلت له :

– حيرتني يارجل فأنت إما مدفوعآ للحديث معي أو أخترتني لتحقيق شيئآ بعيد المنال !

– كلآ يارجل فأنا واقعي بشكل كبير في أختياري لك إلا انني وجدتك تتقبل حديثي معك بحكمة , لذلك عرضت عليك هذه الحادثة بكل صفاتها الواقعية وأأمل أن أجد ضالتي في منهج تفكيرك . أجابني الرجل ثم اكمل حديثه قائلآ :

– أترى الواقعية في مارأيته وأحسسته ؟!.. فأنا عشت مع أمرأة تتكلم لغة محلية شديدة الابتذال تتخطى فيها القيم الأنسانية بشكل رهيب ولكنها ذات جاذبية مما تجعلك عاجزآ عن اكتناه سرها أو تجد تفسيرآ له . فهي تزلزل أتزانك في أحاديثها عن التحرر من العاطفة والحب في ثقافة لم أألفها من أحد قبل ومفهوم عجيب بدا لي يرجع الى حقبة بعيدة في التاريخ ! ومن الواضح أنك لم تألف ذلك أيضا أوترفض تقبّل سماع هذه المواضيع .

توقف الرجل ثانية عن الكلام وأنا في ذهول لما يقول , إذ تكلم عن إمرأة بدت كأنها خلقت لتهشم الرجال بعد ان امتلكوا أحضانها . فهي كما يبدوا من حديثه أنها مثل بائعة الزنابق من وراء قضبان زنزانة لفرط التناقض الغريب في شخصيتها فسألته بتهكم وأنا أنظر في ساعتي التي أشارت الى منتصف النهار :

– وهل تراها شخصية ثورية نظرا لخصوبة خيالها ورغباتها في تحقيق ذاتها بأي ثمن كان ؟!

أبتسم الرجل , ثم قهقه قائلآ ببرود :

– أنا لا اراها شيئآ , ولكن ليغفر لها الله فقد سرقت مني كل نقودي تاركة هذه الصورة اللعينة , ربما بسبب تلك المكالمة التي تلقتها فتيبس وجهها كأنها تنتمي الى مرض أستبد بها . ساد الصمت بيننا إلا من اصوات اللعنات التي تعالت على موظفي اللجنة بينما الشمس اخذت بالانحدار متوجهة نحو الغرب ولحظتها نظرت الى ساعتي لأجد عقاربها قد توقفت بلاحراك فوق محطة الواحدة ظهرآ . وقبل ان اعتذر للرجل لمغادرة المكان قلت له في محاولة لكسرذلك الصمت :

– أرني الصورة من فضلك ؟

دس الرجل يده في جيب بنطاله وأخرج الصورة ببطء وهو يحدق مباشرة في عينيّ وقد خلا المكان من المتقدمين والمارة وفي تلك اللحظة دخل الفلاح المكان مخاطبآ نفسه : ” لاتطرق كثيرآ على باب أصمّ فقد مات اهل الدار وانتهى امرهم ” ثم وقف ليرمقني بنظرة عرفت ان معناها أن نصرف النظر عن أمر التعيين في اللجنة وكنت صائبآ في رمي الاوراق منذ دقائق !! . ومن دون أن ينطق بكلمة واحدة , وضع الرجل الصورة في يدي ,

فرأيت وجهآ لفتاة صغيرة ذات شفتين ناعمتين ووجه بيضوي تميزه عينين وضعتا كوضع سيفين متقابلين فوق حائط أبيض وشعر أسود قصير غطى الأذنين .

أخذت اقلّب الصورة لأجد اسم الاستوديو مختومآ بختم أزرق شارف على الزوال فلم أستطع ان أقرأ حروفه . نظرت الى الرجل وقلت له :

– أهذه الفتاة ؟!

سكت الرجل ثم رفع بصره الى السماء قائلآ :

– هل توحي ملامح وجهها لك بشيء ؟

– لا.. لا قلت له وانا امعن النظر في الصورة وكان العرق يتصبب من جبهتي وحاجبي فشعرت ان حرارة الشارع المنبعثة بدأت تحيل المكان الى مايشبه الوقوف عند ساحل البحر الرطب وقد غمرته الرياح الجنوبية فبدأت أشعر بوخز في جميع أنحاء جسدي ثم رفعت نظري لأسدده نحو الرجل وأنا أعيد له الصورة معتذرآ :

– الوقت جاوز الظهيرة وجو المكان أخذ يضع مخالبه في أجسادنا , فالمعذرة إذ يتحتم عليّ المغادرة .

تركت المكان وأنحدرت نحو فرع ضيق وأنا العن حظي وأحدث نفسي :” يالهذه الدنيا الخراب .. أية صلة ترتبط بها هذه المرأة بنسائنا ؟! أيمكن أن تكون أمرأة أم شيطان ؟ ألا يجدر بها ان تجتذب زوجها وإسعاده إن كانت متزوجة بدلآ عما تفعله ؟ .. أم تراها عزباء ضعيفة لم تستطع انقاذ نفسها في مهنة .. كالتمريض مثلآ ؟! لكنها عبّرت عن شخصيتها عن طريق جسدها فباعته .” ثم سألت نفسي : ” لم أسأله كيف حظي بهذه المرأة وأي جهد بذله من أجل ذلك ؟ فالرجال يتسترون دائمآ على آثامهم ولديهم الخيال الكاف لأطلاق الاكاذيب نظرآ للقيود الاجتماعية . “

هكذا تحدثت مع نفسي وأنا في طريقي الى البيت عن السر الذي جعل الفتاة تتخطى قيم عائلتها لتنتقي هذا الرجل الذي لايميزه شيء عن باقي الرجال , فهو عجوز وسنواته متسارعة ومنهكة.

بعد أيام ثلاث من لقائي بذلك الرجل والأنهماك في الأمور الشخصية بالرغم من انها ذات آفاق ضيّقة إلا أن قلبي حدثني أن خيطآ رفيعآ يرتبط بأمرأة لا أقدر على تشخيصها رغم أن الاحساس يخطأ أحيانآ فيكون زائفآ ولكن مايؤرقني أن سمات الطفلة تسهم في صياغة صورة تلك المرأة بالرغم من المشاعرالغامضة والبنية الداخلية العسيرة على الفهم تكتنفها .

لم يحدث شيء طيلة الايام التي توالت , وتحديدآ بعد أن القيت بأوراق التقديم ولقائي بالرجل , فكانت كما تمضي السحاب الجافة , ففكرت ان أتصل بصديقي غازي . في ذلك اليوم بحثت عن عنوانه على أمل أن اجده ولكن دون جدوى فكنت كمن يبحث عن مظلة في يوم ممطر .

وفي صباح يوم تناولت فطوري لتراودني رغبة في كسر عزلتي والنظر بنظرة مغايرة لما يجري فقلت في نفسي : ” اليوم سأنتقل من سجل العزاب الى سجل الخاطبين , اليوم سأضع حدآ للهذيانات اليومية وسأرفع اللحاف عن الاحلام الغامضة فوقفت امام مكتبتي الصغيره لأمد يدي نحو دفتر المذكرات وانا ادعوا الله ان يمدني بالعون وان ينتشلني من عالمي الذي سقطت فيه . دسست اصابعي واخرجت العنوان من طية الغلاف فقرأته وكأنني لاأملك غير الاقرار به .

خرجت مندفعآ من البيت وكان يوم الجمعة متجهآ نحو العنوان من دون أن أقوى على استيعاب هذا الأمر الذي طبع آثاره في حياتي . وعند وصولي ,كنت على مقربة من البيت وقد تسللت الى آذاني ذكر لآيات من القرآن الكريم فأحسست ان قلبي بدأ يهدأ وبدا الجو منعشآ في ذلك الصباح حتى وصلت الى البيت الذي يقع على شارع عريض وقد اغلقت جميع الحوانيت المحيطة به , فوجدت مكبرآ للصوت ينتصب فوق أعلى بابه بينما التصقت يافطة سوداء مكتوب عليها ” كل نفس ذائقة الموت .. أنتقلت الى رحمة الله عقيلة السيد سوزي الآغا إثر حادث مؤسف .. “

طرقت الباب بمطرقتة البرونزية ليبرز لي رجلآ هزيلآ يقارب الستين من العمر بشارب خفيف مرتديآ ثوبآ عربيآ أسود وشماغآ أحمرآ لف به عنقه للدلالة على حزنه وقد تململ في وقفته ليستقبلني نحو الداخل في رواق قصير ثم أدخلني في غرفة الجلوس ثم عاد ليقفل الباب , فجلست وانا انتظر عودته فعمدت الى النظر في جدران الغرفة , وبينما انا كذلك رأيت صورة كبيرة لطفلة وقد وضع فوقها خطآ اسود في زاويتها اليمنى . جمدت من الذهول والهلع وانا في مكاني فوقفت لاتقدم مقتربآ منها محدقآ في مساحة وجهها ثم غرزت عينيّ في عينيها حتى دخل علي الرجل ليجدني مشغولآ بالتحديق في الصورة فبادر يسألني :

– من انت ياولدي ؟!

– أنا من هذه المدينة . أجبته ثم أضفت :

– لنقرأ سورة الفاتحة قبل أن نتكلم .

– معك حق ياولدي . رد علي الرجل بهدوء .

بعد الانتهاء من قراءة الفاتحة , نهض الرجل واقفآ والحزن يغطي وجهه ثم خرج من الغرفة ليأتيني بكوب من الشاي وعبوة ماء صغيره ثم جلس قريبآ مني فقلت له :

– لكل أمريء نصيبه من الدنيا , ثم بدأ الحديث من دون أن يشاركنا أحد إذ ان الغرفة كانت خالية من المعزين مما اثار دهشتي واستغرابي , في مثل هذه المناسبة يتوحد الناس ويعانق بعضهم البعض ويتواسون لكونهم متشابهين في المحن . ثم عدت لأقول له ملفقآ :

– أنا البي طلبآ لصديق لي كان زميلآ للفقيدة ايام الدراسة , أنه رجل كريم وشهم دفعته الظروف للعيش خارج البلد .

لم يرد علي الرجل بشيء , إلا انني وجدته مرتاحآ فقلت له :

– اود ان اسألك ياعمي ان كنت قد تاخرت عن العزاء ؟

– لا يابني , نحن في اليوم الثاني ولكن الناس اصبحوا كالكمأ بلا جذور أو ورق !

يالهذا الأمر الغريب وياللمثل الذي تقدمه ياعمي , ولكن في السماء قاضيآ غفورآ هو من يقرر الصفح والغفران في نوايا الاعمال . حدثت نفسي بحيرة . وما أن أنتهيت من شرب الماء وأرتشاف الشاي حتى قلت له مواسيآ :

– لكل منّا نصيبه في هذه الدنيا وماكتبه الله علينا قبوله لأننا لانستطيع تجنبه , وعسى الله ان يمنحها حسن المصير وأبقاك الله راية عالية. والآن وجب عليّ الذهاب ياعمي . ثم قرأنا سورة الفاتحة ثانية وخرجت من البيت معانقآ أياه عند الباب وتركته لتعود في رأسي عشرات الاسئلة .

أحدث المقالات

أحدث المقالات