لكل رئيس اميركي حربه السرية منذ هاري ترومان الذي صدر في عهده قانون الامن الاميركي، وسجل هو نفسه رقماً قياسياً بالموافقة على اجراء (2200) عملية سرية وراء الستار الحديدي (اوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي) اضافة الى عملياته الاخرى في انحاء عديدة من العالم… مروراً بايزنهاور الذي دشن عهده باقرار سيناريو عملية انقلاب في سوريا، ولكن الضباط المتورطين في العملية سلموا الوثائق الى العقيد عبد الحميد السراج رئيس المخابرات العسكرية السورية الذي كان اسمه يرهب الكثيرين في سوريا وخارجها.. حتى نيكسون وكيسنجر اللذين كانت عمليتهما رقم واحد هي تحريك حرب الاكراد في العراق.
حروب وتدخلات سرية نفذها رؤوساء اميركا عبر وكالة المخابرات المركزية ووزارة الدفاع وهيئة اركان الجيش الاميركي منذ اواخر الاربعينيات بالاعتماد على عدد من العملاء الاميركان ومواطنين محليين في انحاء العالم.
الكاتب الاميركي جون برادوس تصدى في كتابه حروب الرؤساء السرية – الذي نحن بصدد مراجعته- للكشف عن كل هذه التدخلات…
خلال الحرب العالمية الثانية لاحظ الاميركيون ان الانكليز اداروا حروبهم السرية بمهارة شديدة وحققوا الكثير من اهدافهم. وقررت الولايات المتحدة الاستفادة من التجربة والتعلم منها. وثم انشاء مكتب الخدمات الاستراتيجية الذي عرف اختصارا باسم (OSS)، وترأسه وليام دونوفان الملقب بـ (بيل المتوحش). وقد أسس دونوفان فروعاً عديدة لهذا المكتب في منطقة البحر الابيض المتوسط واوروبا والصين. وكانت مهمة رجال هذا المكتب التسلل وراء خطوط العدو وتفجير الجسور. وقد وظفوا مثلاً قبائل من بورما للتسلل وراء الخطوط اليابانية. كما قاموا بعمليات مشتركة مع المخابرات الفرنسية والبريطانية في النورماندي.
الرئيس ترومان، أمر بحل هذا المكتب في 20/ ايلول/ 1945 بعد استسلام اليابان، وكان يضم (000,12 )رجل. ونقل معظم هؤلاء الى الولايات المتحدة للعمل في وحدة الخدمات الاستراتيجية في وزارة الحرب الامريكية.
وفي كانون الثاني/ 1946، وافق ترومان على توصية هيئة رئاسة اركان الجيش بانشاء وكالة المخابرات القومية (NIA) وكانت نواة وكالة المخابرات المركزية التي تأسست عام 1947، وكذلك مجلس الامن القومي، وابدال اسم وزارة الحرب باسم وزارة الدفاع.
وهكذا ظهرت وكالة المخابرات المركزية الى حيز الوجود في 26/ تموز/ 1947 عندما وقع ترومان قانون الامن القومي.
خرجت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق من الحرب وقد تكرست زعامتهما في صدارة الدول العظمى. وكانت المواجهة الاولى بين ستالين وترومان عندما تلكأت موسكو بسحب قواتها من ايران. ولا يزال المؤرخون يتساءلون عما اذا كان ترومان قد هدد باستخدام السلاح النووي. وعلى كل حال، فقد انسحب السوفيات من ايران في مطلع عام 1946. وبعدها ارسل ترومان قوات بحرية الى البحر الابيض المتوسط اثر ورود تقارير تفيد بوجود ضغوط على تركيا لتوقيع معاهدة دفاعية مع السوفيات.
وتحرك الاميركيون لسد الفراغ الذي تركه البريطانيون في اليونان. وظهرت لاول مرة نظرية (احتواء السوفيات) التي وضعها موظف في وزارة الخارجية اسمه جورج كنيان وتبناها ترومان.
وفي حزيران/ 1947، اطلق وزير الخارجية جورج مارشال مشروعه الشهير الذي عرف باسمه كتجسيد لسياسة احتواء السوفيات في اوربا.
وتطورت الاحداث عندما قرر السوفيات تقييد حركة السفر الى برلين، ورد ترومان بالسماح لوكالة المخابرات المركزية القيام بالعمليات السرية عندما طلب من رئيسها روسكو هلينكوتر الاستعداد لحماية المصالح الاميركية في اوروبا.
الحرب السرية الاولى التي شنتها الوكالة ضد السوفيات تمت عبر قرار انشاء اذاعة اوروبا الحرة في 4/تموز/ 1950، التي كانت توجه برامجها الى شعوب الاتحاد السوفياتي. وكانت فكرة انشاء هذه الاذاعة تقوم على اساس ان نقطة الضعف في الاتحاد السوفييتي هي تركيبته الاثنية التي تضم عدداً كبيراً من القوميات والاقليات تتجاوز ال 130 قومية واقلية. كما بدأت الوكالة بتجنيد اللاجئين الوافدين من الاتحاد السوفياتي الذي اطلق عليه ونستون تشرشل تسميته الشهيرة بـ (الستار الحديدي). وقامت الوكالة باكثر من (2200) عملية في المناطق التي كان يسيطر عليها السوفيات في اوروبا.
وبعدها التفتت الوكالة الى البلقان وسواحل البلطيق، والى البانيا تحديداً. ودعمت انشاء حكومة البانية في المنفى. ولكن الانقسامات داخل المعارضة الالبانية جعلت مهمة المخابرات الامريكية صعبة. وارسلت الوكالة عدة فرق انتحارية الى داخل البانيا انتهت كلها بالفشل.
ويعترف احد خبراء وزارة الخارجية الاميركية بعبثية تصرف الوكالة في ذلك الحين، وهو جورج كامبل، ويقول: “لقد ازهقنا ارواح العديد من مواطني تلك البلدان دون مبرر. لقد زودناهم بالمال والسلاح والاوامر، ولم نحقق لهم أي شيء آخر…”.
في آسيا تحالف ترومان مع تشيان كاي شيك ودعمه عسكرياً ومخابراتياً واقتصادياً ولكن هذا لم يمنع بكين من السقوط في قبضة ماوتسي تونغ، وتكبدت الولايات المتحدة ثمناً باهظاً على هذه العمليات بلغ (2.2) مليار دولار، وهو مبلغ ضخم بمقياس ذلك الزمان. وتشير الوقائع الى انه تمت (82) عملية سرية في مناطق اخرى من العالم في عهد ترومان وحده.
وفي عام 1951، اسندت رئاسة وكالة المخابرات المركزية الى الجنرال وولتر سميث الملقب بـ(الخنفس) وعين آلان دالاس مساعداً له. ولكن سياسة ترومان لاحتواء السوفيات فشلت فشلا ذريعاً، وسقطت نظريته في الحرب الباردة مع حروبه السرية مما فتح الباب واسعاً امام انتخاب الجنرال ايزنهاور الجمهوري رئيساً للولايات المتحدة في 1952.
ورث ايزنهاور عن ترومان قضية متفجرة في ايران وكان آلان دالاس يومها قد تسلم مقدرات الـ CIA، ففي اواخر عهد ترومان قتل رئيس وزراء ايران في 19/ 2/ 1951 وخلفه الدكتور محمد مصدق الذي سرعان ما اصدر قراره بتأميم النفط. واغضب هذا القرار بريطانيا التي استنفرت قواتها البحرية والجوية. وتدخل ترومان لاقناع الانكليز بعدم استخدام القوة العسكرية لحل النزاع.
وعندما وصل ايزنهاور الى البيت الابيض كانت هذه الازمة قد بلغت ذروتها. وفشلت المساعي التي بذلها الوسطاء الاميركيون وكان من ابرزهم –افريل هاريمان وبول نيتز وفرنون وولترز. ورفض مصدق الحلول الوسط. وعرضت المخابرات البريطانية على كيرمت روزفلت ممثل الـ CIAالقيام بعملية مشتركة في ايران. ووضع كيرمت روزفلت خطة من (22) صفحة وعرضها على وزير الخارجية جون فوستر دالاس، وكانت مستوحاة من خطة بريطانية وضعها عميل المخابرات البريطانية جورج لونغ، وتحمس لهذه العملية التي تحمل اسم (اجاكس) وزير الدفاع تشارلز ويلسون بينما عارضها السفير الاميركي في طهران لوي هندرسوف.
وتوجه كيرمت روزفلت الى طهران بجواز سفر مزور وقابل الشاه ونقل اليه استعداد ايزنهاور وتشرشل لدعمه اذا اطاح بحكومة مصدق، وكان اربعة من معاوني كيرمت رزفلت قد حضّروا الاجواء بالتعاون مع عملائهم في طهران لاستخدام الجيش الايراني في العملية، وكان يضم يومها 200,000 جندي اضافة الى 50,000 من قوات الشرطة.
كان مصدق يشغل منصب وزير الدفاع اضافة الى رئاسة الوزراء. وحاول الحد من صلاحيات الشاه كقائد اعلى للجيش، وقدم مشروع قانون الى مجلس النواب ينقل هذه المهمة من الشاه الى رئيس الوزراء. ورفض المجلس الموافقة على المشروع، فاصدر مصدق قرارا بحله في تموز/ 1953 وعين مصدق قائداً جديداً للشرطة الذي اعلن انه يملك لائحة باسماء عملاء بريطانيا في ايران. وفي اليوم التالي اطلق مجهولون النار على قائد الشرطة الجديد واردوه قتيلاً.
وفي آب من تلك السنة، قرر مصدق فتح حوار مع السوفيات، وآثار هذا القرار ايزنهاور فاصدر اوامره بالمضي في عملية أجاكس. وبدأ كيرمت روزفلت التنفيذ واستخدام المال لتأجيج المظاهرات في طهران واستخدام الجنرال فضل الله زاهدي الذي تدرب على ايدي الاميركيين للسيطرة على قوات الشرطة.
كانت عملية اجاكس تقضي بصدور قرار من الشاه باقالة مصدق، وتعيين زاهدي خلفاً له. وفي هذا الوقت بالذات قرر الآن دالاس رئيس الـ CIA الذهاب في اجازة للتزلج على جبال الألب السويسرية لابعاد الشبه عنه، وتوجه الشاه مع زوجته ثريا الى مدينة رامسار على بحر قزوين بعد اصدار قراره باقالة مصدق. ومنها توجه الى ايطاليا، وانفجرت المظاهرات ضد الشاه في شوارع طهران وكانت تضم الوطنيين والشيوعيين.
وجندت المخابرات الامريكية عدة الوف للقيام بتظاهرات مضادة هاجمت منزل مصدق واحرقته، وتصدت لانصاره. وعاد الشاه من ايطاليا منتصراً وقرر ايزنهاور منح كيرمت روزفلت وساماً مكافأة له على انجازاته في ايران عام 1954. وقدرت تكاليف عملية ايران بحوالي مليون دولار مع ان كلفتها الفعلية كانت اقل من ذلك بكثير.
بعد ايران تحول النشاط السري الاميركي الى غواتيمالا والصين والشرقين الاقصى والاوسط واوروبا. وشهد عام 1956 انفجار مشكلة المجر (هنغاريا). واوفد ايزنهاور نائبه نيكسون الى فيينا لدراسة الوضع في المجر عن قرب، واستخدام اللاجئين في عمليات مضادة. ويقول وليم كولبي، ان هذه العمليات سجلت فشلا ذريعاً ادى الى الغاء هذه السياسة تجاه اوروبا الشرقية.
في الشرق الاوسط تمت العمليات السرية باشراف مباشر من الرئيس ايزنهاور، وعهد بالتنفيذ الى الاخوين دالاس – جون فوستر في الخارجية وآلان فوستر في وكالة المخابرات المركزية. وكان الاول من اكثر وزراء الخارجية الاميركيين تجولاً في انحاء العالم رغم اصابته بالسرطان. وكان شقيقه آلان صاحب شخصية حادة وفظة.
العملية الاولى استهدفت سوريا بترتيب بريطاني اميركي مشترك واطلق عليها اسم (ستراغل) وكان هدفا منع وصول حزب البعث الى الحكم، وشكل فريق اطلق عليه اسم (اوميغا) للتنفيذ. وعقد جون فوستر دالاس اجتماعاً قي 23/ ايار/ 1956 لاتخاذ القرار النهائي الذي وضعه فريق اوميغا. وطلب ويلبور ايفلاند تمضية شهرين في سوريا لتقييم الاوضاع ورصد الامور على الارض. وفي تموز توجه كيرمت روزفلت الى دولة عربية مجاورة في اطار الخطة نفسها.
وحاول البريطانيون توقيت الانقلاب في سوريا مع حملة العدوان الثلاثي على مصر التي قامت بها كل من بريطانيا وفرنسا واسرائيل. غير ان خطة الانقلاب انهارت بعد ان انسحب منها السوريونوالعراقيون الذي كانوا قد تورطوا للقيام بالعملية. وكان سبب انسحابهم هو اتهام الولايات المتحدة بانها تدعم العدوان الثلاثي على مصر.
اعيد تخطيط انقلاب آخر عام 1957 تحت اسم (عملية وابن) وتولت وحدة المخابرات المركزية في بيروت التنسيق مع عملاء المخابرات البريطانية والتعاون مع اجهزة اردنية وعراقية ولبنانية. واستعان مدير وحدة المخابرات الاميركية في دمشق برجل المخابرات المعروف هوارد ستون الملقب بـ (روكي) واستدعاه من الخرطوم وكان روكي قد عمل تحت اشراف كيرمت روزفلت خلال عملية اجاكس في ايران.
واصيبت المخططات الانقلابية في سوريا بضربة قاصمة عندما توجه الضباط المكلفون بالقيام بالعملية الى مكتب مدير المخابرات السورية العقيد عبد الحميد السراج وسلموه الاموال التي اعطاها لهم العملاء الاميركيون، وكشفوا اسمي روكي ستون وفرانك جتون، فطردا من دمشق.
ولكن مجلة تايم الاميركية زعمت في عددها الصادر بتاريخ 26/ آب/ 1957 استناداً الى مصادر الادارة الاميركية – ان العملية برمتها كانت تدبيراً دعائياً سوفياتياً.
عندما وصل نيكسون الى الرئاسة عين الدكتور هنري كيسنجر مستشاراً للامن القومي. وكانت خطوته الاولى في الشرق الاوسط تحريك قضية الاكراد في العراق.
كان شاه ايران قد عرض على مصطفى البرزاني قائد التمرد الكردي في شمال العراق، التنكر للاتفاقية التي وقعها مع الحكومة العراقية في بداية عام 1970. وطلب البرزاني من الشاه ضمانات اميركية تؤكد استمرار حصوله على المساعدات من الولايات المتحدة في حال رفض للاتفاقية. وفي ايار قام نيكسون وكيسنجر بزيارة الى ايران. وبعدها حضر جون كونالي الى طهران موفداً من نيكسون وابلغ الشاه بان الولايات المتحدة مستعدة لمساندة الاكراد، واسندت هذه المهمة الى وحدة المخابرات المركزية الاميركية في طهران وشكل فريق للاشراف على الحرب الكردية بقيادة العقيد ريتشارد كينيدي، وكان يومها مساعداً لكيسنجر. وتولى ألفرد اثرتون هذه المهمة في مجلس الامن القومي.
زودت الـ CIA الاكراد في البداية باسلحة سوفياتية بقيمة مليون دولار، ثم ارتفعت المساعدة الى خمسة ملايين ثم الى 16 مليوناً. هذا اضافة الى المساعدات التي كانت تقدمها اسرائيل من جهة والشاه من جهة اخرى الى اكراد العراق. وبلغت هذه المساعدات ذروتها في آب/ 1972، وبعد (14) شهراً ارسل العراق قوات كبيرة من الجيش لنجدة سوريا في اثناء حرب تشرين الاول 1973. ويومها اقترح الخبراء الاسرائيليون على الاكراد انتهاز فرصة انشغال الجيش العراقي على الجبهة السورية لشن هجمات كبيرة ضد الحكومة العراقية.
وافق مصطفى البرزاني ولكن البيت الابيض عارض ذلك. وفي 16/ 10/ 1973 طلب كيسنجر مدير المخابرات الاميركية ريتشارد هيلمنز توجيه امر الى الاكراد بتأجيل الهجوم، فرضخ البرزاني.
بعد 1973 وحتى 1975، تاريخ توقيع الاتفاق بين العراق وايران، تخلى الشاه عن ورقة الاكراد. وفي 10/ 3/ 1975 بعث البرزاني برسالة الى الادارة الاميركية قال فيها- “اننا نواجه خطراً داهماً ونتعرض للابادة والتدمير. ونناشد الحكومة الاميركية للتدخل وتنفيذ وعودها لنا”.
كما بعث برسالة اخرى الى كيسنجر بعد ان تولى وزارة الخارجية قال فيها – “اننا نشعر بوجود مسؤولية اخلاقية وسياسية مترتبة على الولايات المتحدة تجاه الاكراد”. ولكن كيسنجر تجاهل الرد على هذه الرسالة، ومات مصطفى البرزاني في واشنطن عام 1979.
وتبقى فصول ليست اخيرة لم يكتب عنها بعد او ربما مستقبلاً على الرغم من تناولها بشكل مبتسر حول حروب ريغان وجورج بوش الاب والابن وبيل كلنتون واوباما… فترات هي زاخرة باسرار كثيرة سيكشف النقاب عنها مستقبلاً.
• الكتاب
John Prados- The President‘s Secret wars. CIA and Pentagon covert operations since World War II through the Persian Gulf war, New York 1996.