ما اعظم حزنَ العراقي ، وما اسوأ شكواه ، الحزن عميق ولامع ومنتج ومهيب ، والشكوى مذلة وضيعة . لا بارك الله بكل من جعل العراقي يشكو ظلما او يطلب حاجة او يواجه مصيرا يحط من كرامته ، لابارك الله به مهما كان حجم ثوبه ، وسعة ظهره ، وطول نشيده . الكثير، حتى من اهل الفن والغناء والادب لايفرقون بين الحزن والشكوى ، فتراهم يصرخون ويزعقون طلبا للحب ، والبحث عن الثأر من غدْر الزمان ، ولو بحثت طويلا وجهدت في ذلك، لن تجد لحظة حزن ولا دمعة حزن ولا صفنةَ حزن عميقة في ثنايا ما ينشدون ، الحزن كتَبَ قصصا وتراثا وانتج علما ، و نقل تجارب اقوام ومجتمعات ، وكان اقوى من مكر السياسة ، كان دهاقنة الحزن العراقي من الذين وقفوا بوجه السلطان ، يموتون جوعا دون ان يبيعوا ذمّة او يخونوا عهدا ، او يرضخوا لحاكم متجبّر اوقفّاص سياسي ، او تابعٍ مختالٍ فخور، ، هؤلاء هم أهل الحزن، اكرموا وضحّوا بدمائهم ولقمة عيشهم من اجل الاخرين، حزانى لكنهم يترفعون كثيرا عن الشكوى، بل كان الحزن لهم زينة وعادة ووساماً ، فالذي لايشكو عفيف، لكن الذي لايحزن خطِر بلا قلب ، ها هي بغداد التي اشرقت بنورها على العالم يوما ، كتبت وطبعت ونشرت ، عبدت وألحدت وتجّملت وغنّت ورقصت وخفتت واشتعلت ،
وصنعت الفرح للبشرية منذ بزوغها ،توصف بالحزن في كل شيء ، بالغناء والشعر والموسيقى . اتذكر اجابة نادرة للمفكر الراحل السيد محمد حسين فضل الله ، ساله مذيع قناة عربية سؤالا لئيما مركبّا ، ماهو رايك بالغناء العراقي ؟ ، فاجابه السيد رحمه الله بفطنته المعهودة : (عندما يغني العراقيون تعال اليّ بسؤالك ! ) . الحزن اذن ذاكرة ،وتاريخ وحوادث وازمان ، وقلبٌ ظل ينبض طويلا، من نواح كلكامش على انكيدو ، الى نواح ام عباس على فقيدها في سبايكر، لاتوجد ارض عُجن ترابُها بدماء خلق الله كما هي بلاد العراق ، ولايوجد ظلم الا وحدث على ارضها ، من محارق (نرام سين) الذي أحرق المعابد وقتل الزرع والضرع في اكد واور، الى افاعي داعش التي هجّرت اهل العراق الاصلاء وهدمت كنائسهم واحرقتْ بيوتهم ، مرورا بنزاع المسلمين حين شهدت هذه الارض ازكى الدماء واطهر الارواح واقدس المواقف ، ولذلك، فحزن العراقي ليس حزنه الشخصي بل هو وريث الحزن الاول، ينوب بعاطفته عن البشرية جمعاء منذ بيضتها الاولى ، فتراهم يحاورون به. ، كيف يمكن فهْم العراقي،؟ هذا الذي يستعرض حزنه وكأنه يستعرض ذكاءه،؟ يسخر من حياته، وايضا يفاخر بها، يؤلف الرعب ويبالغ بالتحذير من العدم ، وفي الوقت نفسه يراهن على المستقبل !. ومع ذلك لا احد ممن وثق بهم او راهن عليهم انصفه . حتى الذين يظلمونه يلومونه ، حتى الذين يسرقونه ، يتهمونه بالتقصير ،حتى الذين يدخلونه حروبا، يحمّلونه نتائج الحماقةِ والعصبيةِ وقلة الحِلم .حتى الذين ينتخبهم لادارة شؤونه ويخذلونه يَسِمونَه بالنفاقْ! ، عجيب امر العراقي فعلا ، لايعرف بالضبط من هو معه، ومن هو ضده ،من الذي قاد بلاده و(فشِلَ) حين حطمها ؟، ومن الذي قاد بلاده و(نجح) حين حطمها ؟ . ومع ذلك كله لايوجد كائن من بين خلق الله جلت قدرتُه، سعيدٌ بحزنه كما هو العراقي.