في الذكرى الأولى لرحيله
يعد الشاعر” حسين عبد اللطيف” وقلة من الشعراء العراقيين، السلسلة التي تُوصل بين مرحلتي الستينات والسبعينات.بعد”على الطرقات ارقب المارة” ،و”نار القطرب” ، و”أمير من أور” ، و”متوالية هايكو” و” بابلو نيروادا- كتاب التساؤلات/ حسين عبد اللطيف- كتاب الإجابات” بالاشتراك مع المترجمة” سحر أحمد”، و”مقدمات السياب”، وقد تزامن صدوره مع وفاته، كما له مخطوطات عدة ، بعضها جاهز للطبع، تكشف عن نشاط ثقافي- أدبي متعدد ومتنوع وجاد تميز به وعرف عنه. أثار “حسين عبد اللطيف” اهتمام النقاد العراقيين والعرب ، ولسنا هنا نعمل على متابعة” السيرة الأدبية – الثقافية” لحسين عبد اللطيف، فلقد تابعناها في كتابنا “مقاربات في والسرد” – منشورات مجلة “الشرارة- النجف- 2013 ط 1- ص15- 39. سنتناول في ذكراه الأولى مجموعته الشعرية “متوالية هايكو”*. المعروف أن لا تراث يعتد به لهذا النوع من الشعر في الخارطة الشعرية العراقية والعربية حتى، ولكن توسع الترجمات عنه وعولمة الاتصالات الحديثة جعلت تلاقح الثقافات المحلية و العالمية متيسرة بسهولة لا مثيل لها سابقاً. يضع حسين عنواناً موازياً لكتابه وهو” بين آونة وأخرى يلقي علينا البرق بلقالق ميّتة”، عن المجموعة هذه يذكر حسين في المقدمة أن هذه “الومضات” أو ما يطلق عليه ثانية بـ” التوقيعات” تتشابه مع المُعجب بهم لمعجبيهم في الاوتوجرافات الخاصة، وأنها تمت خلال جلستين متعاقبتين، دون أن يحدد مكان وزمان ذلك وكيف ولماذا؟. ويؤكد اقترابها الحميم من قصيدة “الهايكو” اليابانية. المعروف بان أهم الشعراء اليابانيين، والعالمين كذلك ، كتبوا هذا النوع من الشعر ومنهم عزرا باوند، ويتيس وايمي لويل وكونراد وفروست وولاس ستيفنز واكتوفيو باز وايلوار وداج همرشولد، أمين عام الأمم المتحدة في فترة ما، وتوماس ترانسترومر، الحائز على نوبل للآداب عام 2011 ، وغيرهم. يقر( حسين
عبد اللطيف) في مقدمة (متوالية هايكو) أن هذا النمط من الشعر، الذي احتوته المجموعة، ينطلق من منظور ثقافي آخر له أعرافه وتقاليده الخاصة به، وطابع توجهه العام والشخصي، ونسقه اللغوي الخاص الذي هو اللغة العربية بكل سياقات نحوها المتحكمة بطرق المعالجة ، عند الكتابة، كما يلحقه بمجموعة من الإيضاحات (ص232 -233 ). تأسيسا على ما ذكره حسين في المقدمة نرى إن إلحاق صفة (الهايكو) بهذه المجموعة يخضع لمسألتين أراد حسين توضحيهما،بقصديةٍ، أولهما احترام القراء الذين سيربطون بين هذه المجمـــــوعة وقصــائد (الهايكو) ،وثانيهما النجاة من مآخذ ، بعض النقاد الذين لابد أنهم سيأخذون عليه أن ما جاء في هذه المجموعة صدى أو تشابه مع قصائد (الهايكو) ، وبذا فهو يقطع الطريق على سوء الظن الذي ربما سيحدث، أليس حسين هو مَنْ أورد في المقدمة خصوصية هذا النمط، عربياً، في مجموعته؟!. لذا كنت أتمنى ألا يلحقه بـ”الهايكو” بل يكتفي بما ذكره كونه”ومضات” أو ما أطلق عليه بـ”التوقيعات”، ولحسين في ما فعل اجتهاده وهو حر فيه ، ولا يقلل ما تمنيته من قيمة هذه المجموعة مهما اتخذت من أسماء.(( في هذا النمط من الكتابة يتعيّن على أي شاعر أن يستحضر كلّ أعماله الشعريّة السابقة ويستخلص الفهم الدقيق لقراءاته قبل الشروع في كتابة ما يحاكيها. كتابة قصيدة (الهايكو) وفقاً لما نتصوره من تطبيق لجميع شروطها (معاييرها) هي عملية مواجهة Confront على أن هناك رسائل في قصيدة (الهايكو) خاصة بالمتلقي هي التي تشكل البنية الحقيقية للقصيدة. الابتعاد عن هذه المعايير تعني فض المواجهة (التحدي) بين ما نكتب – نحن العرب- وبين ما يكتبه اليابانيون، وغيرهم أيضاً ))- صحيفة “الصباح الجديد- الأستاذ المترجم نجاح عباس رحيم”. يبتعد الشاعر حسين في متوالياته أو توقيعاته جميعها عن الذهنية التي تمكنت من بعض قصائده في شبابه الشعري.ويُعطي في مجموعته هذه حيزاً واسعا للحسيّة ويبدو مفتوناً ومتماهياً معها عندما يخص صغار ما تنتجه الطبيعة من حيوات مهتماً بها أشد الاهتمام:
“كل ليلة على مدى الخريف
احضر الحفل الموسيقي
الذي تقيمه.. الجعلان”
*
“هلا سمحتِ لي بإطفاء السراج
فراشتي العزيزة
أريد أن اخلد إلى النوم”
*
“آه يالمشط( الواوي)
من مشط
يرجَل به
ريش الدجاج”
*
“بعد الأقحوان
لا خزامى
ولا رند
ولا أرجوان.”
*
ثمة الكثير من الاهتمام بالطبيعة الجنوبية، العراقية ، و تحتشد بأسماء بعض الأماكن وسماتها و تلك الحيوات الهشة الموسمية في دأبها الدائم على مواصلة الحياة على رغم معوقات الطبيعة ذاتها ، ومنها الوقوق: طائر الليل عذب الغناء، واليعسوب: ما يسمى ،محلياً، بالبازنينو أو لمبة الليل وطيور الاتو البحرية وصراعها الدائم للحفاظ على صغارها من الصيادين، والقطرب وهي حشرة من مغمدات الأجنحة تضيء ليلاً والفزان طائر اكبر من الحمامة ويسمى ديك الجبل والصعوة طائر اصغر من العصفور لا يكف عن الزقزقة والبلابل التي يدس لها الفلفل الحار في الطعام فتؤدي حسناً ويلتهب بالتغريد. لم يراعِ أو يعمل حسين عبد اللطيف على التسلسل المنطقي في ترتيب موضوعات “متواليته” على وفق موضوعاتها فهو إذ يتحدث عن الأشجار والخريف والشتاء ، وفزاعات الطيور، المصنعة للذود عما هو مزروع بشرياً، والحيوانات الهشة
الموسمية ودأبها في موسم الربيع على التفتح وسعيها للحياة ويتواصل معها منذ البداية لغاية الصفحة (39) ثم يتحول عنها إلى ( أناه):
“قطع عليّ طريق خراسان
ولم يدعني
أبلغ الري !”
*
” يوم كل الأرواح
أشعل شمعة
واحتفل
بموتي!”
*
“بسعالي الديكي
أقلد صياح الديك
وانجح”
*
“بميل طفيف
في زاوية النظر
أراني الجبل
قمعاً مقلوباً”
*
“رجوتك أيها اللقلق
أن تبني عشك
في بنايات حروفي
العالية.”
*
“أرد يدي
إلى جيبي
فلا احد،لأودعه.”
وكان من المنطقي والضروري أن تأتي “المتواليات” أو “التوقيعات” منسقة حسب موضوعاتها وأجوائها لا أن تكون مبعثرة هنا وهناك.
*
في بعض (المتواليات والتوقيعات) يعمد حسين لكسر، ومعاكسة أفق التوقع لدى المتلقي:
“فرس النبي
الفرس الوحيدة
التي بلا سرج
ولا لجام”
هنا يذهب الذهن إلى الكامن في الذاكرة الشخصية و الجمعية ، والمقدس بالذات ، متجهاً نحو (البراق) فرس النبي “محمد”(ص ) التي أسرى عبرها إلى بيت المقدس، والسموات السبع،حسب المتواتر الديني، لكن في الهوامش نكتشف أن المقصود بـ”فرس النبي” هي المعروفة شعبياً في الجنوب العراقي بـ(اللّبية) وهي حشرة خضراء تشبه الجرادة، طويلة الجسم والساقين عيناها واسعتان ولها أجنحة شفافة وجسد رقيق تتلاعب به الرياح كيفما تشاء.
*
ثمة الكثير من “المتواليات” التي يرى (حسين عبد اللطيف) ويحدق فيها بعيونه، ولعل غيره لا يرى فيها ما يراه:
“بائع الفرارات
يدور في الأزقة والأحياء
وفراراته تدور في الهواء”.
*
” الخادم
بعد أن نظفت المنزل
طوت المقشة كالجناح
ووضعتها تحت أبطها لتستريح”.
*
“السهام
بلا طابع بريد
و……….تصل”.
*
” قال السهروردي القتيل
كيف تقيمون للصلاة من يوم الجمعة؟
قالوا: بالتجارة مع الرب!.”
*
“لأن الجريمة
تثقله تقوس ظهر الخنجر
وانحنى”.
*
أحياناً نحاول السعي للوصول نحو درجة مقبولة، لابد منها، في تعاملنا مع الحياة وما يحصل فيها خلال أمرّ أوقاتها وأكثرها شدةً و ألماً شخصياً، وهو ما سعى حسين عبد اللطيف نحوه ، في بعض متواليالته أو توقيعاته التي يستعيد فيها بحزن ولوعة ومرارة فاجعته في ولده البكر(حازم) الذي توقفَ عن الحياة ، وانطفأ عند توهج ربيعه:
“( نعَيج الماء) يطير
ظلك ذا…… ينحسر
لن تجدني بعد الآن أفيء إلى شجرة!.”
*
“في هذا العالم ما اشد ما اتالم
فاحمله بقاربك بحنو ولطف
اورشنابي”.
*
“في الدنيا، أدمته الأشواك
احمل عزيزي على كتفكِ
بلطفٍ ييتسوjizo”.
*
اورشنابي في ملحمة كلكامش الرافدينية نظير ييتسو(jizo ) المرافق للموتى في المعتقدات اليابانية. حسين عبد اللطيف في (متوالياته) أو كما ذكر (توقيعاته) ، يخاطب الأشياء بحنو في واقع صلد و قاس، ونتلامس ،ونتواجه، فيه مع اللامتوقع، كاشفاً عن ذاته بانكسارِ مهزومٍ، لا يقر
بهزيمته أو يستسلم لها، مع أنه عاش تجارب حياتية خذلته كثيراً وتركت على روحه وجسده ندوباً لا تُمحى، لكنه بدأبه وتواصله مع العالم ومواجهته لما عاناه وكابده، وعبر الشعر بالذات ، وبالترافق مع تقدمه في السنوات، وتعزّزْ مكانته كشاعر مثابر اتسعت رؤاه وتمكن من أدواته ، ولم يتجاهل وصية ” لوتشي”، الشاعر الصيني والقائد العسكري الذي حكم عليه بالموت عام 303 ق.م ، بعد معركة خسرها، وأشاع للجميع تلك الوصية (ارشيبالد ماكليش) :” إن فنّ الشاعر طريق للمعنى.. طريق تجعل العالم يعني شيئاً”.
*
في الساعة الثانية قبل ظهر يوم الخميس الموافق العاشر من تموز-2014 اقتاد طائر الموت “حسين عبد اللطيف” ، بعيداً عن واقعنا الراهن، ولحظاته الساخنة – المريرة؟!.بعد طقوس التغسيل وصلاة الموتى ، شيعناه مشياً على أكتافنا ، ومنها على سطح سيارة ، سوداء؟!. في الساعة الرابعة والنصف عصراً ، كان “حسين عبد اللطيف” منقولاً نحو مقبرة نائية، “جـثـة” في تابوت خشبي اسود كذلك ؟!.
*وزارة الثقافة- بغداد- 2012 – ط1 – دمشق. الغلاف للفنان والناقد التشكيلي: خالد خضير الصالحي