18 ديسمبر، 2024 7:59 م

حقائق الحياة الصغيرة …. حوار الجرذ والانسان …..

حقائق الحياة الصغيرة …. حوار الجرذ والانسان …..

(يكلم الجرذان منذ تعلم الكلام ،فتسمع منه ، وترد عليه….)

لؤي حمزة عباس في رؤيته للكتابة ان تكون المنقذ للغة من الغرق ، هكذا يختصر روايته الجديدة الصادرة عن دار المتوسط في ايطاليا بانها حوارية بين جرذ وانسان ، ولكن اية حوارية هل هي حوار اليوتوبيا المفقود ، ام انها حوار اليوتوبيا الممتزج مع الواقع والمتخيل فيه والمحاكي له ، لا ادعي في هذه الدراسة اني فككت كل شفرات هذه الرواية ، انما اقول قد تكون هذه الدراسة قد اقتربت في مسعى ولو بشكل مما اراده لؤي حمزة عباس ،
يقول د لؤي ” للناس ذيول ايضا ، ذيول رفيعة سود مشعرة خشنة الملمس ، مدسوسة في الاخاديد الطويلة الممتدة من اسفل الاعمدة الفقرية ، من نقرة الظهر حتى منبت الخصيتين يخبئ الناس ذيولهم فلا ترى ، ليس لكل الناس ذيول، يحدث نفسه لم تخلق الجنة ليدخلها اصحاب الذيول الرفيعة المشعرة ” ص14 الرواية .
الذيل بابعاده الكثيرة التي تضمنها هذا النص يحيلنا الى البعد العلمي فقد اشارت نظرية التطور من خلال دارون في كتابه اصل الانواع” اصبح من المعروف في بعض الحالات النادرة والشاذة تشكل رديم ذيلي عند الانسان” وهنالك ظهرت تشوهات تشبه الذيول عبر عنها بزوائد ، ويشار الى عظم العصعص بعظم الذيل، في نهاية العمود الفقري مما يعتقد بانها بلا فائدة انما بقايا تطورية لكن العلم الحديث اثبت اهميتها للبشر . هذا هو الجانب العلمي المتعلق بالجانب ، والبعد الآخر للذيل الذي يحيلنا اليه لؤي حمزة عباس وهو التبعية وبيع الضمير وفقدان الشخصية ،فالانسان عندما يكون له ذيلا او يكون ذيلا يتحول الى ذيل ينتقل من حالته الانسانية الى حالة يفقد انسانيته فيها، فيصبح تابعا سياسيا او دينيا لا يفكر بعقله بل يفكر بذيله /تبعيته ويتشكل لديه لاوعي يدفعه للقام بمهام توكل اليه لانه: تابع/غير مفكر/مقلد/ذيل ….
الاسطورة سنراها كثيرا في الرواية وهي تنسال على لسان الجدة :جدة البطل وتوحي باهميتها المكتنزة في ذاكرة البشر فالذيل حسب رؤية الجدة يتخذ بعدا آخر موحيا للبطل وعلى لسان الجدة ان من لديه ذيل هو من “انكر ولاية الامام علي” وهكذا فالله قد مسخ امم وجعلهم قرودا وهم من بني اسرائيل حسب ” الاسطورة المقدسة” ويبدو ان الذيل كظاهرة بقيت ملاصقة للبطل الحاكي وهو يتصورها ويلتقطها في المكان/البصرة /المعقل /جامع العثمان وكلها ادراكات مكانية واضحة للبصريين وما زالت شاخصة حتى اللحظة ، ويبدو ان الدكتور لؤي يؤمن بروح المكان واهميته لتصوير الرواية وتقريبها ، فالحاكي يطل على المصلين لكنه يجدهم بلا ذيول بل “خلفيات اثقلها الدهر ” ولايرى اثر ذلك لديهم ولكن هو قد شرح في المقطع رقم 5 ان بعض الناس لديها ذيول لكنهم يميلون لاخفائها ، وتظهر على اعمالهم ، اي: انهم لا ينجحون في اخفائها ولو حرصوا على ذلك فظاهرة الذيلية تظهر على اعمالهم جلية .
ثم يستمر في المقطع رقم 7 متحدثا عن الذيول وصفاتهم فهم : يخلعون خوفهم الطبيعي ، ويوغلون بالشر ويشتمون العابرين دونما سبب ويرمونهم بالحجارة كما يرمون عدوا او حيوانا يتسابقون على الغلبة في الشر ، هذه الذيول غير المرئية /الهلامية/غير الواضحة تتبدى عبر اعمالهم وهي ذيول الشياطين باعمالهم السيئة ، فالشيطان رمز للاساءة وان كان رمزا اسطوريا .ومن يطلق عليهم ذيول من البشر فهم لا يعتفرون بالانسانية كمحدد بل بمصالحهم وهكذا يجرون البلاد والناس الى كوارث دون ان يشعروا بذلك بسبب تبعيتهم وسلبيتهم .
نحن امام الملامح الفنية للرواية التي يرسمها لؤي حمزة عباس وفق وحدة عضوية موزعة على فقرات ، كأننا امام مرآة مجتمعية ، وحين تقترن بالصدق تقدم صورة حقيقية للواقع االاجتماعي ، كما اننا امام حديث النفس ،فالنفس عندما تشعر بالضعف تحدث نفسها لاكتساب القوة ، يقول لنفسه ضمن مونولوج داخلي” ثم يحدثها عن الاولاد المسعورين، مثل كلاب الشوارع يعضون ويرفسون وينطحون برؤوسهم المفلطحة الشبيهة برؤوس العجول” ان هذا التشبيه وغيره يعطي تتفردا اسلوبيا فهو ينتخب المفردة وما يرافقها من تكوينات صورية ، يقول ” ممن تغيب عقولهم حالما يمسكون العصي ترسل أكفهم فور ان تقبض على العصي شرارات كهربائية الى ادمغتهم تعطل عملها” والدكتور لؤي لايتوانى عن استخدام العلوم ومنها الفيزياء ليجعل التعبير اللغوي منسجما مع ما يريده من فكرة وهذا يعني تاكيد لؤي على اختيار المفردة او الجملة مع دقة واحكام في استخدامها فهو يستخدم الفيزياء للتعبير عن جماليات كامنة وما يلفت النظر هنا هو كيف يستبق المنظور المفاهيم التي تهيمن على ادراكنا الجوهري لقوانين الطبيعة ،فكثير من افكار الفيزياء الحديثة الجوهريةة غير مالوفة بالنسبة لاغلب الناس ، حيث تبدو تجريدية ومنيعة اذا طرحناها على عجل في سياقاتها العجيبة التي تظل موئلها الطبيعي ، لذل يطرحها د لؤي ويحاول ان يقدمها الى جمهور كبير مقربا اياها ومازجها مع الاستعارات والتشبيهات الفنية ، وهنا يكمن جهد الكاتب في العثور على استعارات مخلصة للافكار الاصلية والتحدي الاكبر هو استعمال تلك الاستتعارات بطريقة تنصف جمال تلك الافكار ، وبالرجوع الى د لؤي ،فالدماغ تعطل بسبب الشر الذي يصدر عن هؤلاء المسعورين بفعل شرارات كهربائية من الايدي تعطل عمل الدماغ وهكذا تختفي الحكمة من عقول هؤلاء .
البطل/الحاكي يتحدث مع الجرذان التي “تترقب” والسؤال : اي قيم تحملها هذه الشخصية التي تسرد علينا كل هذا الظلام الذي يحيطها والذي يحققه اشخاص اقل ماهم عليه انهم مسعورون ، فنحن امام طرفين متضادين من الشخصيات ، الشخصيات التي تمثل عنصر الخير وتضادها الشخصيات التي تمثل عنصر الشر ، لينتج بعدي الحسن والقبيح في هذا العمل الادبي،وفي الواقع الاجتماعي وهكذا ينقلنا لؤي حمزة عباس من الواقع الذي نعيش فيه الى واقع مثالي تتجسد فيه القيم الذهنية ببعديه السلبي والايجابي.
ينتقل د لؤي هذه المرة وفي المقطع ال12 نقلة زمنية ويعطي الزمن مكانه الحقيقي ببعده الرابع ، فالمكان واضح والخير بعد فيه والشر بعد ثالث وياتي الزمان ليشكل البعد الرابع كأننا امام النسبية التي وضعها آينشتاين ،فالكون باربعة ابعاد وهكذا يرسم لؤي حمزة عباس الحياة باربعة ابعاد وحسب الشكل التالي:

 

 

a t

 

b

c

حيث:
T: الزمان ( حرب الثمان سنوات، 7/نيسان …. الخ)
A: الخير
B: الشر
C: المكان (البصرة،الابلة، البصرة القديمة، المعقل، …..)
ولاينسى دكتور لؤي رائحة المكان لينقل المتلقي اليها والى المكان الذي حواها” يجتاز الشوارع النظيفة برائحة الرازقي الفواحة من حدائق دور العمال في الابلة القديمة، ويكون للهواء رائحة معقمة تملأ الجو تطلقها اشجار اليوكالبتوس العالية التي تسور الحدائق” ص24 ومعروف عن البصرة كثرة اشجار اليوكالبتوس برائحتها المميزة التي وصفها دكتور لؤي فهذه الرائحة تنقل المتلقي الى الزمان والمكان المطلوبين . (البصرة ابان الثمانينات ) وفي المقطع رقم 15 يكرر صورة رائحة المكان (يملا صدره برائحة الشجرة الشبيهة بروائح المعقمات الطبية) كأنما يريد للخيال ان يسبح بعيدا بالمتلقي .
الثيمة الرئيسية في الرواية هي الحوار بين الحاكي/السارد والجرذ ومجموعته ، كانما كان يرسل الرسائل عبر الجرذان ليشرح ايام العراقيين في الحرب عبر الرسائل .
يستعيد الاسطورة مرة اخرى في المقطع رقم 19 وهو يتحدث بلسان الجدة التي تشرح لحفيدها /البطل حكاية النبي سليمان الذي “منحه الله معجزة محادثة المخلوقات من طير ودواب، سمع يوما صوت النملة وهي تحذر بني جلدتها ان يلزموا مساكنهم خوفا من ان يحطمهم سليمان وجنوده وهم لايشعرون” ويستمر د لؤي بسرد القصة كما وردت في القرآن على لسان الجدة ويقع سؤال استعراضي من البطل يسال نفسه بعكس الاسطورة التي سردت القصة ، ماذا لو كان الامر معكوسا ، النمل يقطع الطريق على نبي الله وجنوده؟ وهكذا في مثل هذه الاسئلة تفضح الاساطير فتنفتح عيني جدته على وسعهما وتنغلقان … وهكذا تنفتح كل عيون الناس المؤمنة بهذه الاساطير في مثل هكذا اسئلة تفضحها!!!!
الجرذ هو المتخيل الاكبر في الرواية هو المعاقب الذي استخدمه الحاكي فاذا عفى عن شخص طلب من الجرذ (فدوة قال للجرذ … متمنيا ان يعيد القصاصة فقد سامح أستاذ عباس ) الفقرة 23.
وفي نفس الفقرة يتحدث د لؤي عن المراحيض التي افرد لها فيما سبق كتاب المراحيض وتحدث عن الحالات النفسية والفسيولوجية التي تربطها مع الانسان يقول ” هل يحرك المرحاض بوصفه ملاذا حسيا شعورنا بالرضا والاطمئنان ؟ هل يقودنا؟ عبر الاندماج بما صمم له من وظائف الى مصالحة ذواتنا وهي تتخفف مما حملت اجسادنا من ادران “ص 71 ، كتاب المراحيض، يتخفف الانسان مما حملت الاجساد نفسيا وماديا داخل الخلاء فيكون مجال التفكير والفكر ، يقول ص73 من كتاب المراحيض” لحظة الحس الي تدق مثل مسمار في زمان الجسد وهي تكتم اعمق انفصال عنهم ، يغور المرء في ذاته ، يغيب او يختبئ بعد ان يدخل ويغلق الباب وراءه متوحدا في البياض اللامع ،بياض الفكرة المفتوحة على فردوس الذات وهي تنعم بمعاني طهارتها ” وهنا التقارب بين الرواية وكتاب المراحيض اذ يقول في الرواية” مضى نحو مراحيض الطلاب، ليست به حاجة للدخول لكنه مثل كثير من البشر يتوجه نحو المراحيض حينما يشغله شاغل ملح او يتصاعد قلقه” وهي بالتحديد”لحظة الحس التي تدق مثل مسمار في زمان الجسد” ” واندماج بما صمم له من وظائف الى مصالحة ذواتنا وهي تتخفف….” صحيح ان العبارتين تتلاقحان مع بعضهما وتؤديان نفس الغرض ولكن باسلوبين متفردين للغاية وهكذا ينفتح على ذاته باسلوب اخر ساقه دكتور لؤي في حقائق الحياة الصغيرة. وترجع صورة المرحاض الى فقرة 26 “يمشي بين أبواب المراحيض الحديدية … الى ان يقول: كلما توغل اصبحت الرائحة المنفرة أشد كثافة ويصبح من العسير التوغل فيها، انها ليست رائحة براز متيبس … الى ان يقول مصورا مداهمة استاذ عباس وهو في المرحاض” تحول شعور المفاجأة على ملامحه الى غضب ونفور ، كانه يتوقع منذ ان اغلق الباب ان يداهم احدهم وحدته ويقطع متعته ،غبي آخر يعبر من الضوء القوي الى الضوء الشحيح ويسير ، كأنما بقصد نحو المرحاض الاخير ،غبي لم يولد الا ليكشف وينغص عليه” ص38 الرواية ، انه يصور خلوته في المرحاض ضمن صورة أخرى وكأنما هذه الصورة المنفرة للمرحاض هي صورة النظام السابق بقضه وقضيضه وسطوته واستبداده ، اذ يقول في الفقرة 27 واصفا المعاون ” من اجل ان يكون نسخة من الرجل الذي يملأ العين شاغلا حياة العراقيين” وفي المقطع 28 يصور د لؤي تصويرا فلسفيا هيئات مختلفة للبشر كأنما يحاكي الحلول الذي قالت به بعض الطوائف الباطنية اذ في رأيهم ان البشر بعد نهايته يعود الى الحياة بحالة أخرى على شكل حيوان او نبات اذ تحل روحه في هذه الكائنات ، يقول د لؤي” فور ان يموت المرء يعود لما كان عليه قبل ان يولد في هيئته البشرية ،اللحظة التي تعود فيها بذرة الحيوان الدفينة في داخله الى الحياة ،بذرة مخفية في الدواخل العميقة المعتمة” او كأنما يشير هنا الى العدم ،فعودة البشر حال موته الى ما كان عليه قبل ولادته انما هو العدم فهو ينتقل من العدم الى العدم. او كانما يشير الى نظرية التطور التي اثبتت السلف المشترك الاكبر للكائنات الحية اذ تشير الدلائل الى انها كانت اي الكائنات الحية كلا واحدا ممتزجا فانفجر وجودها البايلوجي قبل 500 مليون سنة وتنوعت فيما يعرف بالانفجار الجمبري ، وتشير الدلائل العلمية الى ان الجينات المشتركة بين الانسان والحيوان والنبات اكبر من ان توصف ، فمثلا هنالك جينات مشتركة بين عثة الفراش والبشر ، البشر والقرد والكلب والقطة ، فالجينات بين البشر والكلاب 75% وهكذا ، فبذرة مخفية هي الجين في الدواخل العميقة المعتمة وهي عبارة عن اشارات غامضة متباعدة .
يرتد المكان بارتكازاته الكبيرة ، بروحه عبر رواية د. لؤي “كانت جدته تصحبه كلما ذهبت الى العشار” ويبدو لي ان هذه الواقعية بالتركيز على المكان انما هي “واقعية متجاوزة” تدرك ان الواقع يشكل طبيعة الوعي ويحدد مسار التفكير والابداع، وذلك عبر فاعلية في صنع الواقع والوعي تماما وهكذا يبني لؤي حمزة الواقع ليس بوصفه المباشر بل بوصفه الجذر الرئيس لصدور التفكير العلمي ،المنطقي،الفلسفي،الرؤيوي… الخ.
اما الميثولوجيا الدينية فلها حصتها ، في هذه الواقعية التي تصنع الوعي فيحضر ضريح عبدالله بن علي الواقع في العشار كرمز فيه دعاء عبر همهمة ، ومعه جامع المقام ورؤية صوفية مميزة، فالجدة تتحدث عن طريقة قراءة القران “انه الكتاب الوحيد الذي يقرأ بالقلب ” وهذه عبارة صوفية تعبر عن ما اسموه المتصوفة ب”الدين الجوّاني” ،فهي لاتقرا لكنها تراه في قلبها كما اشارت . والدين الجواني حسب المتصوفة اهم واعظم من الدين البراني كما عرفوه ودفعوا ثمن ايمانهم هذا ،ارواحهم فشردوا وقتلوا وصلبوا كما السهروردي والحلاج وغيرهم كثير.
يركز د لؤي على الرائحة كدليل على المكان فرائحة اليوكالبتوس مما ميز جو البصرة واعطاها رائحة كرائحة المعقمات وهذه صورة تتكرر في الرواية لمرتين .
والذي يقرا الكلمات حول الروائح يشتد الى ذلك الزمن حيث الكالبتوس ينتشر في كل مكان تنشر الروائح الجميلة ” ورائحة البراز المختلطة بالدخان/السكائر”، (تنقلك الى المراحيض العمومية في البلاد عامة ) ورائحة البمبر “اكثر رطوبة واعمق سحرا” اذ ان اشجار البمبر شائعة الوجود في البصرة .
ويرجع من رائحة المكان الى الزمان في بعده الرابع الذي تحدثنا عنه فيما سبق “وسال نفسه عن معنى ان تكون المدن ابدية وان تكون الابدية بابا يفتح للمدن البعيدة فتطل منه على الزمان” ص45 ،الرواية وهو بهذا يجعل من الزمان والمكان ظاهرة واحدة لاتنفك ،فالمدن الابدية في تطورها تكون أبدية في اطلالتها وديمومتها ونقائها فهو تحت القصف في الحرب العراقية الايرانية الا ان خياله اخذه الى خارج مدن الموت والدمار البصرة انموذجا الى باريس وفرانكفورت عبر الكتب الوسيط حيث الروائح الجميلة التي تدل على سكنى المكان وروحه والايقونات الزجاجية ، والناس حيث”الرضا العميق والتسليم” والحيوانات التي تعيش مع البشر بطمئنينة والاصوات الخفيضة الرخية وهو تحت القصف ليس معه سوى جرذه.
ويعود مرة اخرى مع جدته حيث الاسطورة الممتزجة برؤية دينية ” ملائكة باسماء غريبة ، السماء،العروج بغمضة عين، الانبياء بلا عدد، العرش، الكرسي ، بحار ليس لها وجود علالخريطة…. الخ.”
يعود لوصف البصرة وهذه المرة وصفا جغرافيا لتضاريسها “الشط الكبير شرقا(شط العرب)، الصحراء الواسعة غربا (الزبير) بساتين النخيل جنوبا (الفاو ،ابو الخصيب) مسطحات الاهوار شمالا( القرنة والمدينة) ” ويزاوج بين الواقع والخيال تزاوجا يكاد يكون مخيفا لمقدرته وقدرته” حتى لو كانت الجرذان قد قفزت من كتب الجدة ، وحكايا ملائكتها وشياطينها ،مرت على سراط مستقيم ارفع من الشعرة وأحد من السيف بين جنتها ونارها” زهذا الوصف للسراط التخيلي بين الجنة والنار حسب الاسطورة مقتبس من الحديث المأثور في وصف هذا الطريق بأنه “ارفع من الشعرة وأحد من السيف” وهنا نرى ايضا ان د لؤي يكثف الحدث ويحدده في زمان ومكان معينيين، شوارع المعقل شبه الخالية قرب فندق شط العرب وهو يحدد الزمان ، كذلك لان اغراق الحدث بتفاصيل كثيرة يقيد حركة الشخصية ويمنعها من التعبير عن عالمها الداخلي في حين ان الحاكي هنا يعبر بتفاصيل عالمه الداخلي” أحس الجرذ في داخلي وأسمعه يحدثني” ” كتب الجدة تتحدث عن الملائكة والانبياء” وينقلك الى اجواء المعقل حيث السفن والموانئ وأعالي البحار ،شمعون الارضي وشراب المتة :وهو مشروب ساخن من فئة المنبهات يعود منشئه الى دول امريكا اللاتينية حيث يتوقف د لؤي عند المكسيك وحركة مير اليسارية .
وهي حركة يسارية طالبت بالعدالة تأسست عام 1915 ومن مؤسسيها (ميغيل انريكيز) ( الويكي) ورمزها mir
والحدث التاريخي يمتزج مع الحوار بين سليم والبطل ،فالحدث هنا هو الشخصية اثناء تحركها وأداء فعلها، وهو الهيكل المحوري للرواية ، اما الحوار بينهما فهو احد اركان النسيج اللغوي وهو جزء لا يتجزأ من الشخصية يوظفه د لؤي من اجل استكمال ملامح الشخصية ليجعلها اكثر تجسيدا وحضورا ويسهم في دفع حركة الحدث وماهيته ورؤيته ، كما انه يحافظ وبشكل كبير على لغة الشخصية من بداية الرواية حتى نهايتها حيث تتكلم بالواقع والاسطورة ، البطل والجدة = مثال على الاسطورة
البطل وسليم= مثال على الواقع . وهو بذلك يضفي عليها سمات الحياة فتغدو اكثر تجسيدا وحضورا امام المتلقي كي يتأمل حياتها (الشخصية) ويسمع صوتها بلغتها التي في بعض الاحايين تكون حوار عامي (فدوة لقلبك) مثلا والحوار العامي الوارد في بعض الفقرات في الرواية هو “اللغة الوحيدة التي تكشف عن احاسيس وافكار هؤلاء الناس بصورة واضحة لانها لغتهم وهي المرآة الصافية لسيكولوجيتهم” (عبدالملك نوري ، الى الاخ الكويتي فاضل خلف ، مجلة الاديب ، ص61 ن نسخة الكترونية ، مارس/1952) ونحن نختلف هنا مع عبدالملك نوري فالحوار العامي في الحقائق الصغيرة هو ليس اللغة الوحيدة التي كشفت عن صورة الناس والشخصيات الواردة فيها وعن سايكولوجيتهم بل ابعاد كثيرة كشفت عن ذلك كنا وما زلنا في صددها. ومنها حضور الاسطورة المعبرة عن سايكولوجية الكثير من ابناء المجتمع مثلهم بالجدة ” كانت غرفة الجدة كامدة الضوء ،رائحتها ثقيلة ، مزيج من بخور حاد وعطن بول جاف، رائحة مناسبة لحكاية ابليس ، رويها جدة تهاوت على سلم المنزل ،فانكسر حوضها ،بقيت منكفئة على وجهها حتى الفجر ، يملا انينها المنزل ، ولايصعد الى السطح، ولايوقظ احدا، وكان ابليس يركض مناديا السباع ، مبشرا اياها بان طيرين قد وقعا من السماء، لم ير الراؤون اعظم منهما، تعالوا فكلوهما ، يصيح بصوت يهز الارض هزا، ويشقق سكينتها ،فتتعاوى لصوته السباع، لم يكن قد مر وقت طويل على هبوط آدم وحواء ، كانا كما قال ابليس مثل فرخي طائر مرتعشين ، وكانت السباع تتعاوى وابليس يتقافز مواصلا صياحه واعدا اياها بقرب المسافة حيث وقع الطيران، ولشدة هياجه وهول حماسه سال من شدقيه لعاب كثير وقع على الارض ، خلق منه فور وقوعه كلبان عظيمان ذكر وانثى ، ركض الكلب فور خلقه حتى وصل الهند، حيث اهبط ادم، والكلبة ركضت فور خلقها حتى وصلت جدة، حيث اهبطت حواء، فقاما حولهما يضربان الارض بقوائمهما وقد احمرت اعينهما ، يهران هريرا لم تسمع السباع مثله ،فلم تقرب ىدم وحواء من ذلك اليوم ومن ذلك اليوم صار الكلب عدو السبع والسبع عدو الكلب .اين الجرذ في هذه الحكاية؟ (ويستمر الحوار بين البطل والجدة عبر اساطيرها الممتزجة برؤية دينية سنمر عليها سريعا) ويسال جدته محتجا فتلتفت مواصلة حديثها ، ركض الكلبان طويلا حتى وصلا ادم وحواء، كانا يعرفان مكانيهما كما عرفت مكانيهما السباع ،يضربان الارض بقوة ويحسان من خلفهما ركض السباع ، كانت قوائم الكلبين القوية تضرب الارض ضربات ، يطير لها تراب كثير ورمل ، كل ذرة تراب تسقط على الارض تتحول جرذا ذكرا، وكل حبة رمل تحول انثى ، كانت الكلاب تركض والجرذان تركض خلفها فزعة غير مدركة طريقها يهولها ركض السباع فتتقافز ذات اليمين وذات الشمال تمضي خاطفة نحو ما يصادفها من شقوق وحفر انها تركض ليل نهار منذ صياح ابليس حتى قيام الساعة” الاسطورة واضحة في قصة الخلق بوجود ادم وحواء الاسطورة التي تناقلتها كل الكتب الدينية المرتبطة بالسماء ابتداء من العهد القديم وانتهاء بالقران ، والجرذ هو النتيجة لهذه الاسطورة هو المتخيل ، هو الحاكي الثاني بعد البطل هو المستمر بالركض ليل نهار منذ صياح ابليس وعصيانه حسب الاسطورة وحتى نهاية الارض ومن عليها ، فهل تنتهي حركة البشر ؟؟؟؟
في المقطع رقم 39 يعطي د لؤي صورة علمية بايلوجية بيئية يتحدث بها عن علاقة دائمة بين الكائنات الطنانة /الحشرات والانهر والنباتات كسيقان القصب المجوفة حيث “تواصل ملايين الكائنات الحفر في الطين الرطب” واجسامها اي التي تحفر فهي :جلدية ، حرشفية كالثعابين ، صدفية ورقيقة وصلبة كالسلاحف.
الجرذ هو الضحية وشكّل مع الحاكي حكاية وطن والذي يستمع للبطل قال له بغير ان يفتح فمه” وجهي يحترق ورائحة النهر تخنقني اخشى ان اغمض عيني فتفاجئني رشقة البول من جديد” فهو يتحدث هنا مع نفسه وبنفس الوقت مع الجرذ وهذا شبيه بمبدا من مبادئ الفيزياء عندما تلتقي كل من الحركتين الدائرية والدورانية سوية في جهاز واحد grazy dance وهكذا هذا الحوار مع النفس ومع الجرذ اشبه بحوار الذات مع الذات والذات مع الاخر في نفس اللحظة ويكون حوارا صعبا معقدا فيفهمه الجرذ ، المتخيل ، و(يضرب حافة الصينية بطرف ذيله المقطوع) والجرذ هنا دلالة على المهمشين والمستغلين المخذولين والمظلومين الذين قفز عليهم وعبر التاريخ المستبدين والطغاة “لو نادينا الجرذان التي تحيا منذ اول الخلق في شعاب القصص واودية الحكايات ” ويقول ص 73″ لكي يتسلى بك كما تتسلى ملايين البشر بملايين الجرذان على مر العصور ، ويصف الدكتور لؤي مصائد الجرذان والتي هي مقاربة رائعة تروي وتصف مصائد الطغاة للمهمشين عبر التاريخ والاماكن التي وقعت بها هذه المصائد للناس “يرمي القطع الصغيرة منصتا لخطواتك يلاعبك قليلا ، يقبض عليك بعدها، ليسلخ فروتك بيد خبيرة حالما تشرق الشمس ثم يعلقك من ذيلك على اقرب عمود” وهذه رمزية الجرذ هنا التي بلغت من التعقيد بحيث اننا فسرنا بهذا الشكل فلا يمكن تأويلها بشكل مباشر فالجو الذي يصنعه د لؤي عبر الجرذ هو جو كابوسي يتحدث به عن معاناة المهمشين والمضطهدين، ويبدو لي ان د لؤي بهذه الارتكازة في وصفه للمضطهدين يعبر عن المثقف الحديث كما يريده “فالتر بنيامين” اذ يؤسس رؤيته (المثقف هذا)وسط “من لامأوى لهم ” وسط المبعدين ويجعل” المفكر الاصيل والثوري قضيته مشتركة مع المحرومين والمسحوقين ،لانه ليس الا واحدا منهم فجميعهم شركاء في المحنة” (غريم غيلوتش، فالتر بنيامين، تراكيب نقدية ، ت: مريم عيسى، المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات ، ط 1 ، بيروت، 2019 ، ص 383) ” من نقطة ما مبهمة انبثق شهاب عجول ساحبا وراءه وشاحا من غبار مضيء وقد تناهى الى سمع الفتى صياح طائر يتكرر قبل ان يتباعد ،فيخبو صوته ويذوب ، تخيل الطائر ينظر لهما من عليائه بعينيه اللاقطتين، يرى الجرذ المتحفز القلق والفتى الممدد لحظة يغمض عينيه مستنشقا رائحة التراب ، كم من مخلوق يحدق بهما الان ، يرى بريق الخوف في خرزة عين الجرذ الدقيقة وانطباق الجفن على فص العين البشرية ، التي اخذتها رحابة ما يحيط بها، فضمت كل شيء كما تضم حلما بعيدا او ذكرى عزيزة نادرة، النجم الذي يلمتع فوقهما الان نداء ملح قديم، ذكرى بعيدة واثر من دهشة زائلة ، في الليل يمكن للجرذ والجندي على السواء، ان يدركا الوجود على نحو ساخر ، متناقض وغريب ،فليس هناك ما هو اكثر غرابة من نجم يضيء مساحة مهما صغرت من قماشة السماء السوداء، وهو في الوقت نفسه ميت منذ زمن بعيد ، انه نداء الموت ، ضوؤه وتلويحته ، التماعته الخاطفة وهي تحاكي ، على نحو ما ، وجودهما معا، الجرذ والفتى الذي غدا جنديا هائما في حرب طويلة ، كم من نجم يبتهج الان، تعز محادثته بعد ان التهمته العتمة وماهو سوى مليارات الذرات الطليقة السابحة في بحار السماء الموحشة ، ربما كان واحد منهما، الجرذ او الجندي، يتنفسه في الوقت الذي تاخذهما فيه سعادة ، ضوئه الخاطف ، اضواء النجوم الميتة تتداخل مع اضواء النجوم الحية ، لعبة الحياة والمو القديمة ذاتها ، تطلق النجوم رسائلها المشعة في الكون المعتم الفسيح، لكل انسان رسالة بأسمه، تحلق قبل ان يولد بآلاف السنين ، تقطع السنوات الضوئية في انتظار اللحظة المحسوبة المقدرة التي يرفع الانسان فيها راسه وينظر الى السماء، عندها يكون الضوء قد وصل نهاية رحلته الطويلة ، يلج من بؤبؤ العين الى الاعماق البشرية المظلمة” الرواية (75-76) فالجرذ الخائف اليقظ الذي يعيش الحرب بكل تفاصيلها ، جرذ الحرب/الانسان المهمش الذي قع عليه الحرب دون ارادته وتسلبه اعز ما يملك ، هذه هي سمات لزمن عاشه د لؤي ، سمات من الاستغلال وعدم المساواة والظلم والسيطرة والهمجية والابادة الجماعية ” اننا لانزال نعيش في حالة طوارئ وعيوننا مغلقة “”يرى بريق الخوف في خرزة عين الجرذ الدقيقة وانطباق الجفن على فص العين البشرية التي اخذتها رحابة ما يحيط بها” ” تغفو في المكان الحلمي كما يقول غريم غيلوتش ويقول لؤي حمزة عباس” فضمت /العين / كل شيء كما تضم حلما بعيدا او ذكرى عزيزة نادرة ” ” وزمانه في الان والهنا” هكذا يستعيد د لؤي العابر والمتشظي ويمثله ويتذكرالاموات المنسيين وينقذ آمالهم ” بمقدوري ان ادونه تحت صورتك المطبووعة ، في صفحة منفردة الى جانب صفحات تضم صور جرذان كثيرة بأسماء تميزها بحسب الوانها وأشكالها او بحسب حجومها او سلوكها او اماكن معيشتها فوق الارض او تحتها ، اسماء معروفة طالما تناقلها البشر”
نتوقف عند صورة النجم المنتهي الذي ينتقل لنا ضوؤه قاطعا ملايين السنين الضوئية والذي يضعه كصورة علمية فلكية ، كي يصور لنا صورة تداخل الحياة والموت ” اضواء النجوم الميتة تتداخل مع اضواء النجوم الحية” وهذه حقيقة علمية اذ ان النجوم بشكل عام بعيدة عن منظومتنا الشمسية والارض معها بملايين السنين الضوئية كمسافة في درب التبانة (مجرتنا) وغيرها من المجرات وتنتهي بعض هذه النجوم وتنفجر ولكن بسبب بعدها فان ضوءها يصل الينا في حين هي قد انتهت ،/ماتت/انفجرت/تشظت/ وضوؤها الذي تبلغ سرعته 3*10^8 م/ثا، يصل الينا قاطعا ملايين السنين الضوئيةوبنفس الوقت فان النجوم التي لم تمت يصل الينا ضوؤها وبنفس السرعة المذكورة في اعلاه وهي سرعة الضوء فتتداخل لعبة الحياة والموت، الضوء الناتج من موت النجوم مع الضوء الناتج من النجوم الحية وهذه هي ” لعبة الحياة والموت القديمة ذاتها” النجوم تطلق رسائلها المشعة في الكون المعتم الفسيح ويصل الضوء الذي هو عبارة عن رسالة تقطع سنوات ضوئية ، تقطع مسافة فتلج في الاعماق البشرية المظلمة/ والسؤال ” نجم يشرق في حلكة الليل فيضيء وهو ميت منذ زمن بعيد جدا ، كيف للموتى ان يرسلوا اشاراتهم ويضيئوا؟” انه صوت العدالة الاجتماعية ، صوت المظلوم، صوت الفقراء ، صوت المستغَل ضد المستغِل فهذه الصورة العلمية الفلكية الفيزياوية استغلها دكتور لؤي ليصور صوت العدالة وصورتها ورسالتها عبر الضوء ، ضوء النجوم الحية والميتة على السواء. فكرة الموت هذه ليست الاولى في كتابات د لؤي فسبق ان تناولها في كتابه “الكتابة ، انقاذ اللغة من الغرق” زر دائري صغير محدد الحافة ، بثقبين عميقين، يتدحرج على السلم من درجة الى اخرى يواصل، دورانه، مثل عجلة محكمة ، تحرك العالم وهي مع ذلك عجلة منسية ، لا شان لها، تواصل سقوطا صامتا لايعني احدا ولايلتفت اليه احد، رصاصة تنطلق في اللحظة نفسها، قاطعة مسافة قصيرة ، لتستقر اسفل الرقبة ، انهما يمضيان في طريقيهما: الزر على درجات السلم، والرصااصة في الشرايين الدقيقة ، والاعصاب ، بعد ان اخترقت طبقات الجلد، وغارت بعيدا في قاع حياة كاملة ، انها خلاصة الحياة ، رعبها، لحظتها التي ترقبتها طويلا لتتكلم بطلاقة عن فكرة الموت، وهي تستعاد مع كل زر يسقط ، مع كل رصاصة تدوي في ليل الجسد” ( ص99، الكتابة ، لؤي حمزة عباس، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2014) فالموت هو صنو الحياة الذي لاينفك عنها .
الانثى حاضرة وتخرج لنا كي تصور معاني الحياة الجميلة والعابرة ، فالزمان والمكان كلاهما من دون انثى لايصحان وبلقيس حضرت كصورة عابرة الا في المقطع 63 حيث ب ” حضور البنت الطاغي” اذ لم تكن” تنطق بغير كلمات قليلة متفرقة ، تتفجر في رأسه مثل العاب نارية ، تبتعد وتخبو ، لكنها سريعا ما تملا سماواته بزهور ضوئية عملاقة ، كان يقوم الرغبة في ان يغامر برسمها، واكتفى بعدد من التخطيطات بوضعيات ممختلفة كما لو كانت تسترخي جالسة امامه ، كانت تلك وسيلته ، لسحبها من مجلس النساء في الغرفة المجاورة ” ص94 ، م س . ويستكمل حضور بلقيس الطاغي والحالم :
بلقيس ملكة سبأ والهدهد معها ” لكي يزيد احساسه بسحرها ن فقد اطلق فوق كتفها الايمن طائر هدهد”
بلقيس الحبيبة ،” من سعيدة الحظ التي تنشغل برسمها؟” بلقيس تسال الحاكي؟ ” قد ثبتت نظرتها على اكثر تخطيطاتها دقة وكمالا وقد بدت فيه كائنا سحريا بامتياز”.
بلقيس نزار قباني” انها بلقيس حقا، حبيبة نزار قباني وزوجته” التي قتلت في تفجير السفارة العراقية في بيروت ابان الثمانينيات . هكذا يكون لبلقيس الحضور الكبير عبر حوارية جمعت بينهما في المقطع 65 ” يحرص على الاستماع لنزار قباني وهو يقرأ قصائده ،تبثه اذاعة صوت الجماهير من بغداد، كل صباح بعد ساعة فيروز، يبدا الصباح بالنسبة اليه مع صوتيهما وهما يأتيانه من الراديو الصغير الموضوع على رف المكتبة ، في اول دخولها للغرفة اقتربت بلقيس من الراديو متسائلة:
تتابع الاخبار؟ لايكفيني ما اسمع من الحرب.
اذا ما حاجتك للراديو؟ فيروز ونزار قباني وأغاني فرقة الانشاد عند الظهر ، ومرات اسمع راديو موسكو ، طريقتهم في نطق العربية تضحكني” .
كما يشرح د لؤي تفجير السفارة كصورة حرب مؤلمة في بيروت في المقطع 67 وعبر الخطالفاصل بين الحياة والموت وسوى هذا المشهد العابر فانه في المقاطع التالية 68 و69 و70 و72 ، يكون لبلقيس الحضور الكبير ، وفي المقطع 72 بالتحديد وضمن الحوار الديالوجي بين بلقيس والبطل يقول د لؤي” كل البشر لديهم حيوانات بعضهم يرونها ويسمعون اصواتها وبعضهم لايسمعون اصواتها ولايرونها لكنها تبقى مع ذلك حية بأعماقهم” وهذا يقودنا لما يسكن البشر من هواجس كثيرة عبر عنها الدكتور لؤي ب”الحيوانات” لدرجة التماهي الكبيرة بين البشر والحيوان ونقطة الوصل الكبيرة بينهما وفي نفس المقطع يجري الحديث عن بلقيس والحاكي، ولكن هذه المرة على لسان جرذين يعيشان على كوكب بعيد يصفه ملك يعيش على نجم لايرى، اسمه نجم 325 وهذه التسمية على طريقة ناسا في اطلاق ارقام بدل الاسماء، لتعريف النجوم البعيدة المكتشفة وهذا الملك يروي لزهرته عن الجرذين (العجوز والفتى والملك يسمع حديثهما وهما يتحدثان عن كوكب بعيد عنهما يحوي رجل وامراة خائفين) /بلقيس والحاكي.
والمقاطع 73و74 عن عشقه لبلقيس التي ما فتأ المقطع 75 ان يصل الى بلقيس” قد اغمضت عينيها ،لسانها في فمه /سليم، احمر وصغير مثل لسان القطة”وهذه الصورة التي رسمها د لؤي عن الحب اثناء وفي زمن الحرب، سرعان ما غابت بخيانة بلقيس ورجع القصف وهو يتوالى على “بيوت المعقل ، ويهز اركانها” ويتصاعد الغضب لديه بعد الخيانة فيصل الى ان “التقط على الفور حجرا صغيرا خشنا صقيل الحافة ورماه نحو الجرذ بكل ما في نفسه من غضب، سمع الحجر يشق الهواء بينهما قبل ان يضربه ضربة مميتة”ص113.
وصورة اخرى قاسية من صور الحرب التي عاصرها د لؤي وهي صورة مسكوت عنها كثيرا صورة ما يسمى بالتبعية الذين “رحّلوا في حرب ايران والعراق وهي صورة ترحيل ام وسام ” حقهم يصرخون يمة ،بلغهم الرفاق باوامر تسفيرهم بعد ثبوت تبعيتهم ما جانت المرة تعرف شدكول برمشة عين، ينطرد بنيادم من بيته ويفارك شغله واهله وجيرانه شنو هالمصيبة ،شلون يصير ايراني من ولد وعاش بالعراق!” ص116 والملاحظ استخدام اللهجة في هذا المقطع والسبب كما اوضحناه فيما سبق.
ويكمل د لؤي في المقطع الاخير الرحلة مع بيت ام وسام بتسفير بلقيس مع ساعات الفجر الاولى بسبب قرار الدكتاتور وبقي هذا الجندي /البطل/الحاكي وحيدا لا بلقيس ولاجرذ وبقيت الصورة المهمشة متمثلة فيه والاستغلال متجسد فيه بابشع انواع الاستغلال والختام مع الصورة التي انهت الرواية صورة حذاء الجندي”اثار البسطال”بعد ان ابتدأ الرواية باقدام الجرذ المهمش وما بين اثار القدمين تماهي عجيب كان الجرذ بحق للجندي هو :ظله وصورته وملاكه الحارس ومرآته، اي: كان هو نفسه بما وقع عليه من ظلم كبير.
الرواية ما بين البطل وصديقه الجرذ تحكي حرب السنين، واختلاط صوتهما مع اصات القنابل والمدافع فكان” يكلم الجرذان منذ تعلم الكلام فتسمع منه وترد عليه”.
انها حقائقنا الصغيرة كعراقيين عشنا فترة الحرب وكوارثها الكبيرة ومن نجى منها ، فهي ذكريات تلك الايام المريرة وقساوتها الكبيرة وشجونها المعبر عنه عبر “حقائق الحياة الصغيرة” .

سرعان ما يقترب لؤي حمزة من صوت المظلوم وصوت المضطهد ” ففي منتصف الليل تقريبا، وصلت سيارات لاندكروز، بيض لمنازل كثير منهم، نزل منها مدنيون، يدسون مسدساتهم خلف الاحزمة، التقطوا الطلاب من أسرتهم، انتظر صديقنا ان يلمح شهاب الوحش، لكنه لم يره النهار كله، في الحلم رآه مثل ورقة خس ذابلة ، يحيط به رجلان مسلحان، فتحا باب السيارة ودفعاه الى الداخل ركب احدهما الى جواره، واستدار الثاني ليركب من الباب الاخر، انطلقت السيارة على الفور ، في الحلم كان ينظر من فتحات سياج السطح، وكان يبكي” الرواية ص82.
وتحت عناوين الطغاة الفارغة “احنة مشينا للحرب” ” صور الرئيس الكبيرة على الاكتاف والاعلام على الساريات المرتكزة على الاذرع” “البطولة والنصر” وهي صور واقعية يعرفها كل من عاش حرب الثمان سنوات وما بعدها وهكذا ” كانت صور الرئيس تهيمن على الجموع المشدودة لسطوتها باشعة خفية ، لكنها قوية راسخة تصنع خوف الناس الصامت” الصور للمستبد في كل مكان” الرئيس في زهوة شبابه، ببدلته الرسمية السوداء عريضة الياقة وربطة العنق المخططة لامعة القماش وعلى الصفحات الاولى من الصحف ،ببدلة الميدان ، وعلى اغلفة المجلات والدفاتر وعلى الارصفة “، الصور هذه يقابلها صور المهمشين اذ يصفهم ” كان الافتتان ياخذ الناس عاليا وبعيدا ، اعلى من الصور واللافتات وابعد من صيحات كائن الحرب، الذي لا يكل ولاينام، تمضي بهم الصور الى مناطق لم يروها من قبل ، لا تخلو من فتحات جحور عميقة معتمة ، يطل من فتحاتها فتيان بعيون مجهدة ورؤوس حليقة غير منتظمة، يتطلعون نحو الجموع المنتظرة على امتداد الارصفة ، انهم الاسرى الذين رأيناهم من قبل، تتراءى لنا اشباحهم مرة بعد مرة” ص90 الرواية وبسبب هذا الاستبداد واجبار الناس على الحروب كان الفتى قد تماهى و” خطف مثل جرذ خائف صار جنديا يصعب تمييزه عن جنود الموكب الذي يواصل المسير” ص91 الرواية .
ولاينفك ان يكون العلم حاضرا في تصويرات د لؤي ضمن هذه الرواية ، وهنا لابد ان نقول :ان العلاقة المحورية بين العلوم الانسانية والتطبيقية يبلغ مداها في حياتنا دون شعور فاهل بغداد” ترتسم حول رؤوسهم هالات مستديرة من نور كأنهم خرجوا من تجارب التيار الكهربائي في مختبر الفيزياء” ومرة اخرى واصفا جلوس امه وام وسام البغدادية في غرفة الجدة “فتسري في ارجاء المنزل كهرباء صوت المراة الشبيه بصوت سعدية الزيدي” والحاكي “يتصور ان للاصوات نبرات مختلفة معدنية ،فضية، نحاسية او حديدية” ص93 وهنا نبين ان ترددات الاصوات تختلف باختلاف اصحابها وهذه قضية علمية تماما تلتقي بالسرور الذي يبعثه تنوع الصوت البشري “هنالك نوع من السرور مبعثه الصوت البشري”

ملاحظات ختامية على الرواية :
انها رواية تحتفي بالمكان وتبالغ في تفاصيله، وتصف البصرة تفصيليا ، فهي الحاضنة المؤطرة للحكاية الاخرى الرمزية (الجرذ والبطل المجهول) التي تتصف بانها رحلة في الزمان (البصرة ابان الثمانينيات حيث تدور رحى حرب اكلت الاخضر واليابس) وللدكتور لؤي رؤية كبيرة حول المدن لخصها في ” تشبه المدن الكتابة ، تواجهها وتتصادى معها ، تنبثق منها، كما ينبثق الحلم من الحلم، فتصبح السطور شاورع مديدة لاتبدا ولاتنتهي ، لكنها تتقاطع بمرونة واحتراف ، انها حية كما كانت السطور حية من قبل ، تحس ما يجري فوقها من وقائع وتسمع ما يتكسر من سنوات، تترقبنا المدينة ، لحظة نعيش الكتابة وتنصت لارواحنا، تعيننا الكتابة على ان نمد ايدينا ونصعد للمدن التي نحب، نحيا في صورها حتى اخر قطرة حبر ، نمر في ازقتها ونتنفس اسواقها ، نراجع اشواقنا في ظلال الشرفات البعيدة ، ونتذكر اعمارنا ، أسمع الكاتبة تعدد اماكن مدينتها ، تتجول مأخوذة باسواقها ، تراجعها سوقا بعد سوق ، سوق تفضلي يا ست، سوق الحرير ، سوق الحميدية ، سوق مدحت باشا، سوق البزورية ، سوق التكية السليمانية ، سوق القباقبية ، سوق السروجية ، تقف في كل منها، تقلب الثياب وتنتقي، تتناول القهوة عند ابي علاء، والشاي عند ابي فتحي، واحيانا الزهورات الشامية عند ابي العز” هذه صورة تقدمها كاتبة دمشقية تحن الى مدينتها على لسان الدكتور لؤي في ص162من كتابه “الكتابة”
حضور الهوية والانا والآخر (هوية مدينة مغيبة غيبتها الحرب، الانا :الحاكي الرئيسي المضطهد /انسان الحرب، الآخر: المنسي كذلك ضمن اتون الحرب في المدن المنسية /البصرة انموذجا)
تعمق الابعاد الدلالية لحكاية لؤي حمزة عباس التي تنعكس في كل رؤية طبقا للمرجعيات الفكرية التي تصدر عنها تلك الرؤية (الجدة : اسطورية دينية ، البطل /الحاكي:علماني ، اصدقاؤه / سليم مثلا :علماني، استاذ عباس:بعثي ) وهكذا .
تمكن الرواية من ترتيب معالم وفضاءات وعناصر مرتبطة بالزمان والمكان وفي رايي ان عالمها كان مختلفا عن سواه من العوالم الروائية التخيلية الشائعة في الرواية المعاصرة بالطريقة التي قام بها دكتور لؤي في تمثيل :افكاره ورؤاه ومرجعياته وتخيلياته ان صح التعبير . بل انه خلق مكونات جديدة طبقا لمقتضيات الحاجة التي يستدعيها ذلك العالم في الوقت نفسه(استدعاء الرائحة لوصف مكان مثلا )ومن ثنايا ذلك العالم تنبثق الشخصيات من آفاق ضبابية كأنها بلا ماض (سليم مثلا ، بلقيس … الخ.) فتنخرط في حركة صراع حول المفاهيم والقيم والتطلعات والانتماءات (ترحيل بلقيس واهلها بحجة كونهم تبعية مثلا، والتملك والهوية والرغبة والمتع الذاتية – علاقته ببلقيس والقبلات المتبادلة بينهما قبل اكتشافه لخيانتها- وقبل كل شيء مواصلة البحث عن مصير مجهول في فضاء البصرة متعدد الابعاد او في فضاء الرواية عموما والذي تشكل فيه البصرة جزء اساسي كما اوضحنا الابعاد التي تحدثت عنها رواية الدكتور لؤي حمزة عباس، اضفى على الشخصيات نوعا من العزلة والانفراد بمقدار ما يدفعها الى ضرب من المشاركات العابرة وهي ترتحل من دون هوادة كأنها لاتدرك معنى الاستقرار .
لم نجد ان هنالك استقرار في الرواية بل انها وبسبب تعدد المسارات والابعاد لها كما اوضحناها وجدنا كيف ان البطل مع الجرذ يعانون من عدم الاستقرار الذي فرضته عليهم اجواء الرواية وهذه بحد ذاتها تجعل المتلقي غير مستقر يبحث عن نهاية غير واضحة عبرت عنها السيمياء بشكل اوضح بكثير وهذه هي غاية الكاتب اذ جعل مدخل الرواية صورة اقدام الجرذ وانهاها بصورة (بصطال) الجندي وكانت هذه هذه الرؤية الاوضح ضمن اجواء عدم الاستقرار تلك.
استخدامه للاسطورة قد يحيلنا الى انها معين لا ينضب للشاعر او للروائي او انه يدرك” ان الاساطير من الوسائل المثلى للرجوع بالعمل الفني الحديث الى مناخ اللغة البدائية التصويرية البكر لاسيما ان الدلالات التاريخية في تصوير الاسطورة ماتزال عالقة برموزها” (الرمز والرمز الاسطوري في شعر بدر شاكر السياب د علي عبدالمعطي البطل، ص118) وقد يكون استخدامه للاسطورة لجوء الى الرمز ، ولم تكن الحاجة الى الرمز/الاسطورة ، امس مما هي عليه اليوم، فنحن نعيش في عالم لاروح فيه ولاشعر فيه ، اعني ان القيم التي تسوده قيم لا شعرية والكلمة العليا فيه للمادة لا للروح، هكذا عاد الاديب الى الاساطير ،الى الخرافات التي ما تزال تحتفظ بحرارتها لانها ليست جزءا من هذا العالم، عاد اليها ليستعملها رموزا وليبني منها عوالم يتحدى بها منطق المادة الذي يحيطنا . وهنا انسابت الاسطورة على لسان الجدة وحسب ما اوردناها في ثنايا الدراسة .
عموما ان البطل/الحاكي يدعم فكرة ان الانسان يسهم على نحو ما فيما يحدث فهنالك فعل وتفكير وشعور ، والمشكلة التي تواجهنا في هذه الرواية هي الموائمة بين الشعور بحيوية الانسان وقدراته والاحساس ان كارثة ما قد تم تدبيرها ومن هنا تبرز اشكالية الشخصية بمستوياتها المتعددة فالبطل هنا يبحث عن وجوده عبر تماهيه مع الجرذ وحواريته معه ومن المهم ان نشعر بالعلاقة التي تربط الشخصية والظروف ومن هنا يبرز البطل داخل النص في صراعه بحثا عن وجوده/مظلوميته/تهميشه/العدالة المفقودة ؟؟؟؟
ان تلك العاطفة الجامحة في نص الدكتور لؤي تواجه في اللحظة ذاتها واقعا تعسا ووطنا يتعامل مع المواطن كلقيط ويركله كلما طالب بحقه ،لم يجد على الارض الا ثقوب في الارض وكوابيس وحروب وظلم والثقوب كان يلتجئ اليها كلما طغى طاغية عليه.
سعى دكتور لؤي عبر المقاطع في الرواية والمرتبطة مع بعضها ارتباطا وثيقا استكماليا الى التركيز على اللغة من اجل تطويع سلطويتها والحد من هيمنتها لحساب التكثيف والرمزية في سعيه للوصول الى سعة تاويلية ممتدة نراها بامتداد الرواية عبر المقاطع.
لقد تحدث الفيلسوف الامريكي ارثر دانتو في العام 1996م عن التخلي عن الجمال في “عصر السخط” وعن الحداثة التي تتسم بالتشكيك بما من شانه تهدئة الواقع السياسي او اخفائه، وهكذا في عصر الحروب والاراضي القاحلة والابادة الجماعية والترحيل الذي تحدث عنه د لؤي في روايته ، لكن الجمال في رواية “حقائق الحياة الصغيرة” يتجلى ضمن بعد آخر في الابرياء الذين يقاومون الاستبداد والطغيان وبالتالي فان الجمال لدى دكتور لؤي هنا ليس “نسبة ذهبية او حكما اخلاقيا ،بل هو اشبه بهزة عنيفة تنبهنا الى وجود العالم”(شاهدة باري، the puzzle of beauty aeon 7/5/2018