23 ديسمبر، 2024 2:05 ص

حرية التعبير واشكاليات الاعلام المهيمن في فرنسا

حرية التعبير واشكاليات الاعلام المهيمن في فرنسا

كتبت لارا مالرو مراسلة التايمز الأيرلندية في باريس وزوجة الصحفي البريطاني روبير فيسك مراسل صحيفة الاندبندنت البريطانية في بيروت: انه منذ وفاة فيسك ترددت بكثرة كلمة “الاشكالي” في توصيفه والتي يراد بها التشكيك بكل ما كتبه في حياته- توصيفه بالاشكالي يعود الى ما قبل وقوفه مع النظام السوري بعد الثورة-. لقد كان روبير “اشكالي” لأنه رفض ان يكون مثل الاخرين وان يتبع القطيع وقد توج عمله وقد حصل بعدة جوائز وألف ستة كتب. بل ان صحفي فرنسي وبمناسبة وفاته سخر بغرابة في جريدة اللوموند من لقاءاته التي قام بها مع بن لادن ! مثل صحفي اللوموند هذا هناك العديد في فرنسا ممن لا يتوانون عن ترديد هذا الوصف على كل من لا يتطابق خطابه مع الاعلام المهيمن والسائد. ولعل المثل الصارخ في هذا المجال هو طارق رمضان أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة اوكسفورد الذي بقي موصوفا لأكثر من عقدين بالاشكالي وبصاحب الخطاب المزدوج وعندما لم يتم القضاء عليه بهذه الوسيلة ابتدعت وسائل أخرى. ليس ذلك فحسب بل ان مجموعة من كبار الأطباء والمتخصصين بالأوبئة وادارتها من ذوي الخبرة المشهود لها ومن مدراء المختبرات العلمية الرصينة تلصق بهم هذه ” الاشكالية ” يستهدفهم الاعلام لان كلامهم لا ينطبق مع الرواية الحكومية المرتبطة بمصالح كارتلات الصيدليات والمختبرات وكبرى الشركات الأجنبية المنتجة للقاحات.
لم يقف الأطباء ولا الباحثين ومن يعملون في القطاع الطبي وجزء من الاعلام المستقل امام ما يحدث فقد شكلوا مجموعة لتبادل المعلومات الدقيقة والصحيحة ونشرها بين المواطنين خاصة وان فرنسا تشهد وضعا مقلقا بسبب الحظر الاجتماعي ونتائجه الكارثية على الاقتصاد وأصحاب المهن المغلقة محلاتهم مثل المطاعم والمقاهي والمهن الأخرى الذي أدى الى حالات انتحار وكآبة واسعة. كما قامت مجموعة من العاملين في السينما بإنتاج فلم وثائقي بعنوان “هولد آب” حول تاريخ هذه الجائحة عالميا وإدارة الحكومة التي يصفها المنتجون بالفوضى. يجمع الفلم شهادات مختلفة للأطباء من تخصصات متعددة والمختصين بالصحة وإدارة الازمات الصحية والمختبرات والبحوث وكتاب وعلماء اجتماع ٬ لكن ما ان انتشر الفلم على مواقع التواصل الاجتماعي ووصلت رؤيته الى اعداد كبيرة سرعان ما تحرك
الاعلام المهيمن لشيطنته وبدل تفنيد شهادات المختصين واعتبارها “حرية تعبير” ورأي مختص ومهني آخر او صحفي له مصداقيته بحكم عمله لكن الاعلام المهيمن بدأ يصوب سهامه حول المواقف السياسية لبعض من صنع الفلم مما لا علاقة لهذا الامر بكل الشهادات التي لم يقم أي مهني ولا مسؤول حكومي بتكذيبها او وضعها موضع شك لكنه يتجاهلها لأسباب تتعلق بمصالح شركات اجنبية ومفاضلتها على غيرها كما يقول الاطباء. بل ان الدكتور المشهور “ديديه راوولت” لم يتوانى عن الكلام عن مشكلة على مستوى عال حول ما يحدث بخصوص سوق بيع اللقاحات ما يؤخر بالتأكيد من طرحها في الأسواق لعلاج الناس.
لكن القرار المجحف الذي أصدره وزير الداخلية أخيرا وهو حل “تجمع ضد الاسلاموفوبيا” الذي يتابع معاداة الإسلام والعنصرية ضد المسلمين. هذا القرار الذي اتخذ بعد حادثة مقتل مدرس التاريخ والجغرافية ويصور على انه احدى نتائجه لا علاقة له بالحادث بل انه يأتي في برنامج قمع خطاب جمعيات مؤثرة للعرب والمسلمين نجحت في ايصال اصواتها الى خارج فرنسا ٬ في اوربا وامريكا واسيا. ليس ذلك فحسب بل ان عمل هذا التجمع الخاص بأحصاء حالات العنصرية في فرنسا ومساعدة ضحاياه قد اصبح ممنوعا التعبير عنه لان الاعلام المهيمن وادواته الصحفية في اليمين المتطرف واليمين الليكودي الصهيوني ينفون وجود أي عنصرية ويرفضون استعمال المسلمين تعبير الاسلاموفوبيا وهم يحاربوه منذ سنوات محاربة شرسة انتهت اليوم بحله. بل ان تزايد تبلور خطاب سياسي من قبل ناشطي هذه الجمعيات ووصول صوتها الى ما وراء الأطلسي والى بريطانيا وبالأخص الى بعض الجامعات في الولايات المتحدة ودعوة شخصيات مثل انجيلا ديفز المدافعة الشهيرة عن الحقوق المدنية للسود وشخصيات مرموقة أخرى للكلام عن العنصرية والاسلاموفوبيا قد ازعج هؤلاء المثقفين وسياستهم في تحجيم الوجود العربي الإسلامي وتزايد تأثيره عبر أدوات الديمقراطية الذي من شأنه منافسة وحتى انهاء خطابهم المكرر.
ان هذا اليمين الصهيوني كان وراء حملة التواقيع لثمانين مثقفا لتكميم افواه الجمعيات العربية والافريقية والتحذير والتخويف من السماح لها باللقاء في اماكن للتعبير عن افكارها وإقامة نشاطاتها. لكن نفس هذه الشخصيات الصهيونية المعادية للإسلام هي في صدارة المدعوين في الاعلام للكلام عن الإسلام وهم من ينظر للمسلمين “غير المتحضرين” طرق حياتهم وإعادة ملائمة دينهم بل انهم من يختار “الامام المثالي” الذي يطلب من المسلمين اتباعه من بين ملايين الفرنسيين المسلمين حيث يقع اختيارهم على شخص لا يمكن ان ينطق بجملة فرنسية صحيحة مهمته ان ينفذ ما تلقنه إياه شخصيات عضوه في مجلس المؤسسات اليهودية في فرنسا للكلام ضد المسلمين وفي صالح الاحتلال الصهيوني وتجميل صورته في فرنسا والإساءة واهانه الفرنسيين من أصول عربية ومسلمة . وحالما تقوم شخصيات فرنسية مرموقة بنقد لهذه الإجراءات فأنها تشيطن وتحارب وتوصف بتلقيها الأموال القطرية ويطالب بتنحيتها من المشهد العلمي والإعلامي ليكون دليلا على ان هذا الفضاء الذي يتفاخر به على انه مجال لحرية التعبير ليس بمثل هذه الوردية ولا الرومانسية. ليس هناك حرية مطلقة للتعبير في فرنسا كما يقول الرئيس ماكرون بمناسبة نشر الرسوم الكاريكاتورية للرسول بل هناك “اعلام مهيمن” سائد لا يقبل الا بما يتماشى مع الرواية الحكومية ومع ايدلوجيات حلقات يمينية وعنصرية مسموح لها بالدعوة للعنف والحقد تنشر افكارها رغم ادانتها قانونيا وتستقبل في استديوهات القنوات بشكل منتظم للتعبير عن عنصريتها وكرهها وتحريضها لطرد المستعمرين المسلمين من فرنسا رغم تجريم القانون الفرنسي لكل ذلك.
ربما عبر الصحفي المعروف ايدوي بلينل رئيس تحرير ميديا بارت في فديو قبل أيام عن حالة حرية التعبير في فرنسا حيث قال “بان الرئيس يحاول ان يصنع من حادثة قتل المدرس حادثة مشابهة لما حدث في أيلول 2001 في نيويورك” وقيام الرئيس الأمريكي بوش بإصدار قانون “آكت باتريوت” ضد الإرهاب ومع تقنيين الحريات العامة وتسهيل الاعتقالات غير القانونية. وهذا ما يحصل اليوم بإصدار قانون الأمن الشامل الذي يضيق في احدى فقراته العمل الصحفي ويربط العمل بتصريح من الشرطة ويمنع تصوير قواتها حتى في حال اعتدائها على المواطنين كما يستهدف القانون وبشكل غريب الطلاب ويجرم انتقالهم في التظاهرات بين جامعة وأخرى وهو ما تم تفسيره هنا بأن هذه القوانين هي تحضير لمستقبل ربما يكون قريبا لتفادي تظاهرات واحتجاجات واسعة.
المفارقة هي ان الرئيس ايمانويل ماكرون ردد بمناسبة حادثة القتل للمدرس نفس ما قاله بوش عن طريقة الحياة وعن إسلاميين يحسدوننا على طريقة عيشنا وعلى الديمقراطية وحرية التعبير وبعد أيام يتم التصويت على قانون الأمن الشامل. لقد خرج اكثر من خمس وعشرين الف متظاهر فرنسي يوم السبت رغم الحظر الاجتماعي رافضين هذا القانون المفصل لقمع حرية التعبير والصحافة وقضم مساحات الحريات الفردية للمواطن. ان إصدار هذا القانون تحت جائحة كورونا وفي ظل الحظر الاجتماعي يناقض تماما التمسك بمقولة حرية التعبير في فرنسا بل يجدر الكلام عن مزيد من الإشكاليات لهذه الحرية واعلاميها وصحفيها في الأعلام المهيمن الذي يملك 95% منه سبعة من ابرز أغنياء فرنسا.