23 ديسمبر، 2024 10:21 ص

حركة السترات الصفراء وربيع باريس

حركة السترات الصفراء وربيع باريس

“ما يدور في فرنسا وأوروبا من احتجاجات وحراك اجتماعي هو امتعاض داخلي من جرائم العولمة المتوحشة وفشل سياسة الليبرالية الاقتصادية”
لم تشهد باريس تنظيم حركة احتجاجية جذرية وشاملة من ثورة الطلاب التي حدثت سنة 1968 ودفعت إلى مراجعات فكرية كبيرة ولم تندلع حركة عصيان مدني شعبية منذ كمونة باريس والثورة الفرنسية التي عصفت بتحالف الكنيسة والنبلاء والإقطاع وسمحت بقيام نظام جمهوري تخللته فترات من الحكم الفردي.

يبدو أن حركة السترات الصفراء التي انطلقت في الأسبوع الخير من شهر نوفمبر وتواصلت إلى الأسبوع الأول من شهر ديسمبر 2018 هي حركة مواطنية رافضة للتوجهات الليبرالية والسياسة المالية التي تدور حول إصلاح اقتصاد السوق ومواصلة نهج العولمة الشاملة في شكل تبعية أوروبية للعالم الأمريكي الحر.

مقاومة تأثيرات الامبريالية في الثقافة والاقتصاد والسياسة والاجتماع جاءت من عمق المجتمع الباريسي وفي الأوساط الشعبية وضمن الشرائح الاجتماعية التي تتعرض للازدراء والتفقير التدريجي وبرزت في شكل امتعاض من ارتفاع الضرائب وغلاء الأسعار وتدهور المقدرة الشرائية للعائلات وتراجع الدخل الفردي وتخلي الدولة عن دورها الاجتماعي على مستوى الصحة والتعليم والدعم في المجالات الحيوية.

الطابع الأفقي للحركة الاحتجاجية ذات المصدر الجماهيري دفع الكثير من المهمشين واللاجئين والمثقفين والمناضلين للالتحاق بها والمشاركة العضوية فيها والسعي نحو تضمين مطالبهم الإنسانية والاجتماعية فيها والتأثير في مساراتها نحو الانعطاف من مجرد سوء تفاهم اجتماعي بين شريحة من الشعب والسلطة إلى تجاذب حول إدارة الشأن العمومي بين تصورات لبيرالية يمينية حاكمة وتصورات جذرية معارضة.

لقد قامت حركة القبعات الصفراء بتنظيم نفسها ذاتيا وتبني استراتيجية مناهضة للشجع الرأسمالي ودافعة في اتجاه التقليل من الضرائب وإعادة مهمة العناية التي تؤديها مؤسسات الدولة وأجهزة الحكم للمواطنين.

لقد بدت تظهر في الشارع الباريسي بعض التوقعات التي أوجدها فلاسفة ومؤرخون ونقاد وكتاب حول نهاية الحضارة الغربية وأزمة الثقافة وانغلاق العالم السياسي وفشل المنوال الإقتصادي للرأسمالية العالمية والمسارعة بإنتاج بديل تنموي كوني أكثر عدالة ومساواة ويعزز السلم والتعاون والصداقة بين الشعوب.

لقد طورت الطبقة العاملة في فرنسا من أشكالها النضالية وأعادت تشغيل أدبياتها الاحتجاجية التي حدثت في الماضي واستأنفت الحلم الذي راود الأجيال من المقاومين بزوال ديانة رأسمال واندحار الامبريالية.

ربما تكون العدوى قد أصابت المدن الأوروبية من الربيع العربي الذي كانت شرارته قد انطلقت منذ شتاء 2010 بتونس وقد تكون العناصر الشرقية المشاركة في التظاهرات وتشابه بعض الشعارات المرفوعة والجداريات المكتوبة أثناء الحراك الساخط دليل على تمثل النموذج التونسي في العصيان المدني وتحويل المطالب الاجتماعية إلى مطالب سياسية والضغط على الحكومات وتحويل الشارع الى مصدر لصناعة القرار بدل البرلمان وربما براعة استعمال الوسائط قد جعلها قوة تعبئة تفوق قدرة السلطة على التصدي.

فإلى أين تتجه الأحداث في باريس في ظل انتقالها إلى عواصم مجاورة على غرار بلجيكيا وهولندا وايطاليا؟ وهل يؤدي التصعيد باستعمال القوة وإعلان حالة الطوارئ لتزداد وتيرة العنف وسقوط الضحايا وتأزم الوضع؟ والى أي مدى يجوز الحديث عن حركة مواطنية تحوز على برنامج اقتصادي مضاد تسمى “حركة السترات الصفراء” وتسعى نحو صناعة ربيع باريس أولا ومن أجل قيام مجد أوروبا الموحدة ثانية ضد نزعات التفكيك والتجزئة وتناضل قصد الخروج الجمود القاري والانعتاق من الهيمنة الامبراطورية ؟