22 نوفمبر، 2024 5:41 م
Search
Close this search box.

حفاظاً على دمائنا وصوناً لكرامة الإرهاب.. نحتاج فلسطين أخرى

حفاظاً على دمائنا وصوناً لكرامة الإرهاب.. نحتاج فلسطين أخرى

هل أدرك الذين خرجوا صبيحة ذلك اليوم الأسود.. أن دماءهم ستُخضِّب الأرصفة، وتمتزج بسواد الشارع، وأن أشلاءهم ستدمغ حيطان المدارس ودوائر الخدمة.. هل كانوا شعروا باقتراب فحيح الموت يلفح وجوههم على طريقة ( الحرّ يعلم )، فكتموا رصيداً عميقاً من مودة الوداع الأخير لأحبائهم.. أولاد مدارس، وبنات، مفعمون بآمال تبدأ، ولا تنتهي. وآباء حائرون باللقمة، وربما بديون مؤجلة، وأمهات خرجن لعملهن، قبل أن يستكملنَ نشر الغسيل اليومي على حبال العذاب اليومي. معلمون ومعلمات وطلبة جامعات تناثرت دفاترهم وكتبهم البيضاء في يومهم الأسود.. هل كانوا يدركون ما ينتظرهم عند قارعة الطريق؟
        في الفلوجة قُتل متظاهر، لاشك أنه لم يكن يمشي هادئاً في شارع الغليان. ولم يكن قائماً لإداء صلاته في مسجد الإيمان، كما لم يكن يهتف بمطالبه الوطنية جداً، والمشروعة جداً بحسّ المواطن ووعيه العاليين.. قُتِل بعد تهديد ووعيد، وأخذ وجذب، وعراك وشتيمة.. وإهانة سلطة، قتل وقد خرج يطالب ويغالب ويشاغب، محقاً أو مبطلاً من سلطة مسلحة.. عزيزة دماء العراقي، وعزيز هو العراقي وافقَنا أم خالفنا. قتل المتظاهر وقامت الدنيا ولم تقعد! ودبّجت المقالات، وحفلت الفضائيات، وعُلّقت قمصان الثارات، وراحت إعلانات الانتخابات تبيع وتشتري!! والغريب أن دماءً عراقية أخرى، في الجهة الثانية، تشخب.. ومستضعفين من الولدان والنساء دموعهم تتصبب.. بصمت جليل، وسكوت مهيب، لا أحد يعلم، ولا صدى يتردد!
        ما بالنا نُذبح يومياً ككباش الأضاحي، وتمرّ أيامنا مضمخة بدمائنا.. ومع ذلك نحن الطغاة.. نحن الظلمة والمستبدون، أطفالنا تُيتّم، ونساؤنا تُرمَّل. هل ندب نادب قتلانا العابرين في الطريق دون احتجاج؟ وهل نعى ناعٍ معلقاً دماءهم على كاهلٍ لمطالبات وحقوق مهدورة، بلا ثمن؟ أم سيمرّ عليهم التاريخ، كما مرّ على أجداث من سبقهم من المقتولين المظلومين بالجملة؟ أي عهر فضائي هذا الذي تمارسه قنواتنا المحترمة حين لا تميّز بين مطالبات الجلاد المشروعة جداً ودماء الضحايا الشاخبة في الأزقة، وهي تلّقن أرواحنا المفعمة بالحزن المكبوت؟ أم هي ثقافة الصمت والسكون.. ونسق المظلومية الأبدية التي تسرّبت بين خلايانا وزوايانا وتكايانا؟ فلا نريد أن نكون ظالمين، مكتفين بكوننا مظلومين!! ولانريد أن نكون قتلةً لأننا سنثاب لاحقاً على استشهادنا مقتولين! ألم يكفنا ظلماً وتنكيلاً وقتلاً وتذبيحاً على مدى تاريخنا المرير؟
        وآه من الدماء وهي تنبجس مفعمة بالقهر، وحافلة بالاستباحة. آه من دماء ننزفها ساخطين من مصائر من يسفكها وعليهم، وعلى أولادهم ونسائهم، فقد علّمنا تاريخنا أن نبكي على أنفسنا، كما ( نبكي على قتلتنا )، وأن ندعو الله لهم بالمغفرة والصفح، ونطالب لهم من الحكومة بالعفو العام، ومن أجلهم نسمُ من جاءت به صناديق الانتخابات بالدكتاتورية والاستبداد، لأنه ( يهمّش الآخرين ) حين ينوي في أضعف إيمانه أن يلوي أصابع هؤلاء الآخرين وهي تُمَدّ في أعيننا.. وهم الآخرون أنفسهم الذين وضعوا قدماً في الركاب وأخرى في وحل الجريمة. وهم الذين وضعوا يداً على المصحف وأخرى على أزرار الحزام الناسف. وهم في النهاية ( أنفسنا ) وليسوا ( أخوتنا ) فقط، كما نزعم وندّعي على ما نشعر لا على ما يشعرون. أيّ مهزلة مأساوية تلك التي يعيشها العراقيون، ودماؤهم الظالمة تنتهك حرمة الأحزمة الناسفة؟ وأشلاؤهم المقطعة المستبدّة تُخلّ بحقوق الإرهاب؟ ويُتْم أولادهم يهمِّش حواضن بيض العنجهية الطائفية؟ وتأَيُّم نسائهم يصفع ظالماً عيون الملثَّمين؟
        لهذا ولهذا كله ينبغي أن يُعاد تهجيرنا وتشتيتنا، فلربّما نخترع فلسطين أخرى، نستوطنها، حفاظاً على دمائنا، وصوناً لكرامة الإرهاب

[email protected]

أحدث المقالات