الاستفتاء المدعو له من قبل جهات سياسية في اقليم كردستان ليس المراد منه استمزاج رغبة الشعب الكردي في تأسيس دولة خاصة بهم، فمن يكون هذا بل كيف له ان يكون وهو لا يعرف ان الكرد كقوم بكل بقاع الارض المنتشرين عليها اقليميا وامميا، انما يشكل حلم تأسيس دولة خاصة بهم حلما شخصيا لكل فرد منهم منتسب لهذا الشعب الا قليل نادر منهم الذي قد يتوفر على قراءة اسمى من الحدود السياسية والادارية التي ترسمها حكومات وهيئات لاغراض خاصة بها لا لشعوبها او قليل اخر قد تكون تجاربه المرة جعلته من طبقة لا ابالية لكل السياسة وتفرعاتها وخصوصا لهذه الطموحات الشعاراتية التي لا توفر حياة كريمة لفرد يريد ان يعيش مطمئنا امنا متوفرا على لقمة عيش وفرصة طيبة للعيش او حتى الموت بسلام وهو يرى نفسه يتنقل بين بقاع الارض بحثا عن هذه الطموحات الانسانية البسيطة ويرتضي العيش كاقلية تحت تاج سويدي او رايخ الماني ولا يستبدل كل هذه الاوطان البديلة الواقعية بوطنه الاصلي الحلم بل يبقى مصرا وبشكل مزمن على الفرار منه، والايام القريبة الفائتة اظهرت بما لا يستدعي التشكيك ان اكثر طالبي اللجوء حديثي العهد الهاربين من العراق الفدرالي البرلماني الديمقراطي الحر الجديد هم من هذا الاقليم المستقل الذي يريد ان يتحول الى دولة بعد ان اكتشف شبابه ان فرص الحياة الحرة الكريمة ليست في هذا الاقليم الدولة بعد ان تخلصوا من الرجل الكيمياوي وغزواته الانفالية بل ما زالت هذه الفرص تنتظرهم خارجه. وحلمهم القومي بالاستقلال سوف يهاجر معهم اما الى بطون اسماك المتوسط او الى مخيمات لجوء. الاستفتاء ايضا ليس محاولة لتأسيس دولة كردية في الزمن القريب فهذا وفق المعادلة الاقليمية السائدة ان كان سابقا او الان ولا من الممكن تغييرها لا في المستقبل المنظور قريبا كان او متوسطا ولا حتى بعيدا . فهذا التغيير الاقليمي امر غير ممكن بل ان انشاء تغيير يخل به يشكل امرا محظورا وكل محاولة امر مهدد بالاجهاض سريعا وبشكل مفجع ومأساوي وجمهورية مهاباد ليست بعيدة عن ذاكرة التاريخ القريب، ولمن اراد انصاف نفسه بقراءة التاريخ فليتذكر كيف انتهت ثورة آذار 1974 والتي بلغت ما بلغت من القوة والشدة حتى ان صداما بكل ما كان عليه من قوة او من تظاهر اجوف بها احيانا اخرى، قالها مرات عديدة معترفا بلسانه انه تم استنزافنا ولم تتبق لدينا سوى قذائف معدودة في فوهات مدافعنا مما اضطرنا للتفاوض مع شاه ايران. هذه الثورة انتهت في بضعة ايام واستسلم الاف مقاتلي البيشمركة في طوابير طويلة يسلمون اسلحتهم في مشهد مؤلم يتذكره كل من عاصر ذاك الزمان ويتذكر ايضا كيف هرب قادة الثورة الى بقاع الارض شرقا وغربا بحثا عن ملجأ لهم يأويهم وكيف حصلت الانشقاقات السياسية وتشكلت اكثر من حركة وحزب سياسي كردي وحصل كل ذلك بسبب اتفاق اقليمي واحد بين صدام وشاه ايران، ولم تنفع مع هذا الاتفاق ولا خففت من عواقبه الكارثية كل عمليات الدعم الاسرائيلي السري او الايراني العلني بل تحولت الثورة من نار بركان الى رماد يستظل بشواهد دمار شامل توزع على كل القرى والجبال والوديان. وهذا التاريخ مع المحيط الاقليمي واتفاقاته حول مصالح متبادلة لن يتغير وكل مهتم ولو بشكل مبسط بالتاريخ السياسي سيدرك انه لا يمكن التعويل على المحيط الاقليمي لانه لم يتغير ولن يتغير من منهجه في تقديم مصلحته الخاصة بل البحث عن مصلحته الخاصة ولا شيء غيرها في كل تحركاته السياسية والاقتصادية والعسكرية. ان الغاية الاستراتيجية الوحيدة من هذا الاستفتاء هو كتابة فصل جديد من زعزعة الاستقرار في هذه المنطقة والتي يراد لها ان تكون في سلسلة متواصة من الزعزعة انما تتغير اشكالها كل فترة وحين فمرة تكون عسكرية كما جرى في عملية خلق داعش وما خلفته من حروب ومن ثم تمت تصفيتها بعد استنزاف اقتصادي وبشري او حربا طائفية سبقت ظهور داعش ادت ما اليه من تفكك اجتماعي وانهيار لمؤسسات الدولة حتى وصل هذا الانهيار الى تفريغ مؤسساته العسكرية من كل اشكال القوة وليست خافية ايام الانهيار المذل في نكسة حزيران المتجددة في 2014 او ازمة سياسية كما حصلت في فترات كثيرة لا يمكن حصره او عدها ولكن يمكن تعريف احدى نتائجها بنظام تحاصص الغنائم في كل مستويات نهب الدولة والوطن او في حروب وحصار لا يعرفه شباب اليوم ولكن الكهول من امثالي لن يتخلصوا من ذكراه الا حين يتخلصون من هذه الحياة على هذا الكوكب. الاستفتاء سوف يشكل برميلا جاهزا من البارود قابلا للانفجار باسرع ما يمكن له وفي مناطق متعددة حين تحين الحاجة لذلك في عملية الصراع الاقليمي بين المحاور المتنافسة في المنطقة الاقليمية منها اوالدولية. وعملية التوتر المسلح في كركوك بالامس هي اول اختبار عملي ناجح لجاهزية برميل البارود وقدرته السريعة على الاشتعال ومن الممكن بعد ان اطمأنت قوى متعددة على نجاح التجربة الصغيرة المحدودة الاولى ان تكررها في اماكن اخرى لتضمن جاهزتيه التامة وتسترخي لانتصارها في انتظار يوم ثورانه الهرمجدوني. الاستفتاء خلق ليبني مستودعا ناريا هائلا تغطيه طبقة رقيقة من التراب يمكن لنسمة خفيفة ان تزيح هذا التراب وتحيل هذا المستودع السري العلني الى لهيب مستعر يصلي ارواح الكثير من الحالمين سواء بالاستقلال او بوحدة الوطن من الجياع والمحرومين اللاهثين وراء احلامهم البريئة. وفي نفس الوقت سيكون ايضا كعصا موسى موسى له مآرب اخرى فسيكون ساحة لتبادل الشتائم النارية بين المحاور على ارض حالمة بالجنة وهي واقعا ليست سوى مقبرة تنادي بشغف عشاق احلامهم هل من مزيد من جثث اليانعين. الاستفتاء سوف يشكل مساحة جديدة للصراع وسوف يكون ضامنا لخيرات هذا البلد والمنطقة ان تباع بارخص الاسعار لمن ينتفع منها في كل ارض معمورة على ان لا يكون من بينها شعب هذه الارض الحريق المستمر. والسعر الزهيد لهذه الخيرات الذي سوف يدفعه المتصارعون السادة الكبار للمحليين من قادة شهداءنا (وطبعا القادة بحمد الله لن يستشهدوا الا في مستشفى فاخر او بصدفة لعينة) سوف يتكرمون هولاء السادة علينا بعد ان يتوسلوا بشدة ان يبيعوهم بها اسلحة غير متطورة وتدريبا في ارضهم ولا يهم حتى لو سقط المتدربون هالكين لاسباب فنية مع اسلحتهم التي باعونا اياها وعندما يعود ابطالنا سنفخر بقدراتهم الفذة التي وصلوا اليها في فن قتل بعضنا البعض الاخر وسنعلق صورهم على جانبي الشوارع لان المقابر لم تعد تتذكر ساكنيها فهي اكبر معمورة على الارض وسكانها لا تدانيهم حتى اشد المدن ازدحاما ولكثرة ساكنيها الذين حلموا بالسلام ولم يروه سموها واديا السلام عسى ان يخفف من لوعة اشتياقهم لسلام لم يروه ابدا. ولو تبق لنا شيئا من فاضل مواردنا من ذهب اسود او من غيره فسنذهب ايضا لهولاء السادة الاقليميين والدوليين نستجدي منتجاتهم ونشكل طابورا طويلا من الزبائن المتلهفين على صناعتهم المتينة بل وحتى ملابسنا الشعبية والقومية التي لم يعد لدينا من ينشغل بخياطتها فالمعركة فوق كل شئ ولا صوت يعلو صوتها. واذا تمكن احد منا من نهب او سرقة شيء ما بسبب فساد او مناقصة خدعة او كل ما يقال عنه من تسميات فاحشة اخرى، فايضاً سيذهب هذا المسكين يحمل معه كل الذي افنى سمعته وعمره لاجله ليضعه في خدمة هولاء السادة محاور الصراع. وسيبقى الشعب بين اطوار ثلاث اما في طوره الاول لاجئا في قوارب تشكل اشهى الاطباق لسكان بحر المتوسط الذي لم يترك البحر حتى اليوم رغم تاريخه الدرويني،
او ساكنا لشاحنات تهديه في علبها المغلقة اخر نفس يستنشقه على حدود دولة اوربية لعله يكون سعيد الحظ ان كانت كالنمسا لانها تتكلم الالمانية، وهو في كل ذلك سيكون هاربا من جحيم احلامه الدينية والقومية او سيكون في طوره الثاني حطبا لحروب لا تنتهي وسيحظى بفرصة جيدة للحصول على لقب بطل شهيد يتوشح السواد صورته اما في منزله المهدم على بقاياه البشرية التي خلفها للعوز والنحيب بعده او ان كان محظوظا اكثر سيحظى بصورة عملاقة بعشر دولارات ترفع في احد الشوارع والساحات او في طور ثالث شائع جدا وهو الاغلبية الصامتة بحق لانها ستكون متبرعا ازليا وبسخاء شديد لتلقي كل انواع الاهانات والذل بصمت رهيب وحين يريد الاحتجاج يرفع طرفه بحياء العذارى معاتبا باكيا لسماء لن تتدخل ابدا لنصرة اذلاء ولن تكترث لكل تراتيله الفارغة او سيبقى ينتظر مخلصا لن يأتي ابدا الا في حكايات شعبية.
هذه هي حكاية الاستفتاء وهذه الغاية منها وطلبي فقط من هولاء الثلاث الذين ذكرتهم ان لا يصدقوا مقالتي الان فهي مزعجة جدا وتوقظهم من احلام الوحدة والاستقلال معا ولكن ساطلب منهم ان تكرموا علي بقبول الطلب ان يحكوا مقالتي هذه لابنائهم واحفادهم عندما تتوفر لهم فرصة قصيرة للراحة بين النيران التي سيتقافزون منها وليقولوا حدثنا ذلك المتشائم كفرانز كافكا والذي عليه مثله ان يصاب بمرض يخرس فمه ويمنعه من الكلام ابدا.