إن الحزن الذي جهد البعثيون في صناعته أنواع ٌ ثلاثة. أولها حزن ذاتي داخلي يشعر به البعثي على مصيره الأسود الذي وصل إليه. فإن كان بعثيا عراقيا فهو في آخر سكرات الموت، مطارد مكروه ومدموغ بالإرهاب والقتل والنفاق والفساد، حتى أن حلفاءه غير البعثيين من تجار الشعارات السياسية العراقيين يتجنبونه ويتخوفون من الاتهام بالعلاقة به، ولو من بعيد. وأما إذا كان سوريا فلن يغيب عن باله أنه يقترب من نهايته المحتومة، وأن مصيره لن يكون بأفضل من مصير رفيقه العراقي المنبوذ.
أما النوع الثاني من حزن البعث العربي الاشتراكي فهو الحزن على سقوط حلم دولة البعث الواحدة الممتدة من المحيط إلى الخليج، والتي (تشيدها الجماجم والدمُ، تتهدم الدنيا ولا تتهدمُ)، والتي كانت ستقوم لو نجح الحزب في تدبير انقلابات عسكرية غادرة مشابهة لانقلاب العراق في 63 و68 وانقلاب سوريا 36 وما تبعه من انقلابات متلاحقة دامية داخلية، بحجة التصحيح.
وأما الحزن الثالث فهو الذي طبخه الحزب بمهارة فائقة وأطعمه لجماهير الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة، ونثر ظلاله على كل منزل في كل مدينة وقرية، لا في العراق وسوريا وحسب، بل في لبنان وفلسطين واليمن وفي كل (قطر) عربي آخر وصلته أصابع البعث العظيم.
وهذا النوع من الحزن لا يعاني منه المواطن الضحية فقط، بل يحترق بناره البعثي الشريف الذي التحق بالحزب مصدقا تلك الشعارات اللامعة المغرية التي اتخذها القادة المؤسسون الأوائل غطاء لديكتاتورية الفكر البعثي وانتهازيته الطاغية. فلا يعقل أن يكون هناك بعثي واحد عقائدي ملتزم، عراقيا كان أو سوريا أو أردنيا أو لبنانيا أو يمنيا، لا يشعر بالحزن الشديد وهو يرى حزبه وقد تحول إلى جهاز أمني ومخابراتي قمعي وهمجي بيد الحاكم لا يتورع عن أن يطلق على مواطنيه، ومنهم كثيرون بعثيون مخلصون لفكر الحزب ومبادئه، صواريخ سكود وطائرات الميغ والسوخوي ومدافع الهاون والميدان وبراميل البارود المتفجرة التي تلقي بها الطائرات على منازل المدنيين غير المقاتلين.
قبل عامين بالتمام والكمال، بتاريخ 22 نيسان / أبريل 2011 نشرت هنا مقالا تعليقا على وعد بشار الأسد بإلغاء قانون الطواريء قلت فيه ” إن حزب البعث لا يحتاج إلى قانون طواريء، لأنه هو نفسه طواريء من نوع فريد “. وبشرت السوريين يومها، قبل عامين، بنار جهنم جديدة آتية لن تبقي ولن تذر سوف يصبها على غرف نوم أطفالهم هذا الحيوان الأهوج، مستفيدا من دعم حلفائه القتلة أمثاله، ومن رضا يهود أمريكا وإسرائيل، ونفاق أوربا الذي يندى له الجبين.
وها نحن بعد أكثر من عامين من جنون البقر البعثي الذي تجاوز جميع التوقعات وتخطى جميع الحدود في الحيونة والشيطنة يتأكد لنا ما توقعه المقال القديم.
فحزب البعث لم يتغير. هو هو، من يوم ولادته في سوريا وإلى اليوم، حزب العنف العربي الأول والمتميز في فنون القتل والاغتيال والانقلاب العسكري والتصفية لقادته الكبار وأعضائه الصغار قبل خصومه وأعدائه الكثار.
جميع الديكتاتوريات العربية الأخرى تستر قبح ظلمها بأغطية مزيفة من الرحمة والديمقراطية، على مضض، وذرا للرماد في عيون مواطنيها المساكين، وفي عيون حلفائها الغربيين المنافقين، إلا حكم البعث، عراقيا وسوريا. فهو يفاخر ويجاهر بأنه نظام الخنجر والسوط والعصا، ويسخر من ضعف رفاقه الحكام الديكتاتوريين الضعفاء الذين يتخوفون من غضب الجماهير.
وباستعراض تاريخ حزب البعث، من بدايته المشاكسة إلى نهايته الدامية يتبين أن ولادته المشبوهة كانت في فترة مضطربة من الصراع العربي – العربي الداخلي، وأنه كان، حتى وهو مازال وليدا بلا أظافر ولا أنياب، عنيفا ودمويا ومتقاتلا حتى مع أحزاب وتنظيمات تحمل نفس أفكاره وتلوح بنفس شعاراته القومية المتزمتة. وأكثر من ذلك. لقد كان هذه العنف المشاكس معتمَدا حتى بين أعضائه أنفسهم، ويشهد عليه حملات التسقيط والتخوين والإعدام والاغتيال التي نفذها بعثيون ضد رفاق بعثيين آخرين. ومعارك البعث السوري مع البعث العراقي والمؤامرات ومحاولات الانقلاب المتبادلة لا يمكن أغفالها.
ورغم أن كثيرين من الكتاب والمحللين العرب ينكرون نظرية المؤامرة فإن الوقائع تساعد، إلى حد بعيد، على تصديقها. فالثابت أن أمن إسرائيل، من أوائل الحلم الصهيوني في أوائل القرن الماضي وإلى اليوم، كان هو كعب أخيل في جميع السياسات والقرارات والحوادث التي شهدتها المنطقة العربية دون شك. وكانت الدول الأقرب لفلسطين، وكذلك الأكثر قابلية للتحول إلى قوة فاعلة في الصراع مع إسرائيل، هي الأكثر عرضة للعواصف الداخلية والخارجية المدمرة. وكل قطرة دم أريقت، منذ أوائل القرن الماضي، على تراب أي دولة في المنطقة، سواء في الحروب أو الانقلابات أو السجون والمعتقلات، كان وراءها ذلك الشبح المخيف. لم يستقم حكم لحاكم إلا برضا اليهود. ولم يسقط حكم حاكم إلا بتدبير اليهود.
ولا أحد يستطيع المجادلة في أن مجيء حزب البعث إلى السلطة في عام 63 كان لتنقية الساحة من الشيوعيين واليساريين، ومن البعثيين والقوميين أنفسهم، على حد سواء. وما حدث فيما يسمى بردة تشرين 63 يؤكد ذلك. ثم عاد حزب البعث مرة أخرى إلى السلطة في عام 68 ليكمل مهمة إنهاء اليساريين والقوميين. ثم أصبح قلعة مدججة بالمال والسلاح لمقاتلة الخميني. وأثبتت الوقائع أن إسرائيل كانت تمد الخميني بالسلاح، وأن أمريكا، وحلفاءها كانوا يمدون صدام حسين بالسلاح والرجال والمال والمخابرات وطائرات الأواكس. ومعروفة جدا نتائح تلك الحرب المجنونة، وما فعلته بالعراق أولا، وبإيران ثانيا، وبأموال دول الخليج وأمن المنطقة بالعموم.
ثم جاء دور الحلقة التالية المقررة للعراق حين تم غزوه واحتلاله ليتم اجتثاث البعث وتسليم العراق لإيران ليبدأ صراع آخر من نوع جديد يستنزف المنطقة ويشغلها بنفسها لخمسين سنة قادمة.
أما سوريا فأمرها أشد عنفا وأكثر دموية. ولعل أكبر أخطاء المعارضة السورية هو ثرثرتها الساذجة الطفولية عن الوطنية والاستقلالية والديمقراطية ورفض التدخل الأجنبي، وهي تستجدي سلاح الأجانب وأموالهم.
مع التأكيد الممل على أنني مع الشعب السوري في ثورته المشرفة الباسلة، ولكنني لست مع قيادتها الفاشلة.
كأن هذه القيادة لم تدرك بعد أن المطلوب لسوريا، إسرائيليا، وبالتالي أمريكيا وأوربيا وحتى روسيا وإيرانيا، هو نتف ريش الدولة السورية بالكامل، وقتل أقصى من يمكن قتله من سوريين بأيدي سوريين، وتهديم أقصى ما يمكن تهديمه من جسور وطرق ومزارع ومصانع، واستئصال أي دور محتمل لسوريا في إثارة وجع راس لجارتها المبجلة. وما لم يتم كل ذلك فلن تسلم سوريا لحكام جدد يتجولون على عواصم الأشقاء والأصدقاء بحثا عن مكرمات وإعانات لإعادة بناء الحد الأدنى من وسائل العيش غير الكريم.
وها هو جون كيري يتبرع للثوار السوريين بملابس واقية ومناظير ليلية لمواجهة صواريخ الأسد ومدافعه وطائراته التي لا ترحم. وها هي أوربا (الصديقة) تشترط وحدة المعارضة وتطلب ضمانات لعدم وقوع السلاح الذي ربما يقدم للمعارضة بأيدي جماعة النصرة والقاعدة وغيرهما، وهو كذب ونفاق.
إن حزب البعث السوري في هذه اللعبة كلها هو الأغبى من جميع اللاعبين. فقد كان الأسهل له والأقل كلفة والأخف وطأة أن يدرك أهداف اللعبة الدولية الخبيثة المقررة لسوريا، موالاة ومعارضة، ويقنع بنهايته المحتومة، ويغادر الساحة دون خراب ولا دماء ولا دموع. ولكن حزب البعث هو حزب البعث، لا يملك ولا يستطيع أن يملك سوى عمى البصر والبصيرة والغباء.