17 نوفمبر، 2024 11:32 م
Search
Close this search box.

حزنك حزن معدان..!

ــ كُلْ ، يا مُعُلمُ
فقال لهُم : لي طعامٌ آكُلهُ لا تعرفونهُ أنتم ..
سفر يوحنا
لعدة مرات يكون (عبد مكطوف ) سائق سيارة الكوستر في الذي يعمل على خط ناصرية ــ جبايش هو سائق السيارة التي استقلها ذاهبا الى مدرستي التي تقع في عمق الأهوار ، وما أن تصل السيارة عند مشارف الأهوار وضفافها حتى يبدأ ( عبد ) بتشغيل أغنية يعرف أني اعشقها هي أغنية ( حزنكَ حُزنْ مِعدان ) لوحيدة خليل ، ولأن نصف ركاب الكوستر من المعدان تسكنهم سعادة خفية ، وهم يتساءلون في سريرتهم لماذا حزنهم مميزا ، وربما الكثير منهم لا يدرك تماما لماذا قيل هذا المثل حين تهطل الدموع ويتعالى نواح الأمهات في مواسم موت المعدان ، عندما يموت الصغار غرقا في مياه الأهوار جراء انقلاب زورق أو بسبب امراض البلهارسيا أو عندما تلتهب اعضاءهم الذكورية وقت الختان الذي يتم اغلبه من قبل جوال يدعي انه خبير في التضميد ،أو عندما تنفق جاموسة وهي لم تزل تدر حليبها بكرم وفير، أو حين يموت رب الأسرة بعد أن يخنقه السعال والسل وهو لا يعرف سبب علته ، وللمعدان حزن سنوي يأتي مع أيام عاشوراء ينحبون فيه بصمتٍ وهم يشكون نأي المكان عن قباب كربلاء.
وهكذا تسجل الأغنية على طويل الطريق سحر حنجرة وحيدة خليل صاحبة الاغنية الاسطورية ( مضيع بالعرب صوبين ) ، يلفنا الصمت وتأخذني مديات الماء الى ليالي قراءاتي وسماع الاغاني العاطفية واحتساء اللبن الذي تهديه لنا جواميس القرية القريبة من المدرسة.
ذات يوم تعطلت سيارة الكوستر في منتصف الطريق وقرب قرية من قرى المعدان ، وكانت قرب هذه القرية توجد نقطة مرابات لفصيل من فصائل الجيش المنتشرة في مناطق عدة من مناطق الاهوار في الوية استحدثت في الحرب العراقية الايرانية يسمونها الوية الاهوار.
جلسنا على حافة الماء ، وقد دعانا الجنود لشرب الماء وحين ذهبت الى النقطة المتخندقين بها شاهدت رجلا من ابناء المعدان يرفض وبإصرار دعوة الجنود ليتناول لحما مشويا يقدمونه له ، وبين استغرابي وضحكاتهم لامتناعه ، وقول عريف الفصيل للرجل :انه لم يذق هذا اللحم بعرس أمه . كنت استغرب للحزن الغريب القاتم بين عينيه وكأنه يتلو مراثي كُتبتْ بلغة مسمارية ، تذكرت الاغنية التي كنا نسمعها قبل لحظات .
اقتربت من الرجل وقد حبس دموعه بين مسافات اجفانه الشاسعة : عماه لماذا لا تأكل من اللحم المشوي الذي يدعوه اليه الجنود .
لم يرد .
أحد الجنود قال :لأننا يا أستاذ نأكل من لحم جاموسته.
قلت : لماذا تأكلوها وهي جاموسته.
قال :لقد عبرت الى حقل الالغام الذي يحيط بالفصيل وتقطعت ارجلها .انتظرنا من يحملها بعيدا قبل أن تتفسخ فلم يأت احد .ذبحناها وشوينا لحمها لنأكله واليوم جاء هذا الرجل ليسأل عنها وقد عرف اننا شوينا لحمها ونأكله الآن لذا هو حزين.
عدت الى السيارة ، ومثل الرجل صاحب الجاموسة اخفي دمعة حزن مؤلم لأقول لسائق السيارة بعد أن اكمل تصلحيها :شغل المسجل وأرجعنا الى حزن المعدان……..!

أحدث المقالات