18 ديسمبر، 2024 7:38 م

حسن الجوار يعمر الديار

حسن الجوار يعمر الديار

ليس الموت اعدام كما هو متصور لدى العامة من الناس، واذا قلنا كذلك ما هو المقصود من الاعدام هل هو اعدام الروح؟! ومن المعلوم ان الروح أمر مجرد لا معنى لإعدام الأمر المجرد، أما البدن فان حقيقة الانسان ليس في بدنه، بل حقيقته في روحه ونفسه، والشاهد على ذلك ما اثبته العلماء من ان خلايا الانسان تتبدل وتتغير بمرور الزمن، ففي طول عمر الانسان فان خلاياه تتبدل عدة مرات، بيد ان الوحدة الشخصية تبقى محفوظة بالروح لا بالبدن للتغير الطارئ عليه كما أسلفنا، لهذا قالوا ان شخصية الانسان محفوظة بروحه لا ببدنه الخارجي، ومن بين الأمور التي تضفي على صاحبها نسك الاحسان والصبر والتوفيق والذكر الطيب، المعاملة الحسنة للناس وهي التي تضفي على روح حاملها تلك الشفافية التي تستوعب الجميع ولا سيما الذين في تماس مباشر معه في معظم أوقات حياته، الا وهم الجيران وما أدراك ما الجيران.
حقوق الجيران كثيرة لا يمكن اقتصارها في الاحترام والود الظاهري دون سبر العلاقات بينهم في أدق تفاصيلها من قبيل مساعدة المحتاج وتحمل الأذى وعودة المرضى وحضور المناسبات وإسداء المعروف بكل أنواعه لمستحقيه، فمن عمل ذلك فإنه قام بتعمير داره وزيادة رزقه وعكسه بمثابة الهلاك والضياع وسلب موجبات التوفيق.
قرن القرآن الكريم عبادة الله تعالى والإحسان إلى الوالدين والأرحام بالإحسان إلى الجار كما في قوله تعالى: ( واعبدُوا اللهَ ولا تُشرِكُوا بهِ شَيئاً وبالوالِدَينِ إحساناً وبذي القُربى واليتَامى والمَساكينِ والجارِ ذي القُربى والجارِ الجُنُبِ والصّاحبِ بالجَنبِ). (سورة النساء: 4 | 36).
فقد رسم القرآن الكريم منهجاً موضوعياً في العلاقات الاجتماعية يجمعه الإحسان إلى أفراد المجتمع وخصوصاً المرتبطين برابطة الجوار، وحق الجوار لا ينظر فيه إلى الانتماء العقائدي والمذهبي، بل هو شامل لمطلق الإنسان مسلماً كان أم غير مسلم، قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): « الجيران ثلاثة: فمنهم من له ثلاثة حقوق: حق الجوار، وحق الإسلام، وحق القرابة، ومنهم من له حقّان: حق الإسلام، وحق الجوار، ومنهم من له حق واحد: الكافر له حق الجوار » (جامع السعادات | النراقي 2 : 267).
أوصى رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وأهل بيته بمراعاة حق الجوار، والسعي إلى تحقيقه في الواقع، وركز على ذلك باعتباره من وصايا الله تعالى له، قال (صلى الله عليه واله وسلم): « مازال جبرئيل (عليه السلام) يوصيني بالجار حتى ظننت أنّه سيورثه» ( بحار الأنوار 74 : 94).
وحسن الجوار ليس كف الأذى فحسب، وإنّما هو الصبر على الأذى من أجل إدامة العلاقات، وعدم حدوث القطيعة، قال الإمام موسى الكاظم (عليه السلام): « ليس حسن الجوار كف الأذى، ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى » (تحف العقول: 306).
ودعا (صلى الله عليه واله وسلم) إلى تفقد أحوال الجيران وتفقّد حاجاتهم، فقال: « ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع » (جامع السعادات 2 : 268).
وحثّ الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) على حسن الجوار لما فيه من تأثيرات إيجابية واقعية تعود بالنفع على المحسن لجاره، فقال: « حسن الجوار يعمّر الديار، ويزيد في الأعمار » (الكافي 2 : 667).
والاعتداء على الجار موجب للحرمان من الجنة، كما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) أنّه قال: « من كان مؤذياً لجاره من غير حقّ، حرمه الله ريح الجنة، ومأواه النار، ألا وإن الله عزَّ وجلَّ يسأل الرجل عن حق جاره، ومن ضيّع حق جاره فليس منّا » (بحار الانوار 76 : 362).
ما أحلى ديننا وهو يوصي بالقربى والجيران وبقية أفراد المجتمع بالمعاملة معهم بالمعروف والحسنى بطريقة الأولوية والتدريج، وهي أنجع الطرق التي تجعل من المجتمع الإسلامي مجتمعا متكاملا متماسكا يسعى لتحقيق السعادة ليس بين أفراده فحسب بل تعم المجتمعات برمتها، حيث إنه يوصي بالجار بغض النظر عن انتمائه الفكري والعقائدي، وهو قمة في التعاطي الإنساني لا نجد له مثيلا في القوانين الوضعية، ولكن بشرط تحمل المسؤولية من قبل المسلمين لتقديم ذلك النموذج الأنصع في العلاقات الاجتماعية.