18 ديسمبر، 2024 6:45 م

حسابات القاهرة تختل في ليبيا

حسابات القاهرة تختل في ليبيا

كان الرهان المصري قويا على الجيش الوطني الذي يقوده حفتر، لأنه القناة الرسمية التي يمكن الالتفاف حولها من قبل دوائر كثيرة، وتعرض هذه القناة لمشكلة كبيرة يفضي إلى أزمة في التقديرات السابقة

التطورات التي حدثت في المشهد العسكري الليبي، خلطت أوراق بعض الأطراف الإقليمية والدولية، لأن خلخلة مكانة المشير خليفة حفتر قائد الجيش الليبي في منطقة الهلال النفطي، يمكن أن تسقط منه ومن حلفائه واحدة من الأدوات التي كانت لها تداعيات سياسية إيجابية.

والتقدم الذي أحرزته القوات المناوئة، التابعة لجماعة الإخوان وتنظيم القاعدة وميليشيات أخرى، في بعض مناطق بنغازي والهلال النفطي، أعاد لهؤلاء ومن يقفون خلفهم جانبا من الاعتبار العسكري، الذي أصبح أحد أهم العناصر المتحكمة في المعادلة السياسية في ليبيا، وعلى أساسه يتم تقييم الأوزان النسبية لكل فصيل وجماعة، وبموجبه تتحدد الكثير من الأطر التفاوضية.

وفي ظل المجريات المتفرقة، لا توجد قوة مهيمنة على الفضاء العام الليبي، فهناك جماعات وقوى وميليشيات لها تأثيرات متفاوتة، لكنها تفتقر إلى امتلاك مكونات السيطرة الحاسمة، وهو ما يجعل مواقف غالبية الفصائل متذبذبة، ويصعب الرهان على أي منها دون التحكم في المفاصل الرئيسية.

ولأن هناك مفاتيح في الداخل وأخرى لها امتدادات في الخارج، أصبح من الصعوبة الرهان على مجرد التواجد الظاهر في منطقة بعينها لأي جماعة، فالقوة تقاس بحجم التأثير، الأمني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي.

لعل نتيجة الدرس الذي أدى إلى اختلال الموقف في الهلال النفطي، تكشف إلى أي مدى باتت التقديرات المعلنة غير دقيقة، فعندما تمكنت قوات حفتر من دخول هذه المنطقة وطردت الخصوم العام الماضي، قيل إن هناك تقدما سوف يحسم المعارك خلال فترة وجيزة، وبموجبه جرت مياه سياسية كثيرة، كانعكاس لهذه الطفرة.

مع الانتكاسة القوية التي مني بها حفتر ورجاله، سوف تضطر جهات كثيرة إلى إعادة النظر في تقديراتها السابقة، لأن فشله في استرداد ما فقده أخيرا، واستمرار الحالة الجديدة، يعني إدخال تعديلات على الكثير من التوازنات التي ظهرت خلال الفترة الماضية، وعلى أساسها أُطلقت المفاوضات في القاهرة تحديدا.

التقدم الجديد في منطقة الهلال النفطي له أسباب متباينة، جميعها على علاقة بقواعد إحكام النفوذ في ليبيا، الذي تقف وراءه قوى داخلية وخارجية، رأت في مواصلة تقدم خليفة حفتر خطرا داهما على مصالحها، لذلك نجحت في “لملمة” عناصر مختلفة، تجمعها رغبة في أن تكون جزءا أساسيا في ليبيا، ولا تريد لدوائر إقليمية أو دولية التحكم في المصير النهائي لدولة، تتقاذفها قوى عديدة.

بالتالي فالتغير الحاصل في الجانب العسكري، أعاد الاعتبار لقوى كادت أن تفقد نفوذها وتأثيرها، غير أنه يلقي بظلال قاتمة على دول اعتقدت أنها أصبحت على وشك تحقيق انتصار يؤدي إلى تشكيل الخارطة الليبية وفقا لمصالحها.

ومصر من أوائل الدول التي تأثرت بتراجع حفتر، لأنها تصورت أنه الحصان الرابح وأمامه وقت طفيف لتحقيق تقدم يفرض على آخرين التسليم برؤى تفاهم حولها الطرفان (القاهرة وحفتر) في المستقبل، ورسم واقع يتجاهل تقديرات قوى أخرى، وكان العنصر المشترك الواضح هو محاولة إخراج جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها من المشهد المقبل في ليبيا.

هذه النقطة أيضا، كانت من أبرز عناصر الخلاف بين مصر وحفتر وروسيا من جهة، وفايز السراج رئيس المجلس الرئاسي وتونس والجزائر وبعض القوى الغربية المؤيدة لهم من جهة أخرى، وإقناع حفتر وحلفائه بتغيير موقفهم من الصعوبة حدوثه دون وجود ضغوط قوية، تجبرهم على قبول ما جرى رفضه في غالبية جولات التفاوض الماضية، وفي الحالة الليبية ليس هناك أقوى من السلاح العسكري لقلب أي معادلة سياسية. لذلك سوف تؤدي النتيجة المباشرة لمواصلة تقدم خصوم حفتر في الهلال النفطي، إلى تغيير بعض القواعد التي تسببت في تعثر الجولات الأخيرة، الأمر الذي أربك بعض الحسابات المصرية، التي أطلقت العنان للرهان على دور قوات حفتر، وحسبت أن إحكام قبضته على منطقة الهلال النفطي وغيرها كفيل بالوصول إلى تسوية ترضى عنها القاهرة.

نعم التحركات المصرية كانت تسير على وتيرة من الخطوط المتوازية، سياسية وأمنية واجتماعية وقبائلية، وتمكنت من تمديد خيوط اتصالاتها مع جهات عدة، لكن كان الرهان قويا على الجيش الوطني الذي يقوده حفتر، لأنه القناة الرسمية التي يمكن الالتفاف حولها من قبل دوائر كثيرة، وتعرض هذه القناة لمشكلة كبيرة يفضي إلى أزمة في التقديرات السابقة.

أزمة ربما تؤدي إلى قبول ما تم رفضه، صراحة أو ضمنا، وفي المقدمة الإقرار بمصالحة مع جماعة الإخوان في ليبيا، والموافقة على أنها أحد مكونات الخارطة السياسية، وهو ما يتماشى مع رغبات قوى إقليمية ودولية، سعت عبر وسائل مختلفة للوصول إلى هذه النقطة، وفي كل مرة كانت تصطدم بواقع يرفضها، وازدادت الممانعة مع تقدم نفوذ حفتر وقواته، بالتالي لا بد من تطور يُغيرها، ويفرض على أصحابها القبول برؤية السراج وداعميه، والتأكد من أن تجاهلها يضاعف من اشتعال الموقف.

المشكلة أن بعض الأطراف الفاعلة في الأزمة الليبية تصمم على أن تكون المعادلة صفرية، أي لا تقبل القسمة على اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر، فإما أن تربح تماما وإما أن تخسر كل شيء، وفي بلد مثل ليبيا وما تمر به من تطورات متلاحقة، من المهم أن تكون هناك وسيلة تؤدي إلى قدر جيد من القسمة والتفاهم، يكفل التوافق حول رؤية تصلح لأن تكون مدخلا للحل السياسي.

وسط التقديرات المتعارضة والرهانات المتصادمة والطموحات العسكرية التي تعول عليها بعض القوى لقلب المشهد، يصعب إطلاق مفاوضات تحسم الخلافات العميقة، ومرجح أن يستمر الدوران في الأزمة حتى يتسنى أن تستقر عقارب الساعة عند توقيت معين، يصلح للتفكير في حل نهائي للأزمة، ما يعيدنا إلى تفاصيل الأزمة في سوريا، التي ظلت تتقلب على نيران عدة، حتى تدخلت روسيا بثقلها وقلبت الدفة العسكرية والسياسية لصالح الرئيس بشار الأسد.

وإلى أن يتم الوصول إلى هذه النقطة، سواء من خلال روسيا نفسها أو غيرها، سوف تظل حسابات القاهرة مختلة في ليبيا، طالما أنها لم تعد قادرة على التأثير مباشرة، أو ارتضت وضع مفاتيح الحل والعقد في أيدي غيرها.

نقلا عن العرب