22 ديسمبر، 2024 11:55 م

حساب العمر ورصيد الحياة

حساب العمر ورصيد الحياة

درجت العادة ، أن تقترن نهاية كل عام وبداية جديد أخر بالتمنيات ، وتكاد تتعطل في تلك المحطة كل الكلمات إلا ( كلمة ) واحدة تكون ( سيدة الكلمات) في ذلك اليوم ، تلك هي ( التمني ) وغالبا ما تكون ( الأمل ) باطالة العمر ، دون أن يعي الانسان أن مرور عام ، وحلول أخر يعني أن شطرا من هذا العمر قد إنتهى ، وذهب دون رجعة ، وجعله يقترب شيئا فشيئا من نهايته المقررة.. وتلك سنة الحياة ، ويمكن أن تتلخص في قول مأثور ( إذا ذهب يومك ذهب بعضك ) …
فلماذا ينسى الانسان هذه الحقيقة ، ويركض وراء وهم ( الخلود ) الكاذب ، لكنه ما أن يحسب سني عمره ، حتى يصطدم مرغما بمسلمة الموت والفناء ، وهو قدره الذي لا مفر منه ، مهما حاول ، ويسرق منه توالي السنوات عمره في غفلة ، كما سرقت الحية عشبة الخلود من جده كلكامش ، التي لم يعثر عليها الا بعد رحلة مضنية طاف بها الافاق ، ووصل بها الى قاع البحر ، لكنها ضاعت في النهاية …
لكن يبقى للحياة معناها ومبرر وجودها ..
وعلى عكس من يرى من الفلاسفة أنه ( لا معنى للحياة ) ما دامت تنتهي بطريق مسدودة هو الموت ، تجعل هذه النهاية الحتمية للحياة معنى ، وللعمر قيمة ، وللوجود هدف.. وتلك الحكمة في الخلق …
وهذه الحقيقة تجعل العمر لا يقاس بالزمن ، بل ( بالمنجز) الذي يحققه الانسان .. فكم مليارات من البشر مروا على هذه الارض ورحلوا ، ومعمرون عبروا على هذا الطريق ، دون أن يشعر بوقع خطاهم أحد ، أو يتذكرهم حتى أقرب الناس اليهم ، لانهم لم يتركوا اثرا فيه ، بينما رحل أخرون ، و تركوا علامات مميزة في الحياة ، وأصبحوا من المشاهير، واكتسبوا مكانة عالمية ، على الرغم من أنهم عاشوا سنوات قصيرة وماتوا صغارا ، وهم في سن الشباب ، وستبقى اسماؤهم حية ما دامت الارض تدور ..
فمن منا لا يعرف الشاعر طرفة ابن العبد مثلا ، أولم يقرأ معلقته التي كانت تعد الثانية من بين سبع قصائد ، و من أفضل ما كتب من الشعر في ذلك العصر ، لكنه تجاوز عصره بها ، ولا تزال الى اليوم تدرس في المدارس والجامعات ..
فهذا الشاعر الكبير ، الذي عده النقاد من شعراء الطبقة الاولى مات عن عمر 26 عاما .. أي في عمر الشباب ، لكن كم من الشيوخ في زمانه والى اليوم ذهبوا، ولم يتركوا أثرا يخلدهم ، وكأنهم لم يمروا من هناك ، وتحولت أجسادهم لتكون جزءا من ذلك التراب الذي دفنت فيه ..
ومن منا لم يحفظ ، أو لم تردد شفتاه يوما قول الشاعر الكبير أبو تمام :
السيف اصدق انباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب …
فهذا الشاعر الكبير وهو من شعراء العصر العباسي مات ، ولم يتجاوزعمره الاربعين ، لكن بقيت مؤلفاته وديوانه حية تحكي قصة إبداعه ، وجعلت اسمه خالدا على مر العصور والازمان ..
وقس عليهما الكثير الكثير من الشعراء والادباء والعلماء والفلاسفة والاطباء والرياضيين والصحفيين والاعلاميين والفنانين ، وكل صنوف الابداع العلمي والثقافي والمعرفي على مر العصور والازمان ، وامتداد المعمورة ، ممن رحلوا في أعمار الشباب ، أو الشيوخ ، لكنهم تركوا وراءهم إرثا خلدهم ، لم يمحه غياب اجسادهم ، وتتردد اسماؤهم على الشفاه ، وفي المحافل والمنتديات والكتب في كل مكان وحين ..
وهذا يعني ببساطة .. أنه اذا كان ( وجودنا ( هبة إلهية ) ، لكن معنى وجودنا هو إرادة انسانية ) كما يقول احد الكتاب..
وهذه الارادة تترجم بالعمل ، ولا تقاس بالزمن ، وهي التي تجعل للحياة معنى ، وللعمر قيمته …
فالعمل المنجز بتميز هو المعيار الحقيقي الذي نقيس به العمر ، وليس بالسنين … وفيه تتجلى حكمة الخالق عز وجل في وجود الحياة من أجل الخير ، وكل ما هو جميل ، وليس الفناء او الموت ، على خلاف من ينظر عكس ذلك من الفلاسفة الاخرين ، وهو ليس مجال هذه الاسطر القصيرة ، وقد يكون له وقت أخر إذا في العمر بقية…
وكل عام وانتم بخير …