18 ديسمبر، 2024 9:59 م

جلس بقرب السيد، استمع اليه بعمق وتأمل، انتهى حديث السيد فجاء مسرعا لينزوي بقربي ووجهه مختلف تماما، هناك بعض الحركة دبت في ملامحه، وكأنه انتقل من حالة الانكسار العميقة، نعم وانتقالة سريعة بعد فقد ابنه الاكبر، مجلس العزاء كان يعج بالمواسين والمعزين، و التعاطف على اشده، فقد كان الفتى مهندسا وكبير ابيه، وترك ثلاث بنات صغار، كنت اعلم عمق المأساة بقلب اخي، حتى انني اخجل حين يراني بدون دموع، نعم كانت عيناي تنزفان كلما المحه من بعيد، احذر كثيرا ان اناديه بكنيته المعهودة، فهي ذكرى مؤلمة هي الاخرى، بادرني بالقول، وهو يشرح لي ماقال السيد، ماذا قال يا اخي، حكى لي حكاية ذات عبرة كبيرة، لقد فقد السيد ابنيه في زمن صدام، وكان ابنه الكبير صاحب الفيديو المشهور،

الذي وضع رجال المخابرات المفرقعات في عبه وفجروه عن بعد، يقول ان صيادا اصطحب ابنه معه لصيد الطيور، قاربت الشمس على الغروب ولم يصطد شيئا، ارسل ابنه ليهيج الطيور ليراها جيدا عله يصطاد احدها، ذهب الولد ونسي الاب انه ارسله، فشاهد من بعيد شيئا يتحرك، فارداه، ظانا انه صيد ثمين، فلما اقترب منه وجده ابنه، لفه بعباءته وعاد به الى امه، استغربت من حجم الحمل الذي يحمله، فقال انه صيد كبير يستدعي ان تأتي بقدر كبير، ولكن اريدك ان تأتي به من بيت لم ير المصائب، ذهبت المرأة وعادت فارغة، سألها عن السبب، فقالت: لايوجد بيت بلا مصائب، هنا ، بكى الرجل وكشف عباءته وقال لها: الآن يمكنك ان تحزني على ابنك وتصرخي لتأتي الاخريات.
كفكفت دموعي محاولا ان ابدو اكثر توازنا ورباطة جأش، لكن عيني التي اعتادتا ان تسعفاني كل حين حولت الموقف الى موقف للبكاء من جديد، هذه المرة انا واخي نبكي على الآخرين، لم يعد هناك بيت بلا مصيبة، ولو ان الدولة او الحكومة او اي منهما منصفة لاعطت رقما حقيقيا للشهداء منذ الفين وثلاثة وحتى الآن، لو ان هناك ضميرا حيا في العالم لسلط الضوء على مأساة العراق،

هذا البلد الذي تلاشى فيه كل شيء، تلاشى الفرح وتلاشى التفوق وتلاشت المناظر الجميلة والحدائق والعصافير ورائحة التراب، كل شيء صار بطعم البارود والقتل والفجيعة، جثة هنا وانفجار هناك وشهيد ومصاب ونزاع عشائري وطفل مخطوف، استطيع ان ارسم خارطة بلادي بدماء الشهداء والمغدورين، ولا استطيع ان استمع الى نشيد موطني الا وانا منكسر حزين، حاولت جاهدا ان ابتعد حين ارى علم العراق بيد طفل يؤمن بالمستقبل ويؤدي له التحية وهو لايعلم بحجم ماينتظره من مأساة، وانزوي حين اسمع آخر يردد قصيدة توصي بالانتقام وينفلت لساني باتجاه زميلي الذي رد على البيت الشعري الذي يوصي باكل اللحوم، بكلمة الله، ووسط تجمهر الطلاب صرخت انها صورة سيئة، لايمكن ان نكون آكلي لحوم البشر، لسنا مثل القتلة ولامثل داعش، علينا ان نحافظ على توازننا ونكون متحضرين، انتبهت الى نفسي والجميع يرمقني، فانزويت في احدى قاعات الدرس وانا اتمتم بكلمات غير مفهومة، الشعر الشعبي الحماسي بلا رقابة، انه يزرع مفاهيم القتل والانتقام في ادمغة الصبيان، حاولت ان تكون قصائد السياب والبياتي وحسب الشيخ جعفر وسواهم من الشعراء حاضرة في التجمهر الذي يقام في الخميس، لكن محاولاتي باءت بالفشل، فالمسألة تستدعي حزنا آخر، وكما يقولون المصيبة تريد (حزن معدان)، لاوقت للمواساة فنحن على القائمة مهما نجونا من واحدة او اثنتين.