تَسحَرُنِي رائِحةُ المطر حِينما يُداعِبُ ذرات الترابْ ليفوح عِطراً أسمى من المِسك والهيل والعَنْبر ، وتُحَلِّقُ روحي على أجنحة الذِكرى برؤيتي لرغيف الخُبز وهو يتماوج بين أيدي الأمهات في رِحلته ليُقبِل جدار تنور الطِين مُتشبثاً بأرجاء المكانِ بعد أن لفحته لظى النِيران ، ويُطربني هَدِيرُ نغمات أمواج النهر حينما تعترضُ الزوارق الهائِمة بأمواج دجلة الخير وتوأمها الفُرات وهي ترتطم بمقدمتها كأني بها تحاولُ أن تطبع قبلةً في ناصية هاتيك الزوراق لتخبرها أن لا مناص فالمصيرُ واحد ولا حياة للزوارق والنوارِس وأشجارَ الشُطئان إلاّ معاً ، ليعود بي الخَيالُ إلى إستذكارِ مَشحوف ناصر حكيم وهو يمخر عُباب أهوار الناصِريّة على نغمات حفيف البردي حينما يترنمُ بصوتهِ العَذبْ مغازلاً تغريد البلابل وهو يَشدو :
فَرِدْ عُودْ يا شاتِلِ العُودِينْ “الغُصنَين” خَضَّرْ فَرِد عُود
لا بِالذَهبْ يِنْبَاع … لا مِنَّة موجود “ليس له مثيل”
كون “ليت” العَزيز يصير بضلوعي شَامة
أتكَابَل آنا وياه مامِش “ليس هناك” نِدامة
يا هواي “حبيبي” لو مَريت سَلِّم بالجْفُون
الواشِي والنَمَّام وانْتُم تَشِرهون
الواشِي والنَمَّام عَذِبَوا حالي
ظليت أنا حيران وإنشِدَه بالي
سَرَتْ مفردات بيت الدَارمي ” فَرِدْ عُودْ يا شاتِلِ العُودِينْ خَضَّرْ فَرِد عُود … لا مَوُجُودْ لا يِنْشَرى ويِنْبَاعْ لا مِنّه مَوجُودْ ” كما النارُ فِي الهشيم وإرتبطت بالذاكِرة العِراقية خاصةً وأنَّ سِراً حَزِينَاً كامِناً يغفو خلف هذه الكلمات التي تغنى بها ناصر حكيم في أربعينات القرن العشرين ثُمَّ نظم على غِرارها الشُعراء قصائدهم حتى كتبَ الشاعِرُ “زامل سَعيد فتّاح ” مطلع السبعينات قصيدته التي لَحَّنَها طالب القره غولي وتغنى بها في العام 1972م الفَنان “حسين نعمة” :
فَرِدْ عُودْ “غُصن” يا الشَاتِلْ العُودِينْ خَضَّر “أثمر وإخِضَّر” فَرِدْ عُودْ
لا مَوجُودْ لا يِنْشَرى ويِنْبَاع لا مِنّه لا مِنّه
يا دِنْيَا كُبْر الوَكِتْ حَمَّل عِشِقْنَا ورُودْ
يا الشَاتِلْ العُودِينْ خَضَّر فَرِدْ عُودْ
سَيَّرْ “زَارَنا” عَلِينَا الهَوَى وجَفَّل بَقايا الشَوقْ
وكِلْمَة هَلَا ومَرحَبا بس لحَبِيبِي تلوق ” تُلائِم”
يا طَعَمْ ذاك الأَمِسْ لاله “تلئلأ” ويا “مع” خِيط “شُعاع” الشَمِس
يا دُنيا كُبر “بِقَدر حَجم” الوكت حَمَّل عِشقنا ورود
يا الشَاتِلْ العُودِينْ خَضَّر فَرِدْ عُودْ
لوليله “هدهدة أو غناء الأم لرضيعها” فَتَّحْ طِفل … يا روحِي عِشقي الراح “الضائِع”
دَمعِي التبرزل “مِن أرقى التمور” عَسَل وعثوقه ” أغصان النَخل” ما تنلاح ” لا تصلها الأيدي”
عَطشَانَة روحي و روت “إرتوت مِنْ ظمأ” يا عُود من خَضَّرِتْ
يا دُنيا كُبر الوكت حَمَّل عِشقنا ورود
يا الشَاتِلْ العُودِينْ خَضَّر فَرِدْ عُودْ
الرِواية الأولى :
وَرَد في قصة بيت الدارمي الذي شكل مطلع الأغنية التي تغنى بها كثيرٌ مِن المطربين أكثرُ من رأي نستعرض الرأي الأول ثُمَّ ننقل القِصة الحقيقة للحادِثة المأساة التي نُظِم بسببها بيت الدارمي ، حيثُ قِيلَ أن شبابٌ إقترنَ بشابةٍ بعدَ أن وقعَ في غرامها وأسره شباك هيامها ليتكلل هذا الحُب بالزواج الذي أثمر عن طفلٍ حباه الله بجمالٍ تميلُ إليه القُلوب ، توالت الأيام ووقع الشاب والد هذا الطِفل في شباك غرامٍ ثانٍ من إمرأة ثريةٍ إشترطت عليه تطليق زوجته الأولى كي يقترن بها فرَضخَ للأمر وإقتَرن بها وتبين مع مرور الزَمَن أنها عقيمة ، توالت الأيام وكبر طفله من الزوجة الأولى حتى بلغ مبلغ الرِجَال وأرادت أمه تزويجه مِن شابةٍ أحبها وأحبته ، ذات يومٍ منَ الأيام خرجت الأم بصحبة إبنها إلى السوق بُغية التبضع للتجهيز لمستلزمات الزواج وشاء الله أن تسوقها الخطى إلى محل طليقها والد الطفل الذي أصبح شاباً ، وما أن رأت حبها الأول الذي هجرها حتى أنشدت قائلة :
يا شاتِلِ العُودِينْ خَضَّرْ فَرِد عُود
لا بِالذَهبْ يِنْبَاع … لا مِنَّة موجود
قاصِدةً في كلامها لطليقها أنك بزواجك لم يتكلل الأمر بالذُرية إلاّ من الزيجة الأولى واصفةٍ نجلها بالذهب الذي لا يدانيه شيءٌ في وصفه وجماله ونُدرَة وجوده ، هنا تكسرتِ العبرات في صدر العاشِق الذي بدد غَرامه وأضاع صاحبة هيامه وترقرق الدمع في عينيه وهو ينظرُ إلى ولده الذي هجره طِفلاً واليوم يمثلُ بين يديه شاباً يافعاً ، فجادت قريحته بهذه الكلمات :
يا رِيحة أولْ عُودْ مِنْ قَلْبِي خَضَّرْ
فَيَّضْ نَبِعْ بالروُح والثاني جَزَّرْ
لِتَرد عليه معاتِبةً ولكن أينفع العتاب بعد هذا العمر وبعد الذي جرى فتقول :
غُصْنِي التعَبْ وَيّاك “معك” بيدَك كِسرته
والضَنَة “ذُريتك” بلب حشاي عودَك شِتَلْتَه “زرعته”
فما كان منه إلاّ أن يُحاول إستمالة قلبها وأن يستدر عطفها مُعتَذِراً مستميحاً الصفح والعفو قائِلاً :
غَرونِي “خدعوني” وإنغَشِيتْ والغَلطة غَلطَة
وهو النَدَمْ شِيفِيدْ بآخر محطة
هناك تدخل الإبن محاولاً تهدئة النفوس وجبر الخَواطِر وتطييب القلوب المنكسرة فأنشدَ قائِلاً :
زلمة “رجُل” أصبحت يا بوي وراسك أرفعه
آنا لك خَيّال ولأُمي شَمْعَة
الرِواية الثانية وهي الأرجح :
فِي جَلسةِ سمرٍ جمعتني بالدكتور “اللواء الطيّار الركن” أحمد يُونس السَبعَاوي تجاذِبنا أطراف الحديث عَرَّجتُ على بيت الدارمي (فَرِدْ عُود …يا شاتِلِ العُودِينْ خَضَّرْ فَرِدْ عُود) مِحوَر بَحثنا متسائِلاً ، لعِلمي بِمَلَكَةِ أبا راجح بِنظم الشِعر وإمتطاء صهو القَصيد وسِعَة إطلاعهِ على المَورُوث الشعبي فتنهدَ قائِلاً :
سأفُصِح لك عَن حَقيقة مأساة هذه الأبيات التي إستنزفني سِبْرُ أغوارها قُرابة الشهرين من الزمن تكللت بِرِحلةٍ سفرٍ ما بين البصرة وبغدادَ والموصل وإليك إبن عمي تفاصيلُ ذلك … شَغلتُ منصب آمر قاعدة الشِعيبة الجوية ولا يخفى عليك ولعي بالشعر الشعبي وكل فنون الأدب وتساءلت عن هذه الأبيات فأخبرني أحد الضباط بأن هناك رجلٌ حكيم “حِسجَة” طاعنٌ في السِن إسمه فلان “أنسيت الإسم” من مدينة العَشّار البصرية تجده غالباً على مقربة مِن “مرقد عَبْدالله بنْ علي” فِي العَشَّار ، فإسأله وإن لم تجد بُغيِتِكَ عنده فأنسى الأمر بِرمَته لأنك لن تجدَ لسؤالك تفسيراً ، وبالفعلِ تحينت الوقت المناسِبْ ثُمَّ لبِستُ ملابسَ مدنيةٍ وأصطبحت السائِقَ وأحد عناصر الحماية وجميعنا بالزي المدني وتوجهنا إلى العَشّار وسألت عن الرجل فدلوني عليه … وجدته يفترش الرصيف وقد ترك الزمان أخاديد على محياه وإرتعاش يديه التي تُنبِئُ عن تقادم سنين العُمر فجلستُ معهُ حيث يجلس لنبدأ حِوارنا الذي تطارحنا فيه أبيات القصيد من الدارمي والزهيري والعتابة و… وإنتهيت بسؤاله عن معنى (فَرِدْ عُود …يا شاتِلِ العُودِينْ خَضَّرْ فَرِدْ عُود) فأجابني الشايب الخِتيَار :
سأمهِلُكَ شهرٌ مِنِ الزَمان عسى أن تتمكنَ مِن فَكِ شُفرَتها وإنْ أعيتك الحُجّة عُد إليَّ حينذاك ولا تعجل بالقُدوم قبل الشَهر …!!!
يقول د.أحمد ذهبت محاولاتي في إقناعه أن يُفصِح عَمّا في جُعبَتِه أدراج الرِياح إزاء تعنته وعناده ، والذي أثار حفيظتي أن موعِد إجازِتي بعيدٌ بعض الشيء وكانت خشيتي كبيرةٌ من أن يفارِق الحياة صاحب هذه الشيبة … على أي حال تعاقبتِ الأيام وأنا على موعِدٍ أحرُّ من الجمر بحيث لم أهنئ بإجازَتي بحيث كُنت متعجلاً للعودةٍ من الموصلِ إلى البَصرَة وشاء الله أن أجده حياً في ذات المكان ، وما أن رآني حتى بادرني بالسؤال :
– بَشِر هل لقيت حل أم عُدْتَ بِخُيَّ حنين ؟
– أجبتُه : لا والله كما يقول المثل : ” تيتي تيتي مثل ما رحتي جيتي ”
هُنا قال الشايب : أي بُنَي تعالَ لأخبرك بتفاصيل الأمر بِرُمَته :
في إحدى قُرى وأرياف مدينة الناصرية إشتُهِر أحد الشيوخ بالمرجلة والجُودِ والكَرَم وقد ذاع صيته حينذاك فأصبحت سيرته حديث الشعراء ويُعطِرُ إسمه المجالس التي تتحدثُ بخصالهِ ومآثِره خاصةً وأنّه لا يَرُدُ سائل فقد كان جواداً كريماً مضيافاً ، الأمر الذي أثار حفيظة حُسَّادِه مِنْ أبناء عمومته وأقرب الناسِ إليه … المهم أنعم الله على هذا الشيخ بولدين إثنين فقط ولم يتزوج على أمهما محبة وإعتزازاً بها ، وما أن بلغ أولاده مبلغ الزواج حتى خطب لهما من خيار العَرب وأُوقدت نيران الفَرح تحت القدور وعَمّت الأفراح وتعالت الأهازيج وتشابكت الأيادي في الدبكات تعبيراً عن الفَرح ، لكن للأسف في الجانِب الآخر كان أبناء عم الشيخ يحيكون الدسائس ويتفقون مع قاتلٍ مأجور لقتل نجلي الشيخ حال خُرُوجهما من (الحُوفة / غُرفة العِرس) مُستغلين ومستثمرين تعالي أصوات وأزيز الرصاص بهذه المناسبة .
دَخل العريسان الشابان كُلٌ على زوجته وبعد وقتٍ خرجا ليزفا بشارة طهر هذا الزواج وعِفَّةَ زوجيتهما لينالا التهاني والتباريك من الأهل والأقارب ، ومع خروج العريسين بفرحةٍ غامرة تعالى أصوات الرصاص ولكن قطع صوت الفرح تعالي الصراخ والعويل بعد أن إصطبغت ملابِس “دشايش” العريسين البيضاءَ بحُمرِة الدماء حيث أصيبا برصاصٍ غادرٍ في جبينهما ، ليتحول حفل العرس إلى مأتم وتتحول قدور الفرح إلى قدور عزاء وسط عويل الأحبة ونكبة الشيخ بهذا المصاب الجلل … وهكذا إنتهت مراسم العزاء وتعاقبت الأيام فأمر الشيخ زوجته قائِلاً :
تَقَصِّي أخبارِ أرامل أولادنا عسى أن تكون إحداهنَّ قد حملت من تلك الليلة ، وما هي إلاّ لحظاتٍ حتى جاءته البشرى بأنَّ إحِدى العَروسَين أو الأرملتين قد غابَ عنها الحيض وبانت عليها أعراض الحمل ، وعلى الفور أنشد بيت الدارمِي الشهير :
فَرِدْ عُودْ … يا الشَاتِلْ العُودِينْ خَضَّر فَرِدْ عُودْ
لا بِالذَهبْ يِنْبَاع … ….لا مِنَّة موجود
لا مَوجُودْ لا يِنْشَرى ويِنْبَاع لا مِنّه لا مِنّه
بقلم : د. زِيَادْ مُحَمَّد السَبْعَاوِي