22 ديسمبر، 2024 7:09 م

حسقيل ايحسقلها .. او زيباري ايزبرها

حسقيل ايحسقلها .. او زيباري ايزبرها

في عالمنا العربي عموما والعراق خصوصا ورغم اننا ننتمي الى منظومة قيم وعقائد دينية والتزامات اجتماعية وثوابت اخلاقية  بحسب ما ورد على لسان الداعين الى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر  كذبا ونفاقا.. الا اننا للاسف لم نستطع  انتهاج حركة  ذات نزعة ايثارية في واقع الحياة وخضعت اغلب اعمالنا الى نهج قائم على اساس الاطر الشكلية فيما بقي السمو بالاعمال الى افضل مرتبة بعيدا عن حركتنا .. 
فلو امعنا النظر لما تعيشه الدول الناجحة او مايطلق عليها الدول المتقدمة  بحسب تعابير المثقفين او الدول الكافرة  بحسب مصطلحات  المطالبين بالبر والتقوى  نجد ان اسباب تقدم هذه الدول وخلوها من الفساد المالي والاداري لم يكن نتيجة تكثيف عمليات مراقبة اللجان البرلمانية او الجهات الحكومية ولا جهات النزاهة او الرقابة المالية رغم اهميتها بل ان السبب الحقيقي ناتج من طبيعة التركيبة الاجتماعية لشعوبها التي ترتكز اساسا على مبدأ ” الاخلاص” في العمل .. ولنكن اكثر صراحة  ونقول ان مبدأ ” الاخلاص ” في العمل قد فقد بريقة في العراق واصبح هذا المبدأ من مخلفات الماضي  لا بل اصبح من النادر ان نجد من يفكر بالمصلحة العامة  ويتحرك بنقاء بالمشاركة مع الاخرين لتحقيق تغيير حقيقي اساسه الاخلاص في العمل .. اما عدم الاخلاص في العمل  فهو الاستئثار بالمكتسبات واقصاء الاخرين  من ذوي الكفاءة وسيطرة نزعة التسلط من خلال بروز النزعات الانانية .. وثمة من يعترض على ما ورد  ويقول ان  ما ورد لغط وثرثرة فارغة لاتستند  الى الواقع  ..  وبدورنا نقول لو استعرضنا  قائمة السراق  من الذين تولوا  مسؤوليات حكومية  بعد التغيير الذي حصل في عام 2003 نجد ان اغلبهم ينتمون الى احزاب وحركات دينية  المفروض فيهم ان يكونوا قدوة  ومثار فخر لاحزابهم وكتلهم لكننا مع الاسف نجد ان  اغلبهم من المنتمين لهذه الاحزاب والكتل ولا نود استعراض الاسماء فهي كثر والحمد لله .قد تخطو حاجز الصوت وبدأوا ينطلقون الى مديات الزهو  والفخر بما كسبوه من اموال السحت الحرام .

 ولو انتقلنا الى الجانب الاخر من المسؤولين  البعيدين عن التوجهات الدينية  او تنظيماتها نجد  عدد كبير منهم  كان عمله مثار فخر كونه اتبع مبدأ الاخلاص في العمل .. ولا نريد ذكر الاسماء  لكي لانقع في خانة المحسوبين على  فئة  عليها مؤشرات  سياسية او تهم  بالعمالة او الخيانة  وغيرها من الاتهامات  التي باتت سلاح الفاشلين لكننا  سنتجاوز هذه الاشكالات  ونعود ادراجنا  الى الوراء في زمن لايشبه زمننا  لننتقل الى سيرة  وزير المالية العراقي ساسون حسقيل  اليهودي الديانة الذي كان مثار اعجاب كل من عاصره  لتميزه  واخلاصه في العمل رغم انه لاينتمي الى ديانتنا  تولى مسؤولية وزارة المالية في العهد الملكي خمس مرات منذ اوائل تاسيس المملكة العراقية حتى صار محل تندر للعراقيين من شدة حرصه على الخزانة العراقية وعدم صرفها في امور التبذير التي لاتخدم الاقتصاد العراقي ومن الكلمات التي كان العراقيون يطلقونها على الاشخاص الذين يحسبون حساب دقيق في عمليات الصرف قولهم ” شنو يعني اتريد اتحسقلها ” تشبها بوزير المالية اليهودي ساسون حسقيل .. وقد برز حسقيل في ظروف كان فيها العراق المعاصر لايمتلك خبرة في الشؤون المالية أو تنظيم حسابات الدولة وميزانيتها نتيجة التخلف الذي الحقته  الإمبراطورية العثمانية  بمختلف مفاصل الحياة ومنها المالية حيث كان يدير أحواله المالية موظفون أتراك من اسطنبول ..وقد  اشتهر ساسون حسقيل  بتشدده في محاسبة الموظفين والمسؤولين  بل وحتى الملك فيصل الأول والحكومة البريطانية. لا يترك لهم ثغرة يسيئون فيها لمالية البلاد. ومن هنا راح الجمهور يقول ويردد كلمة «يحسقلها»، أي يتشدد في محاسبتها.. اي كان حرصه على المال العام اكثر من حرصه على ما يمتلكه من مال  وهذا الحرص الوطني لم يأتِ ضمن منظومة القيًم الدينية بل جاء ضمن مبدأ الاخلاص في العمل الذي بات في زمننا  مبدأ  لاوجود له  بعد ان تكاثرت الحيتان  وكبر حجمها وازدادت كروشها  حتى تكاد تنفجر..  ومن الحكايات الطريفة التي تروى عن الوزير اليهودي حسقيل حيث يقال انه لاحظ أن البلاط الملكي حاول تغطية العجز في ميزانيته بنقل مبالغ من فصل معين من الميزانية العامة إلى واردات البلاط. انتبه إلى ذلك حسقيل فأصدر أمره بمنع هذا النقل بما أثار الملك فيصل والبلاط الملكي ولكن ساسون حسقيل أصر على رأيه ومنع هذا التحويل الذي اعتبره مخالفا للقانون ومصلحة الدولة..ومن افضال ساسون حسقيل على العراق انه  قام بخطوات بارعة في تحسين الوضع المالي للبلاد. . 
وليس مثلما يحصل حاليا من عمليات نهب لثروات البلاد  .. ولم يتوقف دور حسقيل فقط في تنظيم المالية وإنما عمل بجد ونشاط في تشجيع الإنتاج الوطني ولا سيما في قطاع الزراعة وتصدير المنتجات الزراعية العراقية للخارج لكسب شيء من العملة الأجنبية كما ركز على تنظيم الضرائب وحسّن طرق استحصالها بما يضمن للدولة ما تحتاجه من واردات. وفي ضوء ذلك اضطرت الحكومة إلى فرض ضريبة على كل من يعبر الجسر  وهو اجراء اتخذته الحكومة لتحسين وارداتها في وقت كان العراق يمر بضائقة مالية خطيرة .. هكذا كان اسلافنا  بغض النظر عن دياناتهم يتصرفون للحفاظ على  الاموال العامة  فهل يتعظ ممن يدعون العفة  والنزاهة  والامر بالمعروف والنهي عن المنكر  لتحقيق  ولو بقدر  ماعجز الاخرون من تحقيقه  ممن يوصفون باعداء الدين ..  اكاد اشك في ذلك  لان تركيبتهم لا ترتكز على مبدأ الاخلاص في العمل