كلنا نعرف القصة الشهيرة لحصان طروادة، وكيف قام اليونانيون بإدخاله الى المدينة، الذين أعتقد اهلها إن هذا الحصان هبة السماء إليهم، فخرج الجنود منه ليلا وفتحوا البوابات للجيش اليوناني، الذي حاصر المدينة تسع سنين، حيث أحرقت وتحولت الى قصة تروى في كتب التاريخ.
لاحقا أصبحت هذه القصة من الخطط العسكرية التي يعتمد عليها لاختراق صفوف العدو، خاصة بعد الخسائر التي منيت بها الدول الكبرى في الحرب العالمية الاولى والثانية، والخسائر البشرية والمادية الكبيرة التي تعرضت لها, وكان آخر الحروب المباشرة هو إحتلال قوات التحالف الدولي العراق، عندها وضعت البدائل لحروب غير مباشرة، كان نتيجتها أحداث الربيع العربي.
في العراق كانت التركيبة السكانية والمنظومة الاجتماعية العراقية مختلفة، فهناك الاكراد الملتزمون بانتمائهم القومي الكردي، والسنة الذين تقودهم النزعة الطائفية والقومية العروبية التي تقودها منظومة خارجية، والغالبية الشيعية المضطهدة على مر التاريخ، وتتحكم فيها عوامل مهمة هي الإلتزام القبلي والعشائري بين مكوناته، والطاعة الى المرجعية الدينية في النجف الأشرف، وتمسكه بموروثه الإسلامي من الشعائر الحسينية.
تعتبر هذه العوامل الثلاثة المحرك الأساسي للشيعة ومصدر قوتهم، وإسلوب تعاملهم الإجتماعي وتحركهم السياسي، ومنها إستمدوا ثوراتهم ووقوفهم بوجه الظلم والطغيان على مدى الحقب المتلاحقة، ولنا في انتفاضتهم ضد داعش حقيقة ماثلة مازالت رأي العين، حيث هبت الملايين تلبية لفتوى المرجع الاعلى السيد السيستاني (دام ظله)، غيروا موازين القوى في الشرق الاوسط، وأطاحوا بمخططات أرادت رسم خرائط جديدة للمنطقة.
لإضعاف هذه المنظومة الإجتماعية ( الشيعية ) المتماسكة، كان لابد من اللجوء الى حصان طروادة وضربها من داخلها، فكان التوجه أولا الى إضعاف الطابع العشائري داخل الوسط الشيعي، وإتخذ ذلك طرقا متعددة منها الترويج لمشايخ جديدة، وإغراق بعض الشيوخ بالأموال والإمتيازات، وإستغلال وسائل العولمة الحديثة لإبعاد أبناء العشائر عن عاداتهم وتقاليدهم، نتج عن ذلك ما شاهدناه من إحتراب وإقتتال عشائري في محافظات الوسط والجنوب، رافقه غض الطرف من السلطات الحاكمة في وقت كان فيه العراق يحارب داعش.
عرف المجتمع العراقي بإلتزامه الديني وتمسكه بالشعائر الحسينية، التي يستمد منها دروس البطولة وقيم الشجاعة والتضحية والايثار، ولطالما فشل كل من يحاول أن يؤثر في هذه القضية وينزعها من قلوب الأجيال المتعاقبة من خارج الوسط الشيعي، فلم يستطع المتوكل العباسي الذي كان يقطع أيدي الزوار ولا نظام صدام الذي كان يسجنهم ويعدمهممنع زيارة الحسين عليه السلام، فكانت الخطة نفسها ولكن بطريقة لطيفة بدعوى الحرية والديمقراطية، ونشر أساليب الإنحلال والميوعة في الوسط الشبابي، وإقامة حفلات الرقص الصاخبة في المدن المقدسة في كربلاء والنجف.
المحرك الأهم لهذا كله كانت المرجعية الدينية في النجف الأشرف، وصوبها تتوجه عيون الجماهير في الوسط الشيعي وتهفوا قلوبهم، ولطالما أدت المرجعية الدينية دورها في الاحداث المهمة التي كانت تواجه العراق عموما والشيعة بالأخص، فحين نذكر ثورة العشرين نذكر دور مراجع الدين فيها وتصدي السيد محسن الحكيم للأفكار المنحرفة وفتواها المعروفة ضد الشيوعية ووقوف السيد محمد باقر الصدر والسيد محمد باقر الحكيم لنظام الطاغية في العراق.
بعد سقوط النظام برزت مرجعية السيد السيستاني وتأثيرها السياسي في المجتمع العراقي، وتصديها البارز لكافة المؤامرات التي حاولت النيل منه، فطالبت بكتابة الدستور بأيدي عراقية، وتصدت للفتنة الطائفية عام 2006, وأخمدت حرب النجف بكلمة منها، ثم أعلنت فتواها المقدسة بالقتال ضد داعش بعد أن استباحت الوطن وبلغت القلوب الحناجر فتحقق النصر بكلمة منها وبدعمها.
رغم إن المؤامرة عليها تحاك خيوطها كل يوم، ولم يترك المفكرون في ذلك وسيلة إلا وطرقوها من أجل نواياهم الخبيثة، فكان السعي حثيثا لإضعاف المرجعية وتأثيرها في المشهد السياسي، عن طرق إضعاف الكيانات السياسية والشخصيات الملتزمة مع مرجعية النجف ورميهم بشبهات الفساد والفشل، وتقوية الأحزاب غير الملتزمة مع النجف بالدعم الاعلامي والسياسي، وأفشال تجربة الإسلام السياسي في العراق وإلصاقها بمرجعية النجف الأشرف، وإبراز مرجعيات دينية شيعية جديدة ودعمها بالتمويل والإعلام.
الهدف من ذلك كله هو تفتيت وحدة المجتمع العراقي بكافة طوائفه، لاسيما المكون الأبرز فيه وهو المكون الشيعي، وإضعاف مكامن قوته الثلاثة وأبرزها المرجعية الدينية في حصن النجف الأشرف، الذي تعرض لمختلف الغزوات المسلحة والفكرية، ولن يتمكن منه حصان طروادة أيضا.