23 ديسمبر، 2024 7:45 ص

ثمة نموذجان جديران بالدراسة ظهرا في حقبة الانبعاث العربي، أحدهما متطرف والآخر معتدل. عملا من أجل هدف واحد، وناضلا ضد خصم واحد. كل ما في الأمر أن الأول أراد قلب الأوضاع، في ما حاول الثاني إصلاح الخلل. وليس في الحالين ما يوجب النزاع، كما حدث على أرض الواقع.
الأول عمل بدأب للخروج من مفهوم الدولة الدينية، أو دولة الخلافة، متأثراً بأفكار الثورة الفرنسية. أما الثاني فقد وجد أن هذه الدولة هي المؤهلة مع بعض التطوير لتتحول إلى كيان قوي يحفظ أتباعها من الأذى. وكان على رأس الفريق الأول رزق الله حسون، أما الثاني فأحمد فارس الشدياق.
كان حسون أعلى النهضويين صوتاً، وأحذقهم صنعة. وإلى جانبه اصطف أشخاص عديدون من طراز فرنسيس المراش، وبطرس البستاني، وناصيف اليازجي وابنه ابراهيم. أما الشدياق فكان عالماً باللغة مجدداً فيها، ضليعاً بالأدب محلقاً فيه، فتوغل في مجالات عديدة، لكنه صال وجال دون معين. مع أن التيار الذي ركبه ضم إصلاحيين كثراً من طراز جمال الدين الأفغاني وتلامذته المنتشرين في البلاد!
حسون والشدياق عاشا في نفس الحقبة الزمنية، إلا أن الثاني ولد قبل صاحبه بعقدين من الزمن، ومات بعده بسبع سنين. فقد أبصر النور عام 1825 من أسرة أرمنية حلبية. ودرس مثل أقرانه اللاهوت واللغات المحلية والأجنبية. فمكنه ذلك من العيش في بلدان عديدة مثل الأستانة وأرمينيا وروسيا، قبل أن يتوفاه الله في لندن عام 1880.
في بداياته اصطف حسون هذا إلى جانب الأمير بشير الشهابي الثاني حاكم لبنان القوي في نزاعه مع الدولة العثمانية، في حين وقف الشدياق ضده. وحينما احتل ابراهيم باشا بن محمد علي حاكم مصر بلاد الشام، مال الشهابي إليه. لكن الأيام قلبت ظهر المجن لابراهيم، فعوقب الأمير بشير بالنفي إلى مالطا، ثم الاستانة التي فارق فيها الحياة عام 1850.
ولم تتردد هذه الدولة في إلغاء استقلال إمارة لبنان (جبل لبنان، البقاع، جبل إميل) عام 1842 وإعادتها إلى الحكم العثماني المباشر. فكان ذلك من جملة الأسباب التي أدت إلى الحرب الأهلية اللبنانية. وحملت رزق الله حسون على ازدراء الأتراك، واستهجان سياستهم، والتشهير بهم على الملأ.
ورغم هذا فإن حسوناً أقام في الأستانة وأنشأ فيها جريدة أسبوعية أسماها (مرآة الأحوال) عام 1855 وصفت بأنها أول جريدة عربية غير رسمية في العالم، صور فيها تطورات حرب القرم بين تركيا وروسيا بطريقة مريبة. وكان أن تركت لدى القراء انطباعاً أن تركيا تحاول عقد هدنة منفصلة مع روسيا بمعزل عن حلفائها الإنكليز والفرنسيين. ولم تخل مقالاته من الغمز في قناة الأتراك، مما أثار عليه الحنق في بعض الأوساط الحكومية.
وكان نزاع حسون المرير مع أحمد فارس الشدياق، سبباً آخر من أسباب سوء علاقته بالأتراك. فالشدياق هو أحد مناصريهم الأقوياء. وقد وقع كراس صغير وضعه حسون عام 1859 ووزعه سراً على الطوائف المسيحية باسم (حسر اللثام عن الإسلام) في يد الشدياق. فقام الأخير بإيصاله للسلطات التركية التي أمرت بالقبض عليه وإيداعه السجن. وقد وضع حسون هذا الكراس المفقود الذي يعرض بالعقيدة الإسلامية، في غمرة الحرب الأهلية اللبنانية، قبل انتهائها عام 1860 بعزل الأمير بشير وإسناد السلطة إلى عمر باشا النمساوي.
ولسبب غير معروف أفرجت السلطات التركية عن حسون فذهب إلى أرمينيا ومنها إلى روسيا. وهناك أطلق العنان لقلمه في الهجوم على تركيا والشدياق. ثم انتقل إلى لندن عام 1868، ليصدر فيها بعض الصحف العربية المكرسة للتشهير بالشدياق ومشروعه في الجامعة الإسلامية. ومنها صحيفة باسم (رجوم وغساق إلى فارس الشدياق) لم يصدر منها سوى عددين. وواصل مهمته في (إيقاظ الوعي القومي عند العرب) والهجوم على فكرة الجامعة الإسلامية التي تحمس لها الشدياق ومن بعده الأفغاني وسواهما من الإصلاحيين!
وكان آخر ما وضعه كتاب “النفثات” عرض فيه مجدداً بخصمه الشدياق ومشروعه الفكري، ولكنه لم يخل من استعطاف السلطان عبد العزيز، ومديحه شعراً، أملاً في إصدار عفو عنه. ولدى البعض، ومنهم المستشرق الروسي كراتشكوفسكي أن حسوناً كان “واحداً من أعظم رواد النهضة الأدبية العربية في القرن التاسع عشر”!

وعلى الطرف الآخر كان الشدياق يقود حملة ضارية للالتفاف حول مفهوم الجامعة الإسلامية، ولا يوفر خصومه من النقد الجارح، مدعوماً في ذلك من السلطنة العثمانية. ومما أعان الشدياق في حملته هذه أنه كان يمتلك خبرة واسعة في علم الاجتماع السياسي اكتسبها خلال تجواله في البلاد الغربية. وكانت رؤيته تقوم على أن الوحدة الإسلامية هي النموذج الأمثل للنظام السياسي في المنطقة، وأن الولاء للإسلام يجب أن يسمو فيها على الولاء للجنس أو القومية أو الوطنية أو الطبقة.
وقد يعجب المرء لتبني هذا المشروع من شخص تحول حديثاً للإسلام. بيد أن هذا العجب قد يزول حينما يلاحظ كثرة التحولات الدينية والمذهبية خلال هذا العصر، ووجود بعثات تبشيرية غربية مختلفة. ولا يعني هذا أن رجال الدين المتشددين ألقوا أسلحتهم واستكانوا للأمر الواقع. فالشدياق تحول هو وأسرته للبروتستانتية بادئ الأمر، وعانى من جراء ذلك الكثير. فقضى أخوه شهيداً على يد البطريرك الماروني يوسف حبيش. واضطر والده للهجرة إلى دمشق والعيش هناك حتى لاقى وجه ربه حزيناً كسيراً. أما هو فقد أرسله المبشرون الإنجيليون إلى مالطا للنجاة بنفسه. ولكنه توقف في الاسكندرية برهة ليعمل في تحرير القسم العربي في جريدة الوقائع المصرية عام 1826 ولما يتجاوز عمره العشرين إلا قليلاً. وهناك تزوج من فتاة كاثوليكية. لكنه أجبر على الذهاب إلى مالطا لإدارة مطبعتها ، فشد الرحال إلى هذه الجزيرة واتخذ منها مقراً لسنوات طويلة. وفيها استطاع تعريب كتاب “الصلوات العامة للكنيسة الأيرلندية مع مزامير داود” ووضع قاموساً عن المترادفات العربية أسماه “اللفيف في كل معنى طريف”. كما دون رحلته هذه في كتاب أسماه “الواسطة في أخبار مالطة”.
ويبدو أن ترجمته للكتب الدينية لفتت إليه أنظار جامعة كمبردج فدعته للإشراف على ترجمة الكتاب المقدس للعربية عام 1848 مع كتاب آخر هو “الاختيارات من كتاب الصلوات العامة”. فعمل بدأب لسنوات حتى أنجز الترجمة. وانتقل للعيش في فرنسا. وفي إحدى المرات التقى أحمد باشا “باي تونس”، وأعجب بكرمه الذي أغدقه على مجموعة من الفقراء والمشردين في باريس، فامتدحه بقصيدة. فما كان من الأخير إلا أن دعاه عام 1857 إلى الخدمة في بلاده. وأجزل له العطاء تكريماً لمنزلته العلمية الرفيعة. وهناك ترك الشدياق النصرانية واعتنق الإسلام!
ثمة الكثير من الأقوال التي ترددت حول دوافع اعتناق فارس الشدياق للإسلام، منها حادثة مقتل أخيه على يد رجال الدين الموارنة. أو بسبب قلقه الدائم، أو مناظراته مع رجال دين مسلمين. وأياً كان السبب فلاشك أن الشدياق أخلص لعقيدته الجديدة، وجعل من جريدته “الجوائب” التي أصدرها في الأستانة منبراً شبه رسمي للخلافة العثمانية. وعلى صفحاتها قارع خصومه الكثيرين المؤمنين بالعلمانية. وكانت هذه الجريدة تطبع في المطبعة السلطانية مجاناً. حتى قال عنها المستشرق كريمسكي “الجوائب صحيفة ذات نزعة أوربية لكنها مكرسة كلياً للإسلام والسلطان”.
ولم يكن الشدياق يطيق رؤية أي كاتب أو مفكر ينافسه في السمعة أو المركز الاجتماعي، فأطلق لسانه في ذم مشاهير عصره مثل ناصيف اليازجي وابنه ابراهيم وبطرس البستاني وأديب اسحق ورشيد الدحداح، فضلاً عن خصمه اللدود رزق الله حسون.
ولكن الحقيقة أن الشدياق كان أديباً بارعاً، لعب دوراً بارزاً في تطوير الأدب السياسي – الاجتماعي العربي، كما كان متفرداً في نثره المبكر ومقاماته. وكان زعيم المجددين في اللغة، حتى قال عنه جرجي زيدان أنه “ركن من أركان النهضة العلمية الحديثة”. وقد وضع عدداً كبيراً من المصطلحات الجديدة مثل الاشتراكية والباخرة والجامعة والمستشفى والصيدلية والجريدة والانتخاب ومجلس الشورى وغيرها من الألفاظ الشائعة الآن.
ورغم مواقفه في دعم فكرة الخلافة الإسلامية إلا أنه دأب على انتقاد عمليات التجهيل الديني، وسلطة رجال الدين. ودعا إلى كف أيديهم عن الحكم. وكان مدافعاً عن حرية المرأة، قبل أي داعية عربي آخر.
ومن الغريب أن ابن خال أحمد الشدياق واسمه بولس مسعد أصبح في ما بعد بطريركاً للكنيسة المارونية. وقد قام الخال بزيارته في الأستانة عام 1867 وأبلغه عن عدم رضاه عن سلفه يوسف حبيش الذي تسبب في وفاة أخيه أسعد الشدياق في السجن. ولم يخف الشدياق تقديره لهذه الخطوة، فعدها البعض دليلاً على عودة الشدياق إلى المارونية!
حينما وافاه الأجل عام 1887 في الأستانة أمر السلطان أن يدفن في مقبرة السلطان محمود إلا أن ابنه سليم التمس منه إرسال الجثمان إلى لبنان ليدفن حسب وصيته في الحازمية في مقبرة متصرفي لبنان المسيحيين، فأذن له بذلك. وفسرت هذه الوصية بارتداده عن الإسلام. وما أن وصل إلى بيروت حتى تنازعت الطوائف عائدية جنازته. إلا أن الاتفاق جرى على إقامة الصلاة عليه في الجامع العمري الكبير، بحضور رجال دين مسيحيين. وحينما دفن في المقبرة وضع على قبره الهلال تنويهاً بانتمائه الديني!
ولو لم يكن الشدياق شخصاً مهماً ومؤثراً، لما أصر هؤلاء على ادعاء نسبته إليهم. ولما تجرأ أحد من الذين ناصبوه العداء في حياته على الإقرار بفضله ومكانته بعد وفاته. وأياً كان الأمر فإن الرجل كان أحد الذين أضاءوا بعلمهم الغزير، ومواهبهم العظيمة، دياجير الظلمة في ذلك العهد الموغل في التخلف والجهل والأمية.