بعد مرور أكثر من خمسة عشر عاماً على التصويت لصالح الدستور أو مايسمی بالقانون الفيدرالي الذي يتم حكم العراق به حالياً ما زال الخطاب السياسي السلبي والخاطیء لدی بعض الکتل السياسية (شيعية أو سنية) تجاه حقوق شعب كوردستان قائماً کما هو، في وقت تشهد المنطقة والعالم مرحلة تحول تاريخي استراتيجي بالغ الدقة والحساسية، يحتاج لوقفات تأملية يشترك فيها صناع القرار والمسؤولون والمستشارون على مختلف المستويات عن وضع الاستراتيجيات والقيام بإعداد بحوث وتقارير ودراسات وذلك لتحليل البيئة الخارجية والبيئة الداخلية للعراق من أجل وضع رؤية إستراتيجية مناسبة تبنى على ضوئها السياسات الداخلية والخارجيةوذلك للحفاظ علی سيادة الدولة ومصالحها العليا والشراكة القائمة بين مكونتها.
التفكير الاستراتيجي الحقيقي يحدد الاتجاه لجميع الطاقات البشرية، إذن علی المسؤولين عن وضع الإستراتيريجية التوصل الی التوجيه الصحيح وإلا تنحرف العلمية السياسية عن مسارها السليم ولا تصبح جميع مجهوداتهم في هذا المضمار سوى سرعة متزايدة في الاندفاع إلى الاتجاه الخاطئ والسير خلف مسارات خاطئة غير محسوبة العواقب في إدارة الحکم.
علی ساسة بعض الكتل الشيعية، التي لم تتحرر طائفتهم الی الآن من عقدة المظلومية السياسية بسبب تهميشهم و إقصائهم وحرمانهم من ابسط حقوقهم السياسية وطمس أصولهم القومية في الفترات السابقة قبل التغيير السياسي الذي حصل في ٩/٤/٢٠٠٣ في العراق، أن يدركوا بأن ما أقره الدستور العراقي لشعب إقليم كوردستان و الحقوق القومية الكوردستانية هو تحصيل حاصل للتطور السياسي منذ أواسط القرن العشرين وصولاﹰ الی إنتفاضة عام ١٩٩١.
فالتضحيات الجسيمة لشعب كوردستان و كفاح القوی العراقية الديمقراطية من أجل حصول الشعب الكوردستاني الی حقوقه المشروعة هي التي أرغمت المجتمع الدولي علی إتخاذ قرار (٦٨٨) و بقية القرارات حتی موافقة مجلس الأمن الدولي علی تحرير العراق في نيسان عام ٢٠٠٣ وماحصل حتی صدور الدستور.
للأسف لم يوافق أي جانب من الدولة العراقية (نحن لانقصد الخييرين من العراقيين الذين ساهمو في إنضاج مواد وفقرات الدستور) علی ماتقرر في الدستور طوعاﹰ، ولم يأت أي جانب عراقي من الدولة ليقول للشعب الكوردستاني “هذا هو حقك وهذه حدود مايمكنك التمتع به، هذه صلاحياتك وهذه هي حقوقك وواجباتك”، رغم أن الشعب الكوردستاني يطالب بحقوقه طوال القرن العشرين و مقتبل العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين.
نعم العراق الجديد، عراق مابعد سقوط الطاغية، بتکوينه الفدرالي، الإتحادي و بتوازناته وتوافقاته وبرامجه طويلة المدی هو ثمرة قرار دولي، لايمکن لبعض الکتل السياسية (شيعية أو سنية) التلاعب به، وليس من حق أي طرف التطاول علیه أو محاولة الإنفراد بالأمور و التعامل معه بعقلية الأغلبية السياسية واللعب بقواعد وأحکام لاتناسب الحکم الديمقراطي التعددي الفدرالي. علی هذه الكتل أيضاﹰ التأكيد علی إستقلالیتهم عن السياسات الإقليمية وتمثيلهم لمصالح شعبهم و بلدهم وجعلها فوق كل إعتبار آخر. إن فرض إرادة الأغلبية الشيعية في إقصاء وتهميش المكونات الأخری سوف يدفع الی مزيد من النفور والرفض للديمقراطية من بقية مكونات الشعب العراقي وسيشجع المتصدرين للحكم من الشيعة على تكرار نفس الأخطاء التي ارتكبها حكام العراق السابقون وسيفتح الباب مشرعاﹰ مستقبلاﹰ أمام دكتاتورية في الحكم منطقها استبدادية الأكثرية الشيعية.
إن مستقبل العراق مرهون بمدی وکيفية إنسجامه مع إرادة المجتمع الدولي والخط العمودي الصاعد للمجتمع الدولي وليس بمقدور کتلة سياسية ما، إعادة عقار الساعة الی الوراء.
لايمکن للعراق الجديد أن يستقر ويتقدم علی أيدي أناس يعتبرون أنفسهم وحدهم ورثة العراق وكل مافيه أو يتصورون أن إرسال حصة الإقليم من الموازنة منّة و أعطية منهم، ينبغي علی هذه الكتل السياسية الإقلاع عن هذه الذهنية النكرة.
فإدارة الحكم في العراق ليست بالأمر البسيط، بحيث يمكن تركه للصدفة والمغامرات السياسية الطائشة وغير الواعية، بل هو عملية معقدة وصعبة وكثيرة التحديات والمخاطر، تحتاج أن يتصف الساسة فيها بمستوى عالﹴ من الوعي الاستراتيجي الذي يؤهلهم إلى أن يكونوا رجال المرحلة بالنسبة لشعبهم لقيادته إلى شاطئ السلم والأمان والرفاهية من خلال بناء الدولة المدنية التي تحتوي كل أطياف الشعب، وتضمن تحقيق كل طموحات وأحلام أبناءه.
ختاماﹰ نقول، بدون ترسيخ مبدأ التعايش السلمي في العراق لن يكون هناك إستقرار سياسي أو أمني، ولن يكون هناك نهوض اقتصادي ومجتمعي، كما لا يمكن لطرف ما عدﹼ نفسه رابحاﹰ وغيره بالخاسر، بل إن جميع الأطراف ستكون خاسرة في لعبة شد القوى بين الطوائف والقوميات المتنازعة.