18 ديسمبر، 2024 7:55 م

من رواية قنابل الثقوب السوداء
اشتدّتْ العلاقة بين فهماك وجاك أكثر وأكثر مِن طول الأُنسة، فضلاً عن توازي خُلقيهما وعبقريتهما المنقطعتي النظير، هذا التوازي كان أكبر عامل محفز لتغلغل كلّ منهما في الآخر.
أمّا داخل المحاضرات فكان شأنهما عجبًا، كانا كثيرًا ما يتناقشان مع أساتذة الفيزياء بخصوص نظرياتها الشائكة ويطرحان حلولاً جديدة، كلّ هذا على الرغم أنّهما ما زالا في الفرقة الأولى؛ ممّا ينمّ عن وجود مخزون إبداعي داخلي لكلّ منهما ليس له علاقة بالتحصيل والمعرفة.
وفي شأن الأبحاث، فكانا يقدمان أبحاثهما إلى أستاذ الفيزياء، وعندما يطّلع عليها يجدها أشبه بأحد الرسائل المعدة لاجتياز شهادة دكتوراه.
وعلى ذلك ذاع صيتهما في الجامعة كلّها، مما حدا بأحد الأساتذة -الذي ارتاع كثيرًا لشأنهما- الذين يعلمون العلاقة السابقة بين بيروفيسور بيتر وعالم الروبوت المصري برفع تقرير أمني إلى رئيس الجامعة يحذر فيه من شدة العلاقة الحميمة التي ربطت الطالبين ببعضهما. رفعه رئيس الجامعة إلى وحدة السي آي أي دون أن يقرأها. ووضعت السي آي أي تحت مجهر المراقبة خشية أن يحدث لجاك مثلما حدث لبيتر. في لحظة فراغ أمر رئيس الجامعة بإحضار التقرير ليطلع عليه، فلمّا أتاه فتحه، وظلّت عيناه تحدقان في التقرير بدهشة، وكأن التقرير يتكلم عن عالمين فيزيائيين وليسا طالبين. وظل يقرأ حتى رنّ جرس هاتفه، إنّه رئيس مخابرات السي آي أي، أخبره في المهاتفة أنْ يستميل الفتى المصري نحوه، ويتقرّب إليه بشتى الوسائل. وفور إغلاق الخط همسَ لنفسه: «يبدو أنّ العالم مقبل على مرحلة جديدة، يكون فيها هذان الفتيان محورا ارتكاز لموازين القوى العالميّة.» وعاود مجددًا القراءة.
وفي نفس الوقت نجد جاك يتنزه في حديقة الجامعة، وفهمان في المسكن يبتكر خلية صماميّة.
جلس جاك ينظر إلى الحديقة ليتمتع بمنظرها الخلّاب، ويصغى بأذنيه ليسمع صوت العنادل، فقال همسًا: «يا ليت قُبح أهل الدنيا ينقلب جمالاً مثل جمال هذه العنادل، ويا ليت عواء البشر وفحيحها يتحولان إلى طرب جميل مثل صوتها.»
رفع بصره إلى السماء؛ فوجدها ملآنة بالغمام وقتئذ ؛ٍفقال كلمة واحدة: «الحياة .» إلا أنّه شعر بانقباض في قلبه لم يدرِ سببًا له.
وبينما هو يتحسّر على حال العالم رآه أحد زملائه؛ فناداه مِن داخل سيارته، وأشار بيده ليأتيه من أجل القيام برحلة طائرة بها.
ركبها وحلّق بها مرتفعًا إلى علوٍّ لم يبلغه أحد قبله، حتى إنه جاور سرب أحد الطيور المهاجرة، فالتقط أحدها وقبّله ثمّ طيّره مرّة أخرى.
واستمرَّ في التحليق مرتفعًا حتى ظنّ المشاهدون أنّه كاد يلامس السحاب، وذهب عن الوعيّ فجأة؛ فقضى لحظات حالمًا، حيث لاحَ له ولأوّل مرّة جنود مِن الصفيح ألسنتها وسائر أعضائها منه أيضًا. كانوا مدججي السلاح، يهبطون مُردفين، قاصدين استعمار الأرض أو كأنّهم، تحاول أن تخترق البُعد الذي يوصّلهم إلى الأرض وكانوا يشيرون إليه ليكون دليلهم فأبى، واخترقهم هو، قاتلتهم ولكنّهم رموه عن قوسٍ واحدة، فقال: «ربّاه، أين أنا؟»
هكذا رأى المشهد بين النائم واليقظان ولم ينتبه مِن غفوته إلّا بعد أن وجد نفسه على الأرض والنّاس يفرّون مذعورين من أمام السيّارة.
خرجَ جاك مِن السيّارة مرتعدًا لما رآه، فكّر، فلمْ يستطع تفسير الحدث المؤلم.
وفهمان ما زال قائم على صنْع الخلية الصماميّة، فكان يطرح أكياسًا مغلقة بداخلها معدن قلوي على طاولة الحجرة، وكذلك طرح بعض الأدوات التي يحاول منها صُنع خليّة الصمام.
لمح جاكُ عن بُعد البستانيّ يسقي أحد الأشجار، ما لفت نظره أنّها تطلُّ على إحدى شرفات مختبرات الجامعة. أسرع إليّه وقال له بغضبٍ وصوتٍ عال: «اجتثْ هذه الشجرة يا رجل.»
رد البستانيُّ متعجبًا: «ما لك أنت والشجرة أيّها الفتى الأرعن؟»
فقال جاك: «يا رجل، وجود شجرة تطلُّ على مختبر علميّ أمر خطير.»
ثم ما لبث أن سأل نفسه: «كيف لمْ أرها إلّا اليوم؟!جاك لابدَّ أن تنتبه أكثر مِن ذلك.» وقرّر أن يكلّم رئيس الجامعة بشأن الشجرة غدًا، ثمّ اتّجه قافلاً إلى المسكن. دخل جاك على فهمان فوجده قائم على عمل بعض التجارب كالمعتاد.
استلقى على سريره، وتوجّه بنظره تلقاء فهمان يتأمّل في قسمات وجهه المألوفة، كما يتأمل في الأكياس التي على الطاولة.
والعجيب أنّ فهمان نفسه لم يشعر بلحظة دخول جاك أصلاً، فهو لم يدرك إلّا ما كتّل له كلّ محسوساته وهو صنْع خليّة صمام تلك التي أنهاها منذ لحظات وهمَّ بها ليجربّها. فجأة وقع أحدُ الأكياس المغلقة على الأرض، وتمزّق، وخرج ما فيه من محتوى، وتدحرج فتوارى تحت السرير. أحسَّ جاك بالاختناق؛ فهبّ منتفضًا على الرغم أنّ باب وشرفة الحجرة مغلقان تمامًا، أي لم يأتيهما أي دخان خانق من خارجها، فصرخ في فهمان وقال له: «ألم تجد المحتوى بعد؟»
ثمّ جرى إلى باب الحجرة ونافذتها ففتحهما، فقلّ الاختناق. ثمّ أعاد القول مرّة أخرى، أوجده وأغلقه.
فلمّا أمسكه فهمان ووضعه في كيس آخر تجدّد الهواء كما كان مرّة أخرى، ثمّ قام جاك وأغلق الباب والنافذة.
اندهش فهمان من سرعة استنتاج جاك، فسأله: «ما الذي أعلمك أن سبب الاختناق هو المحتوى الذي كان بداخل الكيس.»
ردّ: «لم يحدث الاختناق إلّا بعد أن وقع الكيس وتمزّق، هذا الكيس يا صديقي به معدن يمتصُّ الأكسجين من الجوّ، فلمّا ثُقب أدّى المعدن عمله على أكمل وجه.»
– «أتعرف ما في هذا الكيس؟»
– «مِن أين أتيت بهذا المعدن يا صديقي؟ إنّه نادر جدًا.»
لم تزايله الدهشة أيضًا من علم جاك، سأله: «مَن أعلمك بحيازتي له؟»
– «سرعة الاختناق تدلّ على أنّه معدن الكوبالت مضافًا إليه بعض المركبات، إنّها بللورات ملحيّة مازة قادرة على تفريغ أكسجين الحجرة في ثوانٍ معدودة، إنّه ثقب أسود للأكسجين فقط.»
بينما هم على ذلك ازداد الجوّ سوءًا بالخارج، فقد ظهرتْ سحب كثيفة جدًا في السماء تُنذر الأرض بقصف رعدٍ وحشيّ. شعرا بها ولم يكترثا لها لسخونة الحوار بينهما.
قال فهمان: «هل ترى هذه الخليّة الصماميّة التي بيدي؟»
– «لماذا ابتكرتها؟»
– «الخليّة الصماميّة عبارة عن قناة تحتوي على مركب يقوم بسحب مركب الأكسدة الأوّل المتراكم على البللورات ثمّ يتطاير في الهواء.»
– «أعلم.» صمت هنيهة ثم سأله مجددًا: «كمْ معك مِن هذه الأكياس الآن؟»
قال وهو ممسكٌ بإحدى يديه الخلية والأخرى شيئًا ما: «مئة وسبعة عشر كيسًا، وها هي صماماتهم سوف أركبها.»
– «مبارك لك صديقي، اختراعك سوف يوفّر بعض حاجة روّاد الفضاء من الأكسجين، حيث من الممكن تركب على البذلة الفضائيّة لتمتص الأكسجين إلى داخلها.»
ورعدتْ السماء بشدّة، وتزايد رعدها، وتوالى القصْفُ واحدًا تلو الآخر، وغدت الرياح تقتلع بعض الأشجار ذات الجذور الصغيرة.
فانتفض جاك فجأة حيث تذكّر الشجرة، فقطع حديثه مع فهمان آملاً قطع الشجرة قبل أن تقع الكارثة. لكن الشجرة فعلتها قبل أن يدركها، حيث سمع أبواق إنذارات الحريق تُطلَق في كلِّ مكان من الجامعة.
خرج جاك وفهمان على الفور إلى الردهة المؤديّة لكلّ حجرات المسكن، وكان فيها لوحة تحكّم أنظمة الاحتراق -والمتصلة بطريقة مباشرة مع باقي لوحات التحكم الموجودة في الجامعة كلّها، إنّها مِن النوع المعنون- وفيها وجد رقم لوحة تحكّم -هذه اللوحة الأخرى تعطي أجهزة استشعاراتها إنذارات الحريق ومدوّن عليها اسم المكان ومحتوياته- قرأها فعلم مكان الاحتراق بالضبط، وقد صدق ظنه؛ فقد نشب الحريق في المختبر الذي تطلّ عليه الشجرة، فعلم أنَّ العاصفة الرعديّة قد اخترقت الشجرة فشبَّ فيها الاحتراق نتيجة الأكسدة، وأحرقتْ معها المختبر وسرتْ النار تعدو في المبنى كلِّه.
على الفور طلب من فهمان إحضار الأكياس وخلايا الصمامات، أسرع فهمان داخل الحجرة وأخرج البللورات الملحيّة المازة من الأكياس ووضعها على الفور في خلايا الصمامات ثمّ وضعهم جميعًا في شوال وحملها، فلمّا خرج من الحجرة متّجهًا إلى الباب الرئيس وجد جاك منتظره في سيارة يلوّح بيده ليستحثّه على الإسراع -تلك السيارة اقتحمها منذ دقائق معدودة، ونتيجة ذلك أعطت أجهزة استشعاراتها إنذارات صاخبة، وتمّ نقل الفعل على هاتف صاحبها وبيته- ركبَ فهمان السيّارة مع جاك، طار بها جاك متّجهًا إلى مكان الحريق. وفي طريقهما شاهدا الطلبة والأساتذة يهرعون مبتعدين عن مصدر الحريق، يصرخون متفجعين، بينما ألسنة اللهب ترسل دخانها إلى أسفل السحاب.
طرقت السرايين آذني رئيس الجامعة مِن لوحة تحكّم مكتبه، فألقى الملف من يده وخرج هلعًا لينظر الحدث، فشاهد ألسنة النيران ترتفع وهي تلتهم الجامعة، وسيارات الإطفاء بدأت تتوافد واحدة بعد الأخرى. بينما بدأت تتحرك طائرة الإطفاء الأمريكيّة العملاقة لخطورة الموقف.
وجاك وفهمان على بعد مئات الأمتار مِن مكان الاحتراق ، النار التهمتْ المختبر فانفجّر وامتدتْ ألسنته إلى المختبرات المجاورة.
ارتفع جاك بالسيّارة إلى أعلى وأحاط بالمكان إحاطة السوار بالمعصم، وظلَّ يدور حولها بأسرع مِن دوران الصقر، و يُحصي نيرانها كأنّه يحبسها خلف جدران عازلة، وفهمان يرمي بالخلايا الصماميّة على مواضع الأكسدة، يدور جاك بسرعة البرق ويرمي فهمان بحكمة وحنكة منقطعة النظير. تسحب تلك الخلايا الأكسجين ولا تشبع منه أبدًا، ولا تسمح الصمامات بخروجه.
وحضرتْ طائرة الإطفاء الأمريكيّة، وشاهدت -وسط سحب كثيفة وتملأ السماء- سيارة جاك فلم تكترث لها، امتدت ببصرها إلى الأسفل فشاهدت عجز سيارات الإطفاء عن احتواء الموقف. وبدأت الاستعداد لإطفائها؛ أثناء هذه اللحظة بدأت النيران تخف شيئًا فشيئًا -وذاك لأن الخلايا الصمامية قد استمكنت من وقف عمليات الأكسدة- فانشغلت الطائرة بسيارة جاك؛ فقد أهملت عملها بعد أن سحر جاك قائد الطائرة بمعجزته الخالدة.
فلمّا همّت بإلقاء مواد إطفائها وجدت النار قد انطفأت ولم يبق منها إلّا الرماد والدخان الذي ما زال يتحرك في الهواء. خطفَ أحدُ سائقي سيارات الإطفاء الهاتفَ مِن أحد الصحفيين الذين صوروا الحادثة بفضولٍ جامحٍ ونظر في المشهد، فتسمر مكانه بعد أن شاهد تلك المعجزة.

قال جاك لفهمان وهو يدور حول مواضع الأكسدة التي هدأت: «نكتفي بهذا القدر يا صديقي.»
وهبط جاك بالسيارة التي لم تكف بعد عن إطلاق أبواب إنذاراتها.
أما رئيس الجامعة، فقد شدته من بين كل هذه الأحداث براعة السيارة الطائرة وقدرتها الخارقة على إطفاء حريق عجزت عن إطفائها عشرات سيارات الإطفاء. سعى إلى السيارة مسرعًا، وحال وصوله إليها كان جاك يفتح بابها فالتقوا ثلاثتهم. نظر فيهما، فتأكد له أنهما الطالبين الذين كان يقرأ ملفهما منذ قليل، فقال لهما: «أنتما! تعالا معي.» وفي طريقهم إلى المكتب سألهما: «من أنتما! أقصد ممن أنتما!أقصد هل أنتما مثلنا بشر؟!»
ردَّ فهمان: «أنا فهمان وهذا أخي وصديقي جاك.»
وفور وصولهما أعادا عليهما السؤال السابق لدهشته: «مَن أنتما ! أقصد ممن أنتما ! أقصد هل أنتما مثلنا بشر!»
أعطى فهمان كارتًا مدوّن فيه هاتفه الشخصيِّ وقال له: «يا فتى، كُن على اتصال بي في أىّ وقتٍ تريد، يا فتى، اعتبرني أهلك.» وحدّث نفسه قائلاً خسارة: «كنت أودُّ أن تكون أمريكيًا.»
قال جاك: «هل لنا أن ننصرف يا بروفيسور.»
– «تنصرفا قبل الترحيب!» ثم سارع نحو فهمان مرة أخرى وقال: «يا فتى، لقد قررتْ الجامعة منذ عدّة ساعات أن تتكفّلَ بنفقات دراستك بقرضٍ حسن، فما رأيك؟»
نظر فهمان إلى جاك ولمْ ينبس بكلمةٍ، بينما سرح جاك بخياله -وهو السياسيُّ المحنّك- إذ يعلم أنّ عرضًا كهذا غرضه ضمان ولاء فهمان لأمريكا بعد التخرج والعمل على أرضها. وفي تلك اللحظة طرق حارس الأمن الباب، …..